لا تقل أهمية على غرار انفجار العنف السياسي باغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي ثم اعتصام الرحيل الذي كان تتويجا لمسار الاستقطاب الإيديولوجي والسياسي. ويختلف التونسيون أيمّا اختلاف في ما حصل. يرى البعض أننا على مشارف ديكتاتورية جديدة أو نظام هجين مزيج بين الديمقراطية والسلطوية démocrature) في حين يقول البعض الأخر إن الأمر يتعلق بمسار تصحيحي سيخلصنا من نخبة سياسية فاسدة، كما يرى آخرون أننا على أبواب ديمقراطية من طراز جديد يحكم فيها الشعب نفسه بنفسه.
2. وطغى على النقاش العام المسائل القانونية والدستورية المحضة المتصلة كلها بالسؤال التالي : هل ما قام به رئيس الدولة انقلابا على الدستور أم هو تأويلا صحيحا له ؟ ثم ظهرت هنا وهناك مقولات وأفكار عن قرب نهاية الديمقراطية التمثيلية في إطار ما يقال عن مقاربة رئاسية بديلة عن النموذج الديمقراطي الحالي الذي ينعته الكثيرون بالفاسد بما أنه أدّى إلى ما أدّى إليه من نظام سياسي مولّد للأزمات ونخبة سياسية مهووسة بالصراع على السلطة والبقاء فيها وأزمة اقتصادية واجتماعية وانعدام ثقة التونسيين في مؤسسات الديمقراطية : البرلمان والقضاء والصحافة والهيئات الدستورية. ولكن إعلان «قبر» الديمقراطية التمثيلية لصالح نوع أخر من الديمقراطية (مجالسية مثلا) لم يتمخض عن مشروع واضح المعالم يمكن أن نتناوله بالنقد والتحليل والتشريح، كما أن ردود الفعل عن «التدابير الاستثنائية» لم يفض بعد، في النقاش العام، إلى تشخيص شامل لأمراض الديمقراطية التونسية بشكل يسمح بفهم ما حصل يوم 25 جويلية.
3. تسعى هذه النصوص إلى تفكر بعض المسائل المتصلة بأزمة الديمقراطية التونسية ومستقبلها لإثراء النقاش من آفاق أخرى غير تلك المنشغلة بالمسائل القانونية المحضة. وتتوزع حول أربعة مسائل:
• أما الجزء الأول فيتناول تشخيص ما نسميه أزمة التمثيل السياسي ومخاطر السير نحو»ديمقراطية إنصهارية « التي يمكن أن تكون ارتدادا عن الديمقراطية.
• ونطرح في الجزء الثاني مسألة الزعامة السياسية ونموذج الاتصال السياسي الرئاسي .
• أما الجزء الثالث فنطرح فيه مستقبل الصحافة في تونس باعتبارها مؤسسة أمينة على حق التونسيين في الحقيقة والمعرفة.
• وفي الجزء الرابع الأخير نتناول إمكانات إصلاح الديمقراطية التونسية بواسطة تأهيل فضاء عمومي اندماجي و متنوع
• الجزء الأول : في مخاطر «الديمقراطية الإنصهارية»؟
4. ثمة حديث في صفوف التونسيين عن عدم الحاجة إلى البرلمان والأحزاب. فالحاقدون على النخب والأحزاب السياسية (أو على أحزاب بعينها) وعلى ما يسمى المنظومة السياسية لا يبدو أنهم يرغبون في التمييز بين إدانة البرلمان الحالي وفكرة البرلمان بشكل عام وأهميته بالنسبة إلى الحياة السياسية. كما لا يميزون بين إدانة الأحزاب التي حكمت البلاد في العقد الأخير وبين أدور الأحزاب بشكل عام في الحياة السياسية كما هو الحال في كل ديموقراطيات العالم. والواضح أيضا أن المطالبين بالانتقال من النظام البرلماني إلى نظام رئاسي يغذون هذا المزج غير البريء بين مساوئ التجربة الديمقراطية في العشرية الأخيرة وانحرافاتها وبين الديمقراطية بشكل عام.
من إدانة البرلمان إلى التخلص من المداولة
5. يبدو إذن وكأن ثقافة سياسية معادية لفكرة الديمقراطية تعبر عن نفسها بشكل مخاتل في خطاب إدانة انحرافات الحياة السياسية (الأحزاب والبرلمان) والمطالبة بسلطة تنفيذية قوية (تتجسد بدورها في رجل دولة قوي وعادل ومهاب) تقطع نهائيا مع مشهد برلمان عاجز تديره نخب متناحرة. إن ما يهمنا هنا هو بيان كيف أن المطالبة بنظام رئاسي قوي يمكن ألاّ يعطي للمداولة العامة المكانة التي تستحق وأن يفضي إلى استبدالها بالإرادة الرئاسية أو إلى تصور تقني وإجرائي للديمقراطية التي تصبح تجميعا لأراء المواطنين.
