«موازييك أف أم» يوم الأحد 21 نوفمبر 2021 خلال برنامج «جاوب حمزة» مكتفيًا بذاته لا يحتاج إلى توضيح أو تفسير إضافيّين نظرا إلى أنّ ما قدّمه الضيف في تلك الحصّة كان مباشِرا وواضحا ودقيقًا على الأقلّ بالنسبة إلى من لا يريد أن يفهم إلاّ ما هو في ذهنه فقط أو يبحث له عن مستندات وحجج ويغمض عينيه عمّا يخالفه. ولكنّي وجدت نفسي مضطرّا للكتابة عن ذلك الحوار ومحتواه لعدّة أسباب من ضمنها ما هو ذاتيّ بحكم علاقتي الوطيدة بمحمّد الشريف فرجاني وهو ما أتاح لي فرصة الحديث معه مطوّلا وفي مناسبات متعدّدة حول ما أدلى به قبل الحوار وبعده، وقراءة ما كتب حول الوضع في تونس والنقاش حوله ممّا يجعلني أزعم أنّي على دراية بما يدعو إليه وبمواقفه الّتي يدافع عنها بكلّ صدق وبعيدا عن كلّ طمع أو انحياز لجهة بعينها سوى انحيازه إلى مبادئه الّتي آمن ويؤمن بها دون حسابات ودفع من أجلها الكثير وجزء لا يُعوّض من شبابه وحياته. ولكن ما دعاني بالخصوص إلى الكتابة هو ما لاحظته من تدوينات وتعليقات تسارعت مباشرة إثر بث الحوار اختزلته بشكل مخلّ جدّا في إحدى نقاطه سواء تعلّق الأمر بما لمسه المستمع/ة مرتبطا به شخصيّا بحكم تجربة سياسيّة سابقة، أو اعتبره استهدافا لتوجّهه الإيديولوجي أو السياسي أو الفكري، أو وجد في الحوار ما يُهاجم به خصمه السياسي. وفي كلّ الحالات يصبح مثل هذا التلقّي للحوار ضربا من ضروب التجنّي على مضمونه في مجمله، ويغدو نوعا من أنواع أخذ الكلّ بالجزء.
وهنا فإنّي لاحظت نوعا من «التململ» لدى بعض الشخصيّات الّتي لا يمكنني التشكيك في صدقها أو إيمانها بالديمقراطيّة وحقوق الإنسان وقيم الحداثة ولكنّها بسبب انخراطها سياسيّا مع الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي الّذي نقد فرجاني سياسته فيما يسمّى «التوافق» رأت في ذلك النقد الّذي كان شديدا ما هو مجانب «للواقع وخفايا الأمور». ولاحظتُ إلى جانب ذلك انزعاجا من طرف المنتمين إلى اليسار بالخصوص وقد وجّه إليه فرجاني، وهو اليساريّ بامتياز، النقد نظرا إلى جملة من مواقفه السياسيّة وتعامله مع الأوضاع طيلة العشريّة الأخيرة وخصوصا بعد 25 جويلية 2021. وطبعا لا أراني مجبرا على الحديث عن مواقف الإسلاميّين من ناحية والموالين بالكليّة ودون بُعد نقديّ أو تنسيبيّ لقرارات الرئيس قيس سعيّد من ناحية أخرى، فما يقدّمه محمّد الشريف فرجاني لا يمكن بحال أن يجدوا فيه مطلقا ما يُرضيهم.
