وما هو مستقبل الصحافة في ديمقراطية قد تصبح إنصهارية تعادي التنوع ؟ وكيف يمكن للصحافة بما أنها مزوّد للجمهور بالأخبار الموثوقة ومنصة لإدارة النقاش العام في مجتمع أصبح لا يثق في الوسطاء وتقوم به الزعامة على اتصال مباشر مع الشعب؟
وفي الوقت الذي يكرر فيه الجميع أن حرية التعبير هي المكسب لما يسمّى الانتقال الديمقراطي يبدو أن الصحافة تعيش أزمة لا تقل وعورة عن تلك التي تعيشها منظومة الأحزاب من جهة اهتزاز ثقة المواطنين فيها. ولا شك أن الصحافة تواجه امتحانا صعبا في سياق جديد تواجه فيه مصاعب وعقبات تجعل من المشروع التساؤل عن الأدوار التي يمكن أن تقوم بها في السياق الجديد.
مهنة وصناعة في أزمة
تعيش الصحافة المكتوبة أزمة شاملة وعميقة وقد تراجعت مكانتها في الفضاء العام كمصدر للأخبار وفضاء لإدارة النقاش العام حتى أنه من المشروع القول أن صناعة الصحافة المكتوبة القائمة جلها على مؤسّسات غير مستدامة وفاقدة لشروط الممارسة المهنية أصبحت اليوم على مشارف الانقراض. وعلى هذا النحو لا يمكننا الحديث عن صناعة إخبارية بالمعنى الصحيح للكلمة. فباستثناء الميديا العمومية فان العديد من المؤسّسات الإذاعية والتلفزيونية لا تتوفر لديها هيئات صحفيه آو أنها لا توفر الشروط الأساسية حتى تعمل هذه الهيئات بشكل يسمح لها بأداء مهامها. ولم تشهد المؤسسات التي تصنع فيها الصحافة وخاصة المؤسسات العمومية الإصلاح الضروري لأسباب عديدة منها سياسة الأحزاب السياسية المختلفة والحكومات المتعاقبة التي تلاعبت بها أو وأبقتها مؤسسات ضعيفة وهشة اقتصاديا لتحويلها إلى منصات لظهور السياسيين.
لقد كشفت انتخابات 2019 عن غضب المواطنين عن الصحافة كبعد من أبعاد الغضب على النخب كما أنها كشفت عن قوى سياسية جديدة فائزة أو صاعدة لا تربطها علاقات شبكية مع الصحافة قائمة على المصالح المتبادلة كما كان الحال مع أحزاب سابقة على غرار النهضة وحزب نداء تونس وحزب تحيا تونس....).
لم يحظ قيس سعيد بشبكات تعمل لصالحه بشكل مكشوف أو ماكر وخفي. وكذلك الأمر بالنسبة إلى عبير موسي وإتلاف الكرامة وهي أحزاب استثمرت في موارد الميديا الاجتماعية التي كانت علاقاتها الشبكية مع الصحافة محدودة. تتخلص إذن عدة شخصيات وأحزاب سياسية من الحاجة إلى الصحافة والصحفيين وتتواصل عبير موسي مباشرة مع مناصريها حتى قبل مقاطعتها من طرف نقابة الصحفيين التونسيين، أما الرئيس فقد تحرر كما أشرنا إلى ذلك في المقال السابق من وساطة الصحافة وأتخذ من الفايسبوك وسيلة وحيدة لإبلاغ صوته.
بيئة رقمية مسمومة
مع انتشار الفايسبوك ظهر المناضلون الافتراضيون ثم اختفوا لصالح مواطنين (آلاف) يلتقطون الصور ويصورون الفيديوهات ويكتبون «الأخبار» في صفحاتهم، ثم ما لبثت أن التحقت الأحزاب وأضحت تمارس كل أنواع الدعاية الماكرة بواسطة مئات الصفحات التي تحولت إلى منظومة دعائية ضخمة تدار باقتدار من الداخل والخارج (ولا شك أن دولا تشارك أيضا في إدارة هذه الصناعة ) في فترات الانتخابية وخارجها لصالح أحزاب وشخصيات. وقد كشف تقرير محكمة المحاسبات عن أشكال استخدام الفايسبوك في الانتخابات الأخيرة.