6. بل يمكن أن يكون أيضا مطية للتخلي عما يميز الديمقراطية بما أنها نظام سياسي يقوم على مشاركة المواطنين في إدارة شؤونهم بأنفسهم في إطار مجتمع إنساني يقوم على التنوع ونفي النقاش العام بما أنها فضاء السياسة الحيوي في مجتمع ديمقراطي تدار فيها الصراعات بشكل سلمي. إن التبخيس من أدوار البرلمان بشكل عام دون الفصل بين إدانة إنحرافات البرلمان الحالي وشروره التي لا تحصى والحاجة إلى البرلمان كمؤسسة أمينة على المداولة الديمقراطية La délibération démocratique يمكن أن يخفي إذن رغبة دفينة كتمت طوال العشر سنوات الأخيرة تتمثل في التخلص مما يميز الديمقراطية أي المداولة باعتبارها مصدر الشرعية في الأنظمة السياسية الحديثةـ
7. إن التشريع (وضع القوانين) التي تنظم حياة المجتمع تصبح في المجتمع الديمقراطي شأنا عاما يشترك فيه الناس جميعا. وهذا يعني بكل بساطة أن الشعب يحكم نفسه بنفسه أي أن الناس démos لهم سلطة cratosعلى ما يريدونه لأنفسهم من قوانين. ومن هذا المنظور فإن الديمقراطية تفترض أن التشريع عملية إنسانية محضة لا يمكن بأي حال من الأحول أن يتم الاستناد فيها إلى مصادر فوقية ومتعالية. إن جوهر الديمقراطية النابض لا يكمن إذن في الانتخاب مهما كانت آلياته وإنما أيضا في النقاش العام. وهذا يعني أنه لا يمكن لفرد ما أن يستأثر بالسياسة بما أنها إدارة المجتمع لشؤونه.
8. فالمداولة أي مشاركة الجميع في عملية التشريع التي تنظم الحياة الجماعية تميز المجتمعات الديمقراطية على المجتمعات غير الديمقراطية، بل إن فكرة المداولة ووجود فضاء عمومي Espace public يحتضن النقاش العام كانت سابقا عن فكرة الانتخاب وكانت ممهدا للديمقراطية بما أنها نظام سياسي يشرعّ فيه الشعب لنفسه بنفسه. ويقول إيمانويل كانط (فيلسوف الأنوار) في هذا الاتجاه إن التشريع في ما يتعلق بحقوق الغير le droit d’autrui لا بد أن تتوفر فيه ضرورة مبدأ الشفافية. بمعنى أن التشريع يجب أن يكون عملية شفافة أي عبر المداولة العلنية. فالقوانين الشرعية هي التي تكون قد كانت موضوعا لنقاش عام متعدد ومتنوع تظهر فيه كل الآراء. وهذه الآراء مجتمعة تمثل الرأي العام الذي يعبر عن نفسه بأشكال مختلفة.
9. في الانتخابات يعبر المواطنون عن إرادتهم بشكل دوري. لكن هذه الإرادة التي يعبر عنها المواطنون مرة كل خمس سنوات تتشكل وفق مسارات مخصوصة يتعرض فيها المواطنون إلى الأفكار والبرامج والحجج. ولهذا تحرص الديمقراطيات على تنظيم الاتصال الانتخابي، أي ذلك الاتصال الذي يهدف إلى إقناع المواطنين عبر وسائط عديدة بالرلمج والأفكار والمشاريع المجتمعية. كما حرصت الديمقراطيات أيضا في العقود الأخيرة على تنظيم المناظرات الانتخابية حتى يتمكن المواطنون من خلال ما يسمى النقاش المتنوع le débat contradictoire من تكوين رأي مستنير Une opinion éclairée للتعبير عن إرادتهم يوم الانتخاب.
