رأي: أمــا آن للقضاء أن يتحـــرر ؟

بقلم : إدريس حريق
وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية سوسة 2

إن نضال القضاة ضد الدكتاتورية لا يمكن أن ينكره أحد، فمن لا يذكر الأحكام الصادرة عن المحكمتين الابتدائيتين بسوسة والقيروان والقاضية بعدم دستورية قانون الجمعيات الشهير كذلك نفذ القضاة إضرابا هو الأول من منذ استقلال البلاد والأخير قبل الثورة ونتج عن ذلك إقالات وعقوبات طالت قضاة من أحسن ما أنجب القضاء التونسي، قضاة ضحوا بمستقبلهم من أجل إيمانهم بأن القضاء رسالة ومسؤولية وأنه يمكنهم أن يلعبوا دورا في بناء دولة القانون والمؤسسات , دولة ديمقراطية تحترم الحقوق والحريات وتحقق العدل لمواطنيها .

حين كان القضاء في أغلب الدول العربية يمثل أداة طيعة للسلطة كان القضاء التونسي سباقا في مجال الحقوق والحريات واختار أن يكون حرا مستقلا ودفع الثمن غاليا من أجل ذلك من نقل، وتجريد من المسؤولية ووصل الأمر الى إيقافات عن العمل وحمل البعض على الاستقالة وتلقى القضاء بذلك ضربة أثرت بشكل سلبي جدا على استقلاليته وحياده. وبعد هذه الحقبة المشرقة مر القضاء بفترات عصيبة لتطويعه وإخضاعه لإرادة السلطة التنفيذية، وكان القضاء في ذلك الحين ينقسم الى قسمين الرؤساء (رؤساء المحاكم ووكلاء الجمهورية ورؤساء الدوائر ) كان كل هؤلاء يخضعون في تسمياتهم وترقيتهم الى الإرادة السياسية التي تحكم بفضل هؤلاء قبضتها على القضاء والبقية كانوا يعانون من هذه الوضعية ويخضعون لعملية فرز بغيضة (هذا منسجم وهذا غير منسجم) لكن القضاء كان رغم ذلك قضاء يتمتع بقدر من الاستقلالية والحياد وكان قضاء نظيفا وكفء، لا شك أن هنالك بعض القضاة قد أساؤوا للقضاء بتصرفاتهم أو بفسادهم (الإداري أو المالي) لكن الفساد الذي طال القضاء لم يشمل القضاة فقط لكنه طال جميع أسلاك الإدارة ونسبة الفساد في القضاء ليست أكثر من نسب الفساد في أي سلك إداري آخر لكن وصف القضاء التونسي بأنه قضاء فاسد من طرف القضاة أنفسهم هو الذي جعل هذا الاعتقاد سائد بين العموم وهذا فيه تجن كبير على القضاة الذين هم في أغلبهم غير ذلك. والحقيقة أن الفساد في القضاء يمثل نسبة ضئيلة جدا في سلك القضاة ولعل الفساد الأكثر انتشارا بين القضاة

هو الذي يتمثل في الاشتغال في أي شيء (في السياسة في التجارة وغير ذلك من النشاطات) إلا في المهمة الأصلية ألا وهي القضاء وهذا النوع من الفساد ليس خاص بالقضاة فقط ولكنه يمس الجميع.