تحوّل الفايسبوك إلى محيط فسيح تملؤه الأخبار الزائفة التي تنتجها الأحزاب السياسية والشخصيات السياسية. وتحوّل المواطنون أنفسهم تدريجيا إلى منتجين للأخبار الزائفة ومشاركين نشيطين في الدعاية بل أصبح لكل مواطن ماكينة دعائية خاصة به وأصبح مؤلفا للأخبار الكاذبة من إبداعه. لقد أصبحت هذه الأخبار الزائفة تمثل البيئة التي يشتغل فيها الصحافيون وهي تمثل قوّة ضغط عليهم فيجاهدون باستمرار لحماية أنفسهم من سمومها بنجاح متفاوت.
والأخبار الزائفة تكاد تصبح مادة إخبارية لمئات الآلاف من التونسيين يستهلكونها يوميا ويؤثثون بها نقاشاتهم اليومية وهي تغذي أحاديثهم اليومية. ثم أرست هذه الأخبار الزائفة عادات في القراءة، إذ تعوّد التونسيون على أخبار تمت صياغتها بشكل مثير، بلا مصدر، تحمل وجهة نظر واحدة وتتضمن في أحيان كثيرة شتائم أو اتهامات.
في هذا السياق الجديد يجاهد الصحفيون للحصول على قسط من انتباه القراء في هذا المحيط الواسع الذي تشكله الأخبار الزائفة مما قد يدفع البعض منهم تحت وطأة الضغوط المهنية إلى السقوط في فخ «العناوين المصيدة» والأخبار المثيرة والمتابعة الفورية للأحداث دون التحري فيها، بل في بعض الأحيان يمكن أن تتشبه الأخبار التي ينتجها الصحفيون بالأخبار الزائفة نفسها في إطار ممارسة صحافة انتهازية قصيرة المدى مرتبطة بمراكز قوى سياسية. والسؤال الآن هل يمكن في هذا السياق الجديد أن تقوم صحافة جيدة متوازنة تقدم كل وجهات النظر متنوعة مهنية تبحث عن الحقيقة، بما في ذلك التي يمكن أن تكون صادما للسرديات والروايات التي يتبادلها التونسيين.
المواطنون سلطة ضغط جديدة على الصحفيين
إن بيئة الأخبار الكاذبة متصلة اتصالا وثيقا بالاستقطاب الأيديولوجي والسياسي وانقسام المجتمع التونسي إلى قسمين متضادين ومتباعدين وناكرين لبعضهما البعض معادين لوجود الآخر. وتؤدي عملية الانشطار هذه إلى انشطار الفايسبوك الذي يصبح مكونا من مجموعات منغلقة تنشا عفويا أو بإيعاز من الأحزاب، مجموعات تمثل غرف صدى لا يمكن فيها للرأي الآخر أن يكون حاضرا. مجموعات تعادي التنوع ومنسجمة تتشارك في التصوّرات والرؤى والتقييمات ذاتها وتستهلك الأخبار الزائفة ذاتها لا تطيق ما يعكّر صفوها الأيديولوجي والأمان النفسي الذي يعيشه أعضاؤها. وتصبح جماعة متلاحمة لا تقبل الاختلاف وهذه الجماعة تعيش في واقع بديل لا مشروعية فيه للآخر وللآخرين الذين يصبحون شياطين مفسدين.
عندما يغادر هؤلاء المستخدمون المجموعات أو «السجون المعرفية» أو «القيتو الإخباري»Ghetto Informationnel الذين يعيشون فيه يكتشفون الأخبار التي تنشرها صفحات الإذاعات والتلفزيونات والصحف ويكتشفون التنوع بل ويصدمون بأن الأحداث لا تتطابق مع الحقائق التي تغدو منها في المجموعات أو مع من يشبهونهم. ويكتشفون أن الأحداث يمكن أن ننظر إليها من زوايا مختلفة. وان الواقع كما يتجلى في الصحافة ليس هو الواقع الذي يعيشون عليه في مجموعتهم. فينفعلون ويشتمون الصحفيين وينعتونهم بأقذع النعوت بما أنهم عملاء هذا الحزب أو ذاك، انتهازيون يعملون لهذا السيد أو ذاك، فاقدون لضمائرهم المهنية بلا أخلاق، يكتبون عن هذا الحزب أو يفترون على الرئيس..... وتصبح الصحافة التي تعكس تنوع الوقائع وتنوع وجهات النظر صحافة مشبوهة متأمرة.