غير أنّ ما لفت نظري أكثر من أيّ شيء آخر في ما يتعلّق بردود الأفعال هو ذلك التركيز على جزئيّة لا يمكن إنكار أهمّيتها في عمليّة محاولة الفهم والتحليل السياسيّين ولكن تمّ التركيز عليها بشكل لافت للنظر، وهو تركيز لا أراه مبرّرا إلاّ بالبحث «غير البريء» عمّا به يمكن معارضة قرارات رئيس الجمهوريّة ممّا يهمل الكثير من النقاط المهمّة جدّا في الحوار ويتغاضى عن عمقه بل وأكاد أقول ما يصلح أن يكون أسّا للتفكير والخروج من المآزق الّتي تعيشها البلاد اليوم باعتماد سُبل مختلفة عمّا يروج في الساحة السياسيّة والإعلاميّة من مواقف أغلبها ضدّيّة تقوم على ثنائيّة «مع» أو «ضدّ». وتلك الجزئيّة المشار إليها تتلخّص في فرضيّة في الحقيقة وضَعَها محمّد الشريف فرجاني في شكل تساؤل لم يجزم مطلقا الإجابة عنه وكان ذلك في مقال له منشور منذ 26 نوفمبر 2019، أي منذ سنتين الآن تحت عنوان: «هل إنّ قيس سعيّد يستلهم مقولات المختصّ في القانون الدستوري ومنظّر الثورة المحافظة كارل شميت؟». وعلى الرغم من ورود المقال تحت هذا السؤال الّذي لا أراه جازما بالإجابة بل هو فرضيّة فإنّ آراء أخرى تذهب إلى عكس ذلك من قبيل ما ذهب إليه وقتها الصديق المشترك، بيني وبين محمّد الشريف فرجاني، مصطفى علوي تعليقا على المقال من أنّه جزم بالاستلهام في مقال صدر في 10 ديسمبر 2019 تحت عنوان «محمّد الشريف فرجاني وقيس سعيّد وكارل شميت: حول فرضيّة الثورة المحافظة على الطريقة النازيّة في تونس»، لتأتي بعد مدّة طويلة مقالات أخرى تؤكّد هذا التقارب وتلحّ عليه بكثير من الإطلاقيّة دون أيّ نوع من أنواع التنسيب أو الافتراض، أو حتّى مجرّد الإشارة إلى ما كتبه فرجاني والعلوي من قبيل ما نشره وليد العربي في جريدة «المغرب» بتاريخ 24 فيفري 2021 تحت عنوان «قيس سعيّد أو مقولة كارل شميت حول الزعيم الفوهرر الّذي يحمي القانون»، وهناك مقالات أخرى كثيرة تشير إلى ذلك وسيطول الأمر بالتعرّض لذكرها. والمهمّ في كلّ هذا ما رأيته من انزياح كلّي عن فرضيّة فرجاني من جهة استعمالها في معارضة قيس سعيّد بربط كارل شميت بالتنظير للنازيّة، وهو استعمال أقدّر أنّه فجّ ولا يريد سماع إلاّ ما هو في ذهنه مسبقا. فمن استمع إلى حوار محمّد الشريف فرجاني كان بإمكانه ملاحظة المقاربة بوضوح في نقطتين على الأقلّ وهما أوّلا الاشتراك في الاختصاص في القانون الدستوري والنظرة إليه، وثانيا الإلحاح على أنّ المقاربة تعتمد على بيان أنّ للثورة المحافظة تعبيرات متعدّدة وهي ليست محصورة في النازية بل تتعدّى ذلك إلى تعبيرات عديدة من ضمنها التعبيرات الدينيّة من قبيل ما يوجد لدى المحافظين الجدد في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، أو ما وُجد في الشيلي مختبر النيوليبيراليّة، هذا إضافة إلى إشارة فرجاني الذكيّة حين إثارة الموضوع إلى الثورة الإيرانيّة الّتي كانت ثورة دينيّة محافظة واستلهمت في الآن نفسه فكر هيدغير، ممّا جعل داريوش شاياغون يتحدّث عن «الإسلامويّة الهيدغيريّة». وإذا علمنا أنّ هيدغير مرتبط بدوره بالنازيّة فهل حين يعتمد باحث ما في الفلسفة إحدى نظريات هيدغير يؤدّي ذلك بالضرورة إلى القول إنّه نازيّ؟ طبعا لا، ولكنّه الاجتزاء والتوظيف هو ما أدّى إلى مثل ما أشرنا إليه من تركيز على هذه الجزئيّة. وممّا لم يتمّ الإلحاح عليه في عديد المواقف وأكّده فرجاني أنّه من تعبيرات الثورة المحافظة أيضا في تونس وغيرها الإسلام السياسي، لذلك كلّه لا أجد أيّ مبرّر للتركيز على حصر كلام محمّد الشريف فرجاني حول كارل شميت بقصر نظرته على النازيّة وتعلّقها بالثورة المحافظة حاليّا في تونس سوى أمرين إمّا «الإثارة» أو «التوظيف عن سوء نيّة».