مسكين أنت أيها القضاء التونسي أصبحت ضحية للخيانة وفريسة للأطماع تتقاذفك الأمواج والأهواء أصبحت غرا سفيها غير قادر على تحديد مصيرك وإدارة شؤونك تحتاج لوصي عليك لا تستطيع أن تكون مسؤولا عن نفسك تحتاج الى سلك آخر أو أسلاك عدة تعينك على تحديد مصيرك. أنت الخاسر الوحيد بعد الثورة كنت خاسرا قبلها وأصبحت أكثر خسارة بعدها. قبل الثورة كان من يتمسك باستقلال القضاء يعتبر متهم وتلصق عليه تلك التهمة فيشرد ويهمش بمقولة أنه يؤمن باستقلال القضاء، لا مسؤولية لا استقرار لا احترام وتذهب مقدرات القاضي الذي يؤمن بهذه المبادئ هباء منثورا أما بعد الثورة فكان وضع القضاء أسوأ فأول ما بادر به بعض وزراء العدل هو عزل مجموعة هامة من القضاة بدعوى أنهم فاسدون دون مجلس تأديب دون محاكمة في خرق واضح لجميع الحقوق المدنية والكونية ثم يصرح هذا الوزير في الإعلام أنه ليس له أدنى شك في فساد تلك المجموعة من القضاة ثم يتم التراجع في حق ستة منهم ويسند لأحدهم خطة مهمة في الإدارة التونسية وبعد أن كان قاض لا شك في فساده أصبح من أحسن القضاة ويستحق تكليفه بمهمة حساسة في الدولة هكذا بقدرة قادر، ثم صرح وزير الاعفاءات أنه بصدد تحضير قائمة أخرى تضم أربعمائة قاض فاسد فبقي القضاة كلهم على شفا حفرة من النار فالكل ينتظر نزول الصاعقة عليه، فكيف للقضاء أن يعمل بصفة طبيعية في مثل هذه الظروف ؟

كان من الممكن أن يحيل الوزير المذكور ملفات القضاة الذين يظنهم «فاسدين» على مجلس التأديب فيتخذ في شانهم القرار المناسب والقانوني ويكون بذلك قد احترم حقوقهم الشرعية واحترم مؤسسات الدولة لكنه اختار الحل الأكثر فتكا بالقضاة وذلك لترهيبهم وإخضاعهم للقرار السياسي ثم كلف بعضهم على رأس وزارات متبعا بذلك سياسة العصا والجزرة وترك بذلك باقي القضاة بين الخوف والطمع فأفسد القضاء وأربكه، علما وأن القاضي الذي يقع تكليفه بمهمة سياسية ثم يعود لممارسة مهنة القضاء لا يمكنه أن يبقى محايدا ومستقلا ولا يمكنه حتى الرجوع لعمله بصفة طبيعية وسيبقى دائما يحلم بالعودة الى ما كان عليه حين كان وزيرا لا أشك في قدرة القاضي على تحمل أكبر المسؤوليات لكنه إذا شغل منصبا سياسيا عليه أن يستقيل أولا من القضاء لأن من شغل منصبا سياسيا لا يمكنه أن يحافظ على حياده واستقلاليته وسيكون حتما سهل الاستقطاب والتطويع لذا فان من سيس القضاء هو الذي أفسده.

ثم صدر القانون المنظم للمجلس الأعلى للقضاء دون استشارة القضاة في شأنه وأعني بذلك أنه لم يقع دعوة مجموع القضاة عبر استشارة وطنية مثلا لإبداء رأيهم فيه، فلقد تولى المشرع اتخاذ القانون المذكور (شأنه شأن الدستور) بعد جدالات وحوارات داخل مجلس النواب انتهت بقانون أسوأ بكثير من المرسوم الذي تم إعداده من طرف الحكومة المؤقتة التي ترأسها السيد الباجي قايد السبسي رحمه الله في بداية الثورة ويا ليت جمعية القضاة قد وافقت على ذلك المرسوم لكن يظهر أن أعضاء الجمعية قد اختاروا مواصلة الحوار من أجل الحوار فقط والظهور في الإعلام ومحاذاة السياسيين خدمة لمستقبلهم السياسي لا غير لعلهم يحصلون في الأثناء على منصب سياسي أو مهمة تحقق طموحهم وكانت آخر اهتماماتهم مصلحة القضاء والقضاة ولعل بعضهم غادر القضاء ولكنه مازال الى الآن يستعمل ورقة القضاء للظهور في الإعلام والنيل منه ولن يكف هؤلاء عن ذلك ماداموا يجدون من ينصت اليهم.

