عرفت الساحة الثقافية في السنوات الاخيرة ظهور جيل جديد من الناشطين والمبدعين الذين زرعوا بذور التمرد والعصيان على الآليات والأنطمة القديمة للعمل الثقافي في بلادنا .وبدل أنماط الإنتاج التقليدي التي تتطلب أموالا ضخمة والتي لعبت دورا كبيرا في الإنتاج الثقافي فقد ادخل هدا الجيل الجديد أنماطا جديدة في الإنتاج السينمائي والنشر والإبداع الفني ساهمت في تطوير المشهد الثقافي وتنوعه في السنوات الأخيرة .
ومن ضمن هده الاسماء الجديدة نجد المخرج السينمائي عبد الحميد بوشناق وفناني الراب ومن ضمنهم بندرمان والكثير من الفنانين الشبان المبدعين في الساحة الثقافية .
ومن ضمن هذا الجيل اخترنا التوقف عند ناشطة ثقافية علا كعبها في السنوات الأخيرة وأصبح عندها حضور يزعج البعض لكنه يملأ شباب الجيل الجديد أملا وإيمانا بدور الكتاب والكلمة والفكر في مجتمعنا وهذه الناشطة هي زينب بن عثمان صاحبة دار النشر «نحن» والي ستحتفل قريبا بعيد ميلادها الخامس. زينب هي ابنة الكاتب والمفكر المشاكس حسن بن عثمان .والحديث مع زينب ذو شجون واخاذ ولكنه يشير إلى مسيرة متمردة ومستعصية في علاقة متينة وحميمية بصورة الأب في بعض الأحيان بكثير من الحب والعشق والرفض والثورة في أحيان أخرى.
• البدايات ومحاولات الهروب من سطوة الأب
ولدت زينب بن عثمان في عائلة مثقفة حيث أن الأب كاتب وصحفي ومنتج ومنشط برامج تلفزية وإذاعية. وقد ساهمت هذه البيئة العائلية في انفتاح زينب على عالم الفكر والأدب حيث تعرفت على شخصيات ثقافية هامة وفاعلة في المجال الثقافي ومنها الشاعران محمد الصغير أولاد احمد والمنصف المزغني وآمال مختار والمفكرة والجامعية رجاء بن سلامة.
إلا أن معرفتها بهذا المجال جعلت زينب بن عثمان تعمل على الهروب منه .فقد خيرت الظروف المعيشية الصعبة والصعوبات الأخرى التي تصاحب هذا المجال كغياب الحرية وضعف الإمكانيات المخصصة للمبدعين والفنانين .
وقد اتجهت في مسارها الدراسي زينب بن عثمان إلى المجال الأدبي حيث اكتشفت أن لها موهبة في الكتابة. إلا أنها من جديد حاولت الهروب من هذا الهوس بالأدب لتبعد عن عالم الوالد وأصدقائه المبدعين. وستكون الرياضة ملجأها حيث اتجهت إلى ألعاب القوى حيث سجلت أرقاما ونتاج مهمة فتحت لها باب الفريق الوطني لتصبح في فترة قصير إحدى بطلات بلادنا في هذا المجال. فوضعت كل جهدها وكل طاقاها في المجال الرياضي حيث تحصلت على 17 ميدالية في مختلف المسابقات الرياضية التي شاركت فيها.
وقد اعتقدت زينب بن عثمان بعض الوقت انها انصرفت نهائيا عن عالم الادب ومشاكساته الفكرية والأدبية .وحاولت اثر حصولها على الباكالوريا التوجه إلى المعهد الأعلى للرياضة بقصر السعيد .
إلا أنها من حيث لا تعلم عادت إلى هذا العالم الذي ترفضه وفي نفس الوقت تعشقه .فبتأثير من عمها الرسام ستتجه زينب بن عثمان الى معهد الفنون الجميلة في دراستها الجامعية حيث اختارت التخصص في تصميم الصور (design image).
وقد فتحت هذه الدراسة من حيث لا تعلم باب المصالحة مع الوالد وعالمه الفكري .فقد اختارت في مشروع التخصص في نهاية دراستها الجامعية مجالا قريبا من عمله حيث كان وقتها مدير مجلة للحياة الثقافية .وكان مشروعها إصدار مجلة نقدية فكاهية اسمتها «ربيشة» بمشاركة الكثير من الصحافيين والرسامين إلا انه ورغم أهمية هذا العمل وطرائفه فانه لم ينل إعجابا كبيرا من الهيئة التي خيرت ان تهتم الطالبة بمشروع تقليدي كتطوير صورة منتوج صناعي أو تجاري .
إلا أن هذا التلقي لم يمنع زينب بن عثمان من مواصلة دراستها في هذا المجال حيث ستواصل دراستها في الماجستير في تصميم الصورة وستمكنها هذه التجربة من تعميق تكوينها في فسلفة الصورة والثقافة الفنية عل يد أساتذة كبار مثل حمادي بوعبيد والناصر بالشيخ وانصاف خالد.
