ورغم عمق هذه الأزمة وحدتها فإن اغلب المحاولات والسياسات الاقتصادية التي تم إتباعها في السنوات الأخيرة لم تتمكن من تطويقها والتخفيف على الأقل من حدتها .وقد انعكس هذا العجز على الوضع العام وأصبح الوضع الاقتصادي والمالي الشغل الشاغل لأغلب المواطنين بسبب استطلاعات الرأي وكان أحد أسباب عودة منسوب التشاؤم للارتفاع بهد تراجعه بصفة كبيرة في الأشهر الأخيرة .
والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم يهم أسباب هذا الفشل أو على الأقل العجز عن إنقاذ الاقتصاد والقيام بالإجراءات الضرورية لإعادة بناء التوازنات الكبرى وحماية الاقتصاد من الانهيار.كما ان هذا التساؤل يهم الإصلاحات الاقتصادية الكبرى وعجزنا عن القيام بها وبتطبيقها رغم من التزام كل الحكومات المتعاقبة بتنفيذها وجعلها في أولويات اختياراتها الاقتصادية والاتفاقيات التي أبرمتها مع المؤسسات الدولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي .
هكذا طغى العجز والفشل على الاختيارات الاقتصادية الكبرى في التعاطي مع أزماتنا المتعددة أو بصفة أدق الأزمات الثلاث الكبرى التي تعاني منها بلادنا وهي الأزمة الهيكلية والتي بدأت في بداية الألفية مع تآكل نمط التنمية الموروث منذ بداية سبعينات القرن الماضي وأزمة انخرام التوازنات الكبرى اثر الثورة والناتجة عن تنامي مصاريفنا دون ان نكون قادرين على تغطيتها والأزمة الظرفية الناتجة على جائحة الكورونا والتأخير الكبير الذي عرفته بلادنا وسياساتنا العمومية في إيقاف آثارها.
لم تكن اختياراتنا الاقتصادية وسياستنا العمومية في هذا المجال قادرة على إيقاف الانخرام وفتح آفاق جديدة للتحول الاقتصادي. وقد زادت الأزمة السياسية من عمق وحدة الوضع المالي والاقتصادي .
هذا العجز والفشل يدفعنا للمرور في الخطاب العام من الحديث عن الأزمة الاقتصادية والمالية إلى مسالة أهم وأعمق هي أزمة الخطاب والسياسات الاقتصادية.
وفي رأيي فإن الأسباب الحقيقية والدفينة لأزمة السياسات العمومية في المجال الاقتصادي تعود إلى هيمنة تصور أحادي الجانب للوضع الاقتصادي والمالي للسياسات العمومية يختزلها في التوازنات المالية الكبرى ويتناسى بالتالي عمقها الاجتماعي وبعدها السياسي .فالاقتصاد كما اشرنا لذلك في عديد المناسبات والسياسات الاقتصادية ليست اختيارات تقنية تهدف إلى إعادة بناء التوازنات المالية بل هي توجهات تمس عمق العقد الاجتماعي .
• في المرض الطفولي للاقتصاد في الديمقراطيات الناشئة
يرتبط النقاش الاقتصادي ارتباطا وثيقا بطبيعة المجتمعات وبصفة خاصة بنظامها السياسي .فالأنظمة القوية أو الاستبدادية تضع قواعد خاصة للنظام الاقتصادي وخاصة للحوار العام في هذه القضايا الاقتصادية ولضبط السياسات الاقتصادية .ويمكن أن نشير إلى ثلاث مسائل أساسية وخصائص تضبط الوسائل الاقتصادي في هذه الأنظمة .الخاصة الأولى الطابع التقني للحوار الاقتصادي والذي يقتصر على بعض الالتزامات التقنية والمالية .والتالي تنفي على هذه المسائل جانبها السياسي والاستراتيجي لتختزلها في بعض التجارب التقية وهندستها المالية.
الخاصية الثانية للحوار الاقتصادي في الأنظمة القوية جانبها الأفقي والمركزي.فالتوجهات الاقتصادية يقع ضبطها من أعلى هرم السلطة ويقتصر دور المؤسسات الاقتصادية للدولة والأجسام الوسيطة على تطبيقها وانجازها دون الخوص في كنه هذه التوجهات وأسسها السيادية وانعكاساتها الاجتماعية .
أما الخاصية الثالثة لهذا الحوار وللمشروع الاقتصادي فتهم شح المعطيات والأرقام والتي يصبح التعامل معها صعبا ومعقدا، وشحة المعطيات وقلتها وصعوبة الحصول عليها مما يجعل الحوار وضبط السياسات الاقتصادية يفتقد الى جانبه العلمي وخاصة إلى الأهداف الدقيقة التي تسعى مؤسسات الدولة إلى الوصول إليها من خلال سياساتها واختياراتها الكبرى .
وتختلف خصوصيات الحوار الاقتصادي ومسار ضبط السياسات العمومية في البلدان والأنظمة السياسية الديمقراطية بطريقة راديكالية.ففي الأنظمة لا يتوقف الحوار الاقتصادي على جانبه التقني بل يمتد إلى المسائل السياسية والإستراتيجية.فتصبح السياسات العمومية أداة لتحقيق رؤى وتصورات سيضبطها الناخبون في فترات الانتخابات .
أما الخاصية الثانية لهذا النقاش ولهذه الاختيارات في المجتمعات الديمقراطية فهي طابعها التشاركي حيث تفتح مؤسسات الدولة مجالات النقاش والحوار على مستوى واسع من اجل تجميع وبناء توافقات سياسية واجتماعية كبرى تضمن لها ظروف النجاح عند تطبيقها .