من الديمقراطية الوسائطية إلى ديمقراطية إنصهارية
10. شهدت الديمقراطية التونسية في العشرية الأخيرة تطورات عديدة جعلتها عليلة وشكلية غابت عنها هذه المداولة الديمقراطية الأصيلة التي استبدلت بأشكال مختلفة من التأثير على المواطنين للحصول على ولائهم للأحزاب أو لشخصيات سياسية. ويتضمن الخطاب الرئاسي نفورا واضحا من الأحزاب السياسية التي يقال أن أدوارها انتهت في الحقبة الراهنة ويتضمن هذا الخطاب كذلك تصورا عن أزمة الديمقراطية الحالية وانحرافاتها ومن أهمها خيانة الممثلين لوعودهم، مما يفتح أفق ديمقراطية من طراز جديد: مباشرة أو مجالسية.... والواضح كما لاحظ كثيرون أن هناك عدم اعتراف بما يسمّى الأجسام الوسيطة les corps intermédiaires على غرار الأحزاب السياسية والصحافة ومنظمات المجتمع المدني. يعبر المجتمع الديمقراطي عن نفسه عبر منطق التمثيل. فالنواب في البرلمان يمثلون الشعب. وكذلك فان الرأي العام أو المجتمع يعبر عن نفسه في عبر الصحافة. والصحفي كان دائما يقدم نفسه على انه ترجمان الرأي العام (Interprète de l’opinion publique). وعلى هذا النحو يستمد الصحفي شرعيته من أنه يمثل الجمهور الذي هو في خدمته كما تشير إلى ذلك المواثيق الأخلاقية الصحفية الكونية. كما أنه يساءل السلطات الأخرى باسم حق الجمهور في الحقيقة وأن يطلع على إدارة دواليب الدولة (عبر الصحافة الاستقصائية مثلا).ويتجسد ذلك خاصة عندما يتعلق الأمر بالميديا العمومية باعتبارها مرفقا عاما من مهامه تأمين حق الناس في نظام سياسي شفاف. عبر الإطلاع على إدارة دواليب الدولة.
11. ولهذا فإن الديمقراطية تقيم بمستوى التنوع الذي يميز الحياة السياسية والصحافة والميديا والفضاء العامبشكل عام. فكلما كان المشهد متنوعا إيديولوجيا وسياسيا كلما كان ذلك دليلا على أن الرأي العام يتشكّل يعبر عن تنوعه بشكل حرّ.
12. إن ما يفسر رفض هذه الأجسام الوسيطة ليس فقط رؤية مخصوصة لديمقراطية بديلة، ولكن رؤية سياسة ترى في الزعيم (الرئيس) الوسيط الأمثل للشعب. فالأمر لا يتعلق فقط برؤية ما للديمقراطية (المباشرة أو المجالسية) بقدر ما يتعلق الأمر بنظرة الرئيس لنفسه باعتباره ممثلا أصيلا وحقيقيا للشعب الذي فضله الشعب على كل المرشحين الآخرين والذي لم تساهم الأحزاب في فوزه الذي تحقق دون توظيف الصحافة والميديا والمنظومات الحزبية والماكينات الانتخابية . وعلى هذا النحو فإن نظرة الرئيس لنفسه باعتباره امتدادا للشعب ومعبرا عن إرادته تمثل عنصرا أساسيا في فهم ممارسته السياسية. لقد كانت هذه الرؤية واضحة المعالم في الخطاب الرئاسي منذ الخطاب الذي ألقاه قيس سعيد أمام البرلمان (سنعود إلى هذا الموضوع في الجزء الثاني). إن ما يستدعي الاهتمام هو ذلك سوء التفاهم بين الرئيس وما كان يتجلى في خطابه عن نفسه وعما هو تجسيدا له (بمعنى l’incarnation) وبين رؤية النخب السياسية لفوزه في الانتخابات، نخب يبدو أنها لم تأخذ على محمل الجد معاني الخطاب الرئاسي الجديد. وعلى هذا النحو فإن الخطاب الرئاسي يقوم على أن الشعب قد اختار الرئيس وسيطا، يتجلى من خلاله أو الرسول بمعنى messager الذي يحمل رسالته (ما يريد الشعب) إلى العلن.