كنا ننتظر الكثير من الثورة، كنا نريد قانونا يقطع مع الماضي وظلمه يؤسس لدولة القانون والمؤسسات يكون فيها القضاء سلطة حقيقية تنشر العدل وتساعد على نمو البلاد واستقرار الأمن لكن ما راعنا إلا والقانون المؤسس للمجلس الأعلى للقضاء يأتي مخيبا للآمال ويحمل في طياته الظلم كيف يمكن للقاضي أن يكون مستقلا وأن يؤدي دوره كما يجب وهو نفسه ضحية للظلم؟

إن القانون المنظم للمجلس الأعلى للقضاء وإن كان في ظاهره يجعل الشأن القضائي أمرا خاصا بالقضاة إلا أن الأمر غير ذلك تماما فالقانون المذكور فيه عديد الهنات من ذلك ان تركيبة المجلس تضم القضاة وغير القضاة وكأن السلطة القضائية غير قادرة بمفردها على أن تقوم بشؤونها وتحتاج الى تدخل هياكل أخرى للقيام لإعانتها على ذلك، السلطة التشريعية لا يمثلها سوى النواب المنتخبون في اقتراع حر ومباشر والسلطة التنفيذية ترأسها هياكل تتبع تلك السلطة الا السلطة القضائية فيوجد فيها هياكل غير قضائية ثم تتعالى أصوات لتقول يجب ترك أمر القضاء للقضاة لكن أمر القضاء ليس للقضاة حتى يترك لهم. وإذا كان الشأن القضائي ليس خاصا بالقضاة فانه لا يمكن الحديث عن استقلال القضاء في ظل هذه التركيبة فتركيبة المجلس تضم عدول تنفيذ وأستاذة جامعيين ومحامين وهنا أقول وأنا لا أحمل لهاته الهياكل سوى كل الاحترام والتقدير وخاصة منهم المحامين لدورهم الريادي في إسقاط المنظومة القديمة وفي الدفاع عن الحقوق والحريات وقد خاضوا في ذلك نضالات تحسب لهم، لكن أن يصبح لهم تمثيل في المجلس الأعلى للقضاء فهذا أمر غير مقبول وهو يمس من استقلالية القضاء وحياده ولا يمكن للمحامين أن يلعبوا دورا إيجابيا في هذا المجال فلا يمكن للمحامي (الذي يمارس مهنة حرة تبحث في غالب الأحيان عن الربح الأوفر وحماية المصلحة الخاصة) أن يتخذ قرارا في المسيرة المهنية للقضاة ويكون هذا القرار يخدم مصلحة القضاة ويخدم المصلحة العامة، فالمحامي في مثل هذه الحالة سيغلب أهواءه ومصلحته الخاصة ومصلحة السلك الذي ينتمي اليه على حساب المصلحة العامة ومصلحة القضاة ولا شك أن في ذلك مس بتكافؤ الفرص بينه وبين زملائه ولقد رأيت شخصيا محام عضو في المجلس الأعلى للقضاء العدلي يدافع عن منوبه بالهاتف ولا شك أن ذلك المحامي يستعمل في مثل هذه الحالة صفته بوصفه عضو في المجلس الأعلى للقضاء للتأثير على قرار القاضي المكلف بالنظر في ملف منوبه.

لا شك أن هذا التصرف يمس من هيبة واستقلال القضاء وكذلك استقلال القرار القضائي والآن لما بدأ الحديث عن إمكانية تعديل القانون المنظم للمجلس الأعلى للقضاء أصبحنا نسمع بإمكانية جعل عميد المحامين عضوا قارا بصفته تلك في المجلس الأعلى للقضاء عند ذلك سيزداد الأمر سوءا ويصبح مكتبه مزارا للقضاة وهذا لا شك يمس من هيبة القضاء واستقلاله.