وقبل نهاية الدراسة دخلت زينب بن عثمان مجال العمل حيث بدأت في القيام بأعمال في مختلف مجالات الإشهار والتصوير العائلي الفوتوغرافي والسينمائي وحتى مجال الموضة حيث كان حلمها بعث علامة أو ماركة تجارية في مجال الملابس الجاهزة.
إلا أن سطوة وحضور هذا الأب الذي حاولت الهروب والتخلص منها عادت للتحليق لتدفع زينب إلى العودة إلى مجال الفكر والأدب والفن.
• النشر وبداية المصالحة مع صورة الأب وعالمه
في تلك الأيام وحيث كانت زينب تسعى لبعث علامتها للملابس الجاهزة ويعود الأب ليطلب منها قراءة كتابه الجديد «تونس السكرانة». وقد جاء هذا الطلب والحاح الأب لان زينب بدأت في بعض تجارب النشر مع مجلة اسمها «Edwige magazine».
ولم يمنع الصد والرفض الذي لقيه حسن بن عثمان من قبل ابنته مواصلة الإلحاح إلى أن قبل الفكرة واستجابت لطلبه لتفتح دار «نحن» بثلاثة آلاف دينار أعطاها لها على وجه السلفلة. وسيكون «تونس السكرانة» أول كتاب لدار نشر «نحن».
وقد انطلقت بنت 27 ربيعا في هذه التجربة الجميلة لتكتشف المطابع والمكتبات ومسالك التوزيع ولتعيش صعوبات هذا المجال وتحدياته. كما عرفت رفض عديد الفاعلين في القطاع لدخول تجارب جديدة وخاصة من الشباب.الا انه إلى جانب إرادتها القوية وعزيمتها على النجاح لقيت الكثير من الدعم من ناشرين اخرين نذكر منهم النوري عبيد صاحب دار محمد علي والتنوير ودار سيراس والمنصف الشابي صاحب دار نقوش عربية ومكتبة الكتاب والدار التونسية للكتاب. الا ان الفضل الكبير لمواصلة التجربة يعود حسب زينب بن عثمان الى الجمهور العريض وخاصة الشباب الذين تلقوا النفس الجديد الذي مثلته دار «نحن» بكل تلقائية وبدعم كبير .
وقد ساهم كتاب «تونس السكرانة» لحسن بن عثمان الذي صدر سنة 2017 في التعريف بالتجربة الناشئة. وكان مرروها على قناة الحوار التونسي الى جانب الكاتب حدثا مميزا ثم جاء معرض الكتاب حيث كان هذا الكتاب من الكتب التي جلبت الاهتمام لتطبع منه ثلاث طبعات نفذت في وقت قصير .
ومن هنا انطلقت التجربة وستصبح دار «نحن» لاعبا مهما في الساحة الثقافية في مجال النشر. وبعد نشر كتاب ايمن حسن تحت عنوان «suis-je la révolution» هل انا الثورة نشرت دار «نحن» لعديد الكتاب المرموقين والباحثين الكبار مثل نورالدين كريديس عميد جامعة 9 افريل الذي أصدر رواية «الرحيل» ومجموعة قصصية بعنوان «أول طائر الى تونس» وكتاب حسن بن عثمان الجديد «بن بريك قاطع الطريق» سنة 2019 والذي لقي نجاحا كبيرا والناقد خميس الخياطي بعنوان «العين بصيرة» ومحمد علي الحباشي تحت عنوان «حركات المعارضة والمحاكمات السياسية» في ثلاثة أجزاء.
وقد أصدرت الدار في اقل من خمس سنوات أكثر من 100 عنوان لتصبح ظاهرة مهمة في مجال النشر في بلادنا وليمر توزيعها من خمس مكتبات طفي البداية الى اكثر من 50 مكتبة اليوم .لكن ما اسرار نجاح دار نحن في القوت الذي يشهد فيه القطاع أزمة خانقة وتراجعا كبيرا .
• مكونات الثورة في مجال النشر حسب «نحن»
في الوقت الذي تعاني فيه دور النشر والكتاب بصف عامة الأمرين من اجل البقاء ومواصلة نشاطها امام الصعوبات الاقتصادية والمالية وتراجع الاقبال على الكتاب الورقي فإن زينب بن عثمان لم تبق مكتوفة الايدي أو في وضع التباكي على غياب الدعم الذي لم تتحصل عليه سنة 2021 رغم من اصدار 33 عنوانا فقد قررت رفع التحدي من خلال إستراتيجية تعتمد في رايي على خمسة عناصر أساسية:
العنصر الأول الذي ساهم في إشعاع دار «نحن» هو خطها التحريري فالي جانب الكتاب المرموقين الذين نشرت لهم فقد اتجهت أساسا الى الكتاب والشباب ومكنت العديد منهم من دخول عالم النشر لاول مرة ومن ضمن هؤلاء الكتاب نذكر أماني بن علي، ياسمين العماري ومحمد علي بوعلاق وفهد الدسوي ومنجية الجلاصي واحمد ساسي .