13. إن رفض الوساطة يمكن أن يكون أسلوبا في الاتصال السياسي يسمح للرئيس بتعزيز صورته الأولية أو الأيتوس (الشخصية النموذجية) التي سوّق لها بما انه رجل لا يتماهى مع السياسيين ومع نخب السيستام برمته. لكن مسالة رفض الأجسام الوسيطة ونزع الشرعية عنها بما أنها وساطات الشعب، كتكتيك سياسي، وعدم الخضوع إلى أدوارها بالمسائلة، يطرح إشكالا يتعلق بمسألة معرفة الشعب لنفسه أولا ومعرفتنا بما يريد الشعب ثانيا. فالشعب متنوع يتكوّن من فئات ذات خصوصيات مختلفة وهذا التنوع يخضع بدوره إلى التغير المستمر. فكيف يمكن للشعب في ديمقراطية بلا وسائط، أن يعرف نفسه (أو بالأحرى التنوع الذي يقوم عليه وما تريده مكوناته المختلفة)، وكيف يمكن للشعب أن يتجلى لنفسه وهل أن معرفة الشعب لنفسه هي نتاج عملية غير معلومة، سحرية لا نراها ويمكن رصدها فقط عندما يقرر مجموعة من المواطنين سحب الوكالة من ممثلهم ؟ أم أنها نتاج أنشطة مخصوصة تواصلية تعبيرية تتشكل بواسطتها معرفة الناس لما يريدونه عبر النقاش والمداولة والتفاعل مع الآخرين. ثم لنفترض أن الشعب بمختلف مكوناته المتعددة ومصالحها المتضاربة يمكن أن يعرف جيدا ما يريد فكيف يمكن لنا أن نلج إلى هذه المعرفة في غياب الوسائط من أحزاب ومنظمات مدنية وصحافة متنوعة أم يجب الاكتفاء فقط بظهور المواطنين الدوري في شكل محتجين في الشارع ؟
نحو «المجتمع الهستيري»
14. إن ما يميز الديمقراطية كنظام ثقافي كما يقول ذلك كلود لوفور هو أنها نظام يقرّ بالطبيعة المنقسمة للمجتمع كما أن فرادتها تكمن في أنها تنظم (أو تمؤسس) هذه الصراع الذي هو جوهر المجتمع المتنوع. وهذا ما يميزها عن الأنظمة السياسية الشمولية. لقد قامت الديمقراطية دائما على فكرة الوسائط. فالأفراد أو المواطنون (المختلفون) يتحوّلون إلى جماعة سياسية بواسطة النقاش العام، يتفاعلون مع بعضهم البعض في الفضاء العام للتوافق على القوانين التي يسيرون عليها. وفي المجتمعات الجماهيرية يحتاج المواطنون إلى ممثلين عنهم ينوبونهم في أمور التشريع. وخارج المواعيد الانتخابية، عندما لا يتظاهرون في الشارع، فإن الناس يعبرون عن أنفسهم عبر وسطاء على غرار الصحافة أو الأحزاب أو منظمات المجتمع المدني أو استطلاعات الرأي. تمثل هذه الأنشطة كلها الحياة السياسية الديمقراطية.
15. فما هي المخاطر التي يمكن أن تنجم عن ديمقراطية بلا وسائط بلا مجالات يتجلى فيها الشعب المتعدد والمتنوع لنفسه ويتمثل تنوعه عبر النقاش العام الذي يسمح بالوصول إلى توافق على ما يريد. وفي هذا الإطار أليست الديمقراطية التي تخلصت من الوسائط سوى، في أحسن الأحوال ديمقراطية إنصهارية une démocratie fusionnelle قائمة على تلاحم الرئيس بشعبه، لا مكان فيها للتعدد والتنوع لأن الشعب يرى نفسه كتلة واحدة يظهر لنفسه بواسطة أشكال انفعالية في الشارع بشكل فج فيما يشبه عودة السياسة إلى ما قبل المدنية.
16. إن هذه الديمقراطية الإنصهارية قد تؤدي بنا إلى مجتمع «هستيري» يغيب فيه الفضاء العام الذي يدار فيه الانقسام والصراع ليتحول إلى توافق. فهذا الفضاء العام، كما تقول حنا ارندت Hannah Arendt الطاولة التي تجمع الناس حولها وتفصلهم في الوقت ذاته والذي يسمح بالبحث عن التفاهم بواسطة الإدارة المشتركة للاختلاف والذي في غيابه يتحول المواطنون إلى جموع متناحرة أو أفراد منعزلين شاردين. إن رفض الوسائط هو إذن رفض التنوع الذي يحتاج إلى التعبير عن نفسه بأشكال مختلفة في أحزاب متعددة وميديا متنوعة وجمعيات لا حصر لها تميز مجتمع تخلص من وهم تجسيد نفسه في الرمز الواحد الموحد. وفي هذه الديمقراطية الإنصهارية ينظر الناس إلى أنفسهم باعتبارهم أعضاء لأسرة واحدة (التعبير لحنا أرندت) كل واحد فيها هو امتداد للأخر فيتحولون إلى حشود هستيرية (foules hystériques) تناصب العداء إلى كل من لا يشبها تلاحقهم لنفيهم، حشود حاقدة عن المختلفين عنهم، لا يقبلون الروايات البديلة والمختلفة لما يعتقدون أنها الحقيقة، يغضبون عند سماعها، ينفعلون ويلاحقون هائجين كل من يروج لها، يتملكهم الهلع عند الاعتقاد بأن خطر ما يهدد وحدة الشعب-الأسرة.
• أنظر: «الشارع المغاربي» تنشر حوار قيس سعيد كاملا https://bit.ly/3A6XC0d
يتبع