وتهم الخاصية الثالثة للحوار الاقتصادي في هذه المجتمعات الشفافية الكبرى التي تهم الأرقام والمعطيات. فتقوم مراكز الإحصاء بدور كبير في نشر الأرقام وتقديمها في شكل مبسط حتى تساعد في عملية الصياغة والتفكير الجماعية لصياغة التوجهات الكبرى للسياسات العمومية والأهداف المرقمة التي تسعى للوصول إليها .
ولعل المآزق التي تعرفها المجتمعات والأنظمة السياسية التي تعيش تجارب تحول ديمقراطي تهم صعوبة تطوير خاصيات الحوار الاقتصادي ومسار ضبط السياسات العمومية والخروج والقطع مع الإرث الاستبدادي وضبط قواعد جديدة تساعد التجربة الديمقراطية وتساهم في تدعيمها .وتكمن صعوبة عجز السياسات الاقتصادية في هيمنة الخصوصيات القديمة وعدم قدرتنا على اعطاء هذا المسار طابعه الاستراتيجي والاجتماعي وتطوير المشاركة والشفافية الضروريان لضبط رؤى وتصورات جديدة وفتح آفاق أرحب لعملية الإنقاذ الاقتصادي والإصلاح.
• في هيمنة الرؤى التقليدية والمحافظة للإنقاذ والإصلاح
لقد ساهم انغلاق الحوار الاقتصادي في هيمنة الرؤى التقليدية والمحافظة للإنقاذ والإصلاح. وقد ساهمت هذه الرؤى في جانب كبير في عجز السياسات الاقتصادية وعدم قدرتها على فتح آفاق جديدة لنمط التنمية وحماية توازناتنا المالية الكبرى وبشكل اكبر في بؤس الخطاب الاقتصادي في بلادنا .
وقد شهد الخطاب الاقتصادي في بلادنا في السنوات الأخيرة هيمنة تصورين أو توافقين كبيرين ،التوافق الأول هو وريث المدرسة المحافظة والتقليدية والتي تسعى إلى مواصلة السياسات القديمة التي تعطي الأهمية الأساسية للتوازنات المالية الكبرى وتجعل منها أساس الإنقاذ والإصلاح الاقتصادي .وقد ساهمت المؤسسات الدولية في الترويج وتدعيم هذه السياسات. وقد اثبت هذه السياسات عجزها في عديد البلدان وعدم قدرتها على دفع التنمية وعلى إعادة بناء التوازنات الكبرى .وقد شكلت هذه التوجهات الكبرى جوهر السياسات الاقتصادية التي تم اتباعها في بلادنا في السنوات الأخيرة .ولم يدفعنا عجز هذه السياسات إلى مساءلتها واخذ مسافة نقدية منها ومحاولة التفكير في سياسات بديلة تكون أكثر تلاؤما لرفع التحديات الكبيرة التي تعيشها وتجهل من الالتقاء الجانب المالي والاجتماعي هدفها الاساسي .
أما التوافق الاقتصادي الثاني الذي عرف تطورا كبيرا في الخطاب والنقاش العام في بلادنا في السنوات الأخيرة فهو الخطاب المعادي للعولمة والرافض لكل الاختيارات الاقتصادية لليبرالية ولسياسيات التقشف التي تسعى المؤسسات الدولية إلى فرضها على بلادنا .وقد شهد هذا الخطاب تطورا كبيرا مع تنامي النضالات الاجتماعية لا فقط في بلادنا بل كذلك على المستوى العالمي .ويحمل هذا الخطاب شحنة نقدية كبيرة للسياسات الاقتصادية السائدة .إلا انه لم ينجح في تحويل هذا النقد إلى سياسات بديلة وجدية وواقعية .وقد تحولت اغلب القوى السياسية التي تدافع عن هذا الخطاب إلى تطبيق السياسة الليبرالية التي كانت تنقدها في السابق عند وصولها إلى السلطة.
وقد ساهمت هيمنة هذين التصورين والرؤيتين الاقتصاد ولسياسات الإنقاذ والإصلاح في عجز سياساتنا العمومية على مدار العشرية الفائتة وعدم قدرتها على إيجاد الأجوبة الضرورية للخروج من أزماتنا الاقتصادية .
• نحو بدائل أخرى للإنقاذ والإصلاح الاقتصادي
إن عمق وحدة الوضع المالي والاقتصادي الذي تعيشه بلادنا يتطلب صياغة بدائل وسياسات مختلفة قادرة على فتح آفاق جديدة للتنمية في بلادنا وللتحول الاقتصادي .وهذه البدائل تتطلب تغييرا جذريا في الممارسة الاقتصادية تعطيها جوهرا السياسي والاستراتيجي وتفسح مجال المشاركة والحوار والشفافية.
كما أنه لابد لهذه البدائل أن تقطع مع الرؤيتين المهيمنتين على الحوار الاقتصادي من خلال ضبط تصور مختلف يربط بين التوازنات المالية الكبرى والتحولات الهيكلية لبناء نمط التنمية جديد إلى جانب نهاية التهميش الاجتماعي والجهوي .
تساهم هذه البدائل في بناء عقد اجتماعي جديد يفتح آفاق جديدة لتجربتنا السياسي الجمعية.
من أجل رؤية بديلة للإنقاذ والإصلاح الاقتصادي
- بقلم حكيم بن حمودة
- 11:21 20/12/2021
- 1297 عدد المشاهدات
لا يختلف اثنان اليوم في أن بلادنا تعيش أزمة اقتصادية ومالية خانقة لم نعرف مثل حدتها في تاريخينا الحديث.