لكن هذا الخيال الشبابي في الخط التحريري لم يقتصر على الكتاب الباب بل اتجه كذلك الى اهتماماتهم . فقد قامت زينب بن عثمان بدراسة مجالات قراءة الشباب واهتماماتهم الفكرية والأدبية. وقد بينت هذه الدراسة ان هذه الاهتمامات ترتكز على مواضيع ونوعيات أدبية معينة وهي الخيال العلمي والخواطر الفكرية والثقافية والتنمية الذاتية والممنوعات في الثقافة العربية والإسلامية والجنس والدين والحب.
وقد لقي هذا الخط التحريري نجاحا كبيرا عند الشباب ودفع الكثيرين منهم للعودة للقراءة .وعرفت بعض كتب الدار نجاحا لا مثيل له في أرقام المبيعات مثل الفلسطيني معاذ جهاد والذي نشرت له كتاب «ابنة الشيطان» والذي باعت منه 11 الف نسخة في ثلاثة أشهر عند صدروه سنة 2017 الى جانب منجية الجلاصي في كتابها «فن التوازن» و«رحلة عشق» كذلك الكاتب احمد ساسي والذي اصبح مشهورا عند الشباب اثر صدور كتابه «انهيار» و«ولادة الشيطان انسان» وفهد الدسوري في كتابه «انهيار».
ولعل اهم التجارب التحريرية التي خاضتها في عديد المناسبات ومن اهمها تجربة كتاب «امرايا» والذي صدر سنة 2019 عن فكرة لمي الاموي كتاب جماعي ساهمت فيه 54 امرأة بجملة من الخواطر والقصص القصيرة بالعربية والفصحى والدراجة والفرنسية.والى حد الان ورغم أهميته لم تشتر وزارة الثقافة نسخا منها. وقد اعطى هذا الكتاب نظرة سوداوية لواقع المراة والذي ورغم التشريعات والقوانين لم يمنع العنف ضد المرأة والتهميش. وقد شاركت في هذا الكتاب عديد الوجوه المعروفة مثلا أيقونة الثورة التونسية لينا بن مهنى وآمال مختار وليلى بالحاج عمر وخديجة المسعودي.اما التجربة الثانية للكتاب الجماعي فهي كتاب «رشمة» والذي صدر سنة 2020 لفكرة سوارالمشري.وهو في شكل مساهمات في كل خاطرة شعر او سلام لـ74 مبدع تونسي من مختلف الاعمار والجهات لرسم شيء من أنفسهم .
إلى جانب الخط التحريري فان الحرفية هي كذلك عنصر من عناصر نجاح واشعاع دار «نحن» فقد سعت زينب بن عثمان لتكوين لجان مختص لاختيار النصوص القابلة للنشر والقراءة والمراجعة والتدقيق مما ساهم في دعم مصداقية الدار.
العامل الثالث الذي ساهم في اشعاع دار نحن» يعود الى الاعتماد والعامل الكبير الذي تقوم به للتعريف بإصداراتها على قنوات التواصل الاجتماعي والمجال الرقمي مما ساهم في دعم حضوها عند الشباب.
العامل الرابع الذي لعب دورا في نجاح الدار يهم الجمالية التي اصحب ادراتها من الغلاف الى داخل الكتاب . وتسهر بن عثمان وهي مختصة في الصورة على هذا الجانب بصفة شخصية.
أما الجانب الخامس والهام في هذه التجربة فهو اختيار تطويرها لمسالك توزيع جديدة تعتمد على التقيبات الحديثة .وقد ساهمت الجائحة والحجر الصحي الذي عرفناه في تطو ر هذه السياسية الجديدة في مجال توزيع الكتاب .وقد انطلقت هذه التجربة بتنظيم أول معرض افتراضي سنة 2020 على صفحة دار «نحن» وقد عرفت هذه التجربة نجاحا كبيرا مما دفع الدار الى بعث صفحة جديد اسمها «تاكسي بوك» taxi book نظمت الدار عرضا افتراضيا جديدا مفتوحا لكل دور النشر التونسية.
كما تستعد الدار لإطلاق أول مغازة افتراضية اسمها stock book عنوانه «webook» وسيتم استعمال البطاقات البنكية للدفع .
يعرف قطاع النشر ككل القطاعات الثقافية الاخرى في بلادنا صعوبات كبيرة من بينها عدم الشفافية في الشراءات وغياب الجدية والحرفية في تعامل وزارة الثقافة مع الناشرين وظهور بعض مظاهر الفساد فان تجربة زيب بن عثمان ودار النشر «نحن» وكل الجيل الجديد من المبدعين والناشطين الثقافيين الشباب اعلنوا التمرد على الاشكال والأنماط الثقافية السائد والبالي من اجل إعادة بناء حلم العالم الأجمل .
وجوه من الإبداع (32): زينــب بن عثمــان الناشرة المتمردة
- بقلم حكيم بن حمودة
- 09:54 06/12/2021
- 1149 عدد المشاهدات
إلى جانب المبدعين المخضرمين الناشطين قي المجال الثقافي والذين أعطتهم الثورة حرية التي فتحت أمامهم مجالات جديدة للعمل