كذلك من النقاط السلبية الموجودة في القانون المنظم للمجلس الأعلى للقضاء هي المدة النيابية لأعضائه فهي طويلة جدا (ست سنوات) أطول من المدة النيابية لمجلس النواب مثلا أو لرئيس الجمهورية وبذلك فهي مخالفة لمبدأ التداول وهي لا تساعد بالمرة على الإصلاح والتغيير. إن المجلس الأعلى للقضاء هو مكسب لا شك فيه رغم ما فيه من هنات لذا يتعين على القضاة التمسك بهذا المكسب لأنه في آخر المطاف يعتبر قناة يمكن القضاة من التعبير عن طلباتهم وطموحاتهم وآرائهم لكن يجب على أعضاء المجلس أن يستمعوا لمنظوريهم وأن يأخذوا بعين الاعتبار آراء القضاة وتطلعاتهم , يجب على أعضاء المجلس أن يستمعوا لرؤساء المحاكم فيما يتعلق بنقلة وترقية القضاة الذين يرجعون لهم بالنظر لا أن يقرروا مصير هؤلاء بمفردهم والأبواب مغلقة دون أن يستمعوا لرأي المسؤولين عنهم في الجهة التي يباشرون فيها عملهم فالقاضي من الرتبة الأولى لا يعرفه الا رئيسه المباشر الذي يعمل معه وغير ذلك فانه سيقع اعتماد مقاييس لا تمت للواقع في شيء.

لذا وفي الختام يمكن القول أن القضاء لا يتحرر إلا إذا تخلص أولا من الأطماع في المناصب السياسية يجب أن يكون عمل القاضي خالصا من كلما يمس حياده واستقلاليته حتى لا يطمع في أحد ولا يطمع فيه أحد فيكون عمل القاضي لخدمة القضاء لا غير ومن يريد أن يمارس السياسة أو أن يتقلد منصبا سياسيا عليه أولا أن يستقيل من القضاء، وثانيا يتعين إصلاح القضاء وإصلاح القضاء يمر أولا بإصلاح القانون المنظم للمجلس الأعلى للقضاء وذلك بتحديد المدة الانتخابية لأعضائه بأربع سنوات على أقصى تقدير، وباختصار أعضائه على القضاة لا غير(يمكن تمكين بعض القضاة المتقاعدين من أن يكون لهم تمثيل في المجلس ويقع بذلك الاستفادة من خبرتهم تتويجا لمسارهم المهني) وحتى يكون للمجلس الأعلى للقضاء أدوات يتمكن بواسطتها من أداء واجبه يجب إلحاق التفقدية بالمجلس الأعلى للقضاء فلا يعقل أن تكون أعمال التفقدية وهي أعمال من صميم عمل المجلس الأعلى للقضاء تتعلق بالمسار المهني والتأديبي للقضاة والسير العادي للمحاكم لذا لا يمكن أن تبقى التفقدية خارجة عن المجلس يجب أن تكون التفقدية العامة جزء لا يتجزأ من المجلس الأعلى للقضاء. كما أنه ومن أجل تحقيق العدل بين القضاة فيما يتعلق بترقيتهم ونقلهم يجب تحديد مقاييس موضوعية تلزم المجلس عند إسناد المسؤوليات وإجراء النقل كما يجب (على المجلس الأعلى للقضاء) أن يقوم بتوسيع الاستشارات لتشمل المسؤولين على المحاكم ويجب أن تعتمد تلك الاستشارات في المسار المهني للقضاة لا أن تكون تلك الاستشارات شكلية يستمعون اليها ثم لا يطبقون أي منها وبذلك نبتعد عن المحسوبية والمحاباة ولعل المطلب الهام جدا وهو المطلب القديم والحديث والذي تناساه البعض وطالب به القضاة منذ عهد الزعيم الحبيب بورقيبة ولم يقع الاستجابة له ليوم الناس هذا هو أنه يجب إحداث شرطة عدلية تتبع وزارة العدل تعمل تحت الإشراف المباشر للنيابة العمومية وتخضع في تسمية أعضائها وترقيتهم للقضاة.

لعلي أكثرت من الطلبات ولكن الأمر يتطلب ذلك لما يمر به القضاء من المحن بسبب الأثقال التي هدت كاهله لكنني رغم ذلك أحلم بنيابة عمومية لا تتلقى التعليمات من أحد.
وكما نرى فان الطريق طويلة جدا حتى يتخلص القضاء من الحواجز والعراقيل التي تعيق استقلاله ولا يمكن الحديث عن استقلال القضاء ما لم يتحقق ذلك.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115