فعلا لم يكن بودّي أن أكتب فيما كتبت، ولكنّه اضطرار وقف دون ما كنت أتمنّاه من تمعّن عمق ما طرحه محمّد الشريف فرجاني من استقراء لتاريخ تونس المعاصر ومن مواقفه الواضحة من نظام بورقيبة ثمّ نظام ابن عليّ، ومن آرائه المبنيّة على الملاحظة الدقيقة والمقارنات لا من المواقف المسبقة بل من المبادئ المؤمنة بالثقافة الديمقراطيّة وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعيّة والمساواة بين المواطنات والمواطنين ودور الدولة الاجتماعي، والتحليل الثاقب لما يجري في تونس منذ 2011 بالخصوص. كان بودّي ملاحظة أنّ فرجاني لا يصطفّ مع أحد بل ينطلق ممّا يؤمن به بكلّ حريّة ممّا جعله يعارض بشدّة توجّهات الإسلام السياسي بوصف شكلا من أشكال الثورات المحافظة المرتبطة بعولمة النيوليبيرالية لا بوصفها توجّها اقتصاديّا هيمن على العالم منذ أواخر السبعينات فحسب وإنّما أيضا بوصفها معاداة للحقوق والحريّات والمواطنة وتكريسا لما يسمّيه «ديمقراطيّة المغالبة» أي قصر الديمقراطيّة على حكم الأغلبيّة عوض أن تكون حكم الأغلبيّة لمواطنين أحرار متساوين. وكان بودّي أيضا الانتباه إلى جوهر رؤيته إلى ما يحدث في تونس الآن والّذي يتلخّص في ضرورة تبنّي موقف يتجاوز الثنائيّة القائمة مع/ ضدّ إلى الدعوة إلى عدم العودة إلى ما قبل 25 جويلية 2021 ولكن معارضة العودة إلى ما قبل 2011 بإرساء حكم الفرد ولا يكون ذلك إلاّ بتجمّع قوى التقدّميّة الحقيقيّة وهي موجودة للدفع نحو وضع برنامج زمنيّ لانتخابات على أسس قانونيّة جديدة ومحاسبة قضائيّة عادلة لمن أجرم. وكان بودّي الانتباه إلى ما ألحّ عليه فرجاني من دور أساسيّ للاتّحاد العام التونسي للشغل الّذي كرّر ذكره في مناسبات عديدة جدّا بحكم ما يمكن أن يلعبه من دور أساسيّ في هذه المرحلة بالإضافة إلى مكوّنات كثيرة من المجتمع المدني. كان بودّي أن يلاحظ المتابعون ما أشار إليه من أنّ الخروج من المآزق ليس بالضرورة أن يكون دستوريّا أرتودوكسيّا فالثورة ليست تحرّكا دستوريّا وكذا الأمر مع ما شهدته تونس من حوار وطنيّ، إذ أنّه لم يكن دستوريّا أيضا ولكنه كان حلاّ ممكنا أدّى إلى بعض النتائج. كان بودّي الانتباه إلى أنّه كان الممكن يوم 25 جويلية 2021 الدعوة بوضوح إلى تعليق الدستور وأنّ هناك تسقيفا زمنيّا، وأنّنا سنغيّر القانون الانتخابي ونجري انتخابات جديدة، وعدم الوضوح هذا هو ما أدّى إلى مأزق آخر مازال بالإمكان تجاوزه. كان بودّي كذلك الانتباه إلى الاحتراز من «خطابات النهايات» والمتعلّق هنا بالحديث عن «نهاية الإسلام السياسي»، فلا يمكن أن ينتهي توجّه ما لم يتمّ القطع مع الأسباب المؤدّية إليه. كم وددت أيضا الانتباه إلى دور القوى العظمى في العالم في دعم القوى الرجعيّة والعنيفة أيضا ولا أدلّ على ذلك من عودة طالبان اليوم في أفغانستان، فالمهمّ بالنسبة إلى تلك القوى هو مصالحها. وكنت أرجو أيضا التفكّر في قضايا أساسيّة مرتبطة رأسا بما يسود اليوم في العالم من جعل المجتمع جزءً من المصلحة الاقتصاديّة عوض أن يكون الاقتصاد في خدمة المجتمع. وددت أيضا الانتباه إلى الشروط الّتي يحدّدها فرجاني للخروج من المآزق الّتي نحن فيها والّتي كان الإسلام السياسي أحد أعراضها، وهي شروط انتشار الثقافة العلميّة وتكريس الثقافة الديمقراطيّة وهي تأتي بعد الثقافة العلميّة، وتطوّر موازين القوى لمقاومة التيّارات الرجعيّة المختلفة.
في المحصّلة كان بودّي هذا وغيره كثير جدّا عوض الاجتزاء والسياسويّة الطاغية وأخذ الكلّ بالجزء الّذي لا يؤدّي إلاّ إلى البقاء في حلقة مفرغة لا تُفضي بنا إلى شيء غير ضياع البوصلة الّتي نقدّر أنّ حوار محمّد الشريف فرجاني يمكن أن يمثّلها فلا تتيه بنا السبل.
حول حوار محمد الشريف فرجاني وحمزة البلّومي: حتّى لا يُؤخـذ الكـلّ بالجـزء
- بقلم نادر الحمامي
- 10:17 23/11/2021
- 900 عدد المشاهدات
كان من المفروض أن يكون ما أدلى به أستاذ العلوم السياسيّة محمّد الشريف فرجاني في حواره مع حمزة البلّومي على إذاعة