يمثل «المواطن الغاضب» خطرا على الصحافة المهنية لأنه لا يثق فيها ويعتبرها بلا فائدة فيتلذذ بشتم هذه «النخبة النكبة» التي لا بد من التخلص منها لأنها تعمل «ضد الوطن» و«ضد الثورة» أو«ضد الرئيس» أو«ضد الشرعية» و«مع الانقلاب» و«ضد الدستور». تخلق موجات التعليقات المتواترة للمستخدمين الانطباع أن هذا الصحفي في الطريق الخطإ وتسبب لديه الشعور بالذنب يدفعه إلى مسايرة ما يقدم على أنه الرأي العام، فتفقد الصحافة روحها وينشأ عن كل هذا ما يمكن أن نسميه صحافة مجاملة «journalistiquement correct». وعلى هذا النحو فإن الصحافة هي أهم ضحايا عمليات الاستقطاب السياسي لأنها تفقد في هذه البيئة الذين ينتظرون منها أن تنخرط في هذا الاستقطاب وأن تكون مع «الحق» ومع «معسكر الوطن» ويصبح هؤلاء المواطنون قوة ضغط على الصحفيين في الرواية لإجبارهم على نقل الرواية المهيمنة.
ويمكن أن يؤدّي غضب الجموع إلى دفع الصحفيين إلى الاكتفاء بالحدّ الأدنى من العمل الصحفي باستعادة البلاغات الصحفية الحزبية أو الرئاسية. فتفقد الصحافة روحها وتتحول إلى صحافة ناقلة، تسجيلية. هكذا تمثل الجموع الخاضعة للاستقطاب قوة رقابة على الصحفيين أو حتى يمكن أن تتحول إلى قوة رقابة ذاتية، فيفقد المجتمع الثقة في الصحافة بما أن مصدر الأخبار عن الحياة السياسية والاجتماعية وإذا فقد الناس الثقة في الصحافة فقدت الصحافة شرعيتها.
لكن هل هناك مؤشرات ما لتغيير هذه الأوضاع هل ستكون المهنة قادرة على وضع برنامج لإصلاح نفسها عبر آليات التنظيم الذاتي الداخلي (بالالتزام بالمعايير الأخلاقية المهنية) وفرض الإصلاح الداخلي للمؤسسات الصحفية في القطاعين العام الخاص وهل يمكن أن نقول أن السياسة الجديدة التي سيتمخض عنها المنعرج السياسي الجديد أو ما يسمّى «المسار التصحيحي» بان تكون مؤمنة بضرورة إصلاح الميديا وبان يكون هناك إعلام مستقل مهني في خدمة الحقيقة،صحافة قادرة على أداء أدوارها كالرقابة على السلطة السياسي أم أن الجفاء الذي يسم علاقة مؤسسة الرئاسة والصحافة يمثل مؤشرا قويا على أن السياسيين الجدد في الحكم أو خارجه الذين يؤمنون بالاتصال المباشر مع الجماهير وبأنهم يجسدون «الشعب العظيم» و»التوانسة» لن يقبلوا بصحافه مستقلة مهنيه قادرة على مسائلتهم ؟ وهل أن السياسيين الذين يريدون أنفسهم بديلا عن النخب التي حكمت البلاد منذ 10 سنوات يقبلون بان لا تكون الصحافة مجرد آليات ناقلة لخطابهم وحلقة يوصل بينهم وبين المجتمع ؟
تأملات في الديمقراطية التونسية وفي مستقبلها بقلم: الصادق الحمامي أستاذ التعليم العالي بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار (الجزء الثالث)
- بقلم المغرب
- 09:33 18/09/2021
- 839 عدد المشاهدات
• هل ستصبح الصحافة مهنة مستحيلة ؟
كيف يمكن أن تمارس الصحافة بما أنها، في تعريفها الأمثل، سعي إلى الحقيقة في سياق تحولت فيه الأخبار الزائفة إلى مادة يومية يتغذى بها المواطنون ؟