وإنما فقط للفت الانتباه إلى أن العمل الحكومي عمل فريق، لكل وزير دوره، ولمنسقهم العام دوره الخاص، من بين خصائصه التمكن من مختلف الملفات الوزارية حتى يحسن الملاءمة والتأليف، لأن النجاح بقدر ما يكون في كل ميدان على حدة بقدر ما يكون في التناسق والتناغم، لأن الدولة والأرض والمجموعة واحدة.
ولا تفيد بشيء مقولة أن المطلوب من رئيس الحكومة أن يكون ذا كفاءة اقتصادية، لأن الاقتصاد يشتمل على مائة اختصاص واختصاص زائد، وأن المختص في المالية قد لا يفيدك في التشغيل والمختص في التشغيل قد لا يفيدك في التهيئة الترابية.
كما أن المطالبة بأن التجربة والكفاءة لا بد أن تشمل التمكن من تسيير دواليب الدولة غير كاف، لأن الاقتصاد أيضا مؤسسات عمومية وخاصة ومنافسة وإبداع وشراكة وسوق منفتحة داخليا وخارجيا وتمويل واستثمار، لها قواعدها التي ليس لها أي علاقة بالشأن الإداري، المبني أساسا على الاحترام الشكلي والكامل لما هو قانوني صرف وإجرائي.
أي أنه،بعد التأكد من الكفاءة العملية للوزراء، المكلفين بقطاعات وميادين مختلفة ومتنوعة، فإن المطلوب من رئيس الحكومة يتمثل في النظرة الوطنية الشاملة لاستحقاقات تونس،انطلاقا من واقع النصف الثاني من سنة 2021 والأخذ بعين الاعتبار لأفق مركب، يشمل في نفس الوقت المدى القصير والمتوسط والطويل.
وعند هذه النقطة بالذات تعترضنا لمقولة بأن رئيس الحكومة يجب أن يكون «مسلحا بمنوال تنموي» يسير على هديه. وهي مقولة فارغة، حيث المطلوب من رئيس الحكومة أن يكون أولا وقبل كل شيء مسلحا بالصبر، لأنه سيجد نفسه لا فقط أمام استحقاقات متناقصة ومتضاربة ولكن أيضا في حضرة مناويل طويلة وعريضة، كل منها يعتبر نفسه المالك للحقيقة، بينما الحقيقة الاقتصادية الوحيدة تتمثل في التنسيب واستحضار واعتبار وتقييم البدائل في كل شيء، والاستعداد للتفاوض المفتوح، لكن الكل بالاعتمادعلى جملة من القيم والمبادئ والأهداف الكبرى المشتركة أو على الأقل التي تتقاسمها الأغلبية الأوسع.
ومثل هذا النوع من التمشي العقلاني يعطي فرصة ثمينة لكسر الإيديولوجيات اليابسة والمحنطة والمعطلة للمادة «الشخمة» كما كان يقول بورقيبة. لأنه إذا وقع الاتفاق على ضبط الأهداف وفي نفس الوقت الرصد الكافي للإمكانيات والمعوقات، فإن الطريق المؤدية لا تهم. وهنا يكمن مثلا سر نجاح الصين المنقطع النظير بعد وصول دنج سيو بنج للحكم ومقولته الشهيرة «لا يهم أن يكون لون القط أسودا أو رمادياإذا كان قادرا على اصطياد الفئران». أي أنه، على سبيل المثال، إذا كان هناك نوع من القطاع الخاص الفاسد لأنه إما محتكر أو منفلت عن كل المنظومات فمن الشرعي التخلص منه، وكذلك إذا كان هناك نوع من القطاع العام غير القادر على توفير الخدمة أو المنتوج بالجودة والسعر المطلوب، فهو قطاع فاسد، وجب التخلص منه أيضا، خاصة عندما تمتد مدة محاولة إصلاحه إلى عقود دون جدوى، بل واقعه هو النزول المتواصل نحو الهاوية.
وحتى نبرز أن ما سبق ليس عموميات وإنما في صلب الموضوع، نستعرض ما وقعت تسميته «ملفات حارقة»، تتطلب «إصلاحات موجعة»، اتخذت شكل «شروط» من طرف الشركاء، وهي تباعا: «كتلة أجور الوظيفة العمومية» و»الدعم» و»المؤسسات العمومية» و»مناخ الأعمال».
وقبل أن ننتهي إلى كونها ليست هي الملفات الحارقة وأن كيفية طرحها مغلوطة وأن «الشروط» الموضوعة على طاولة التفاوض شروط واهية، نقوم بتناولها مسألة بمسألة، لنبين الطابع الفارغ لذلك النوع من الملفات والتي يتم البحث على أساسها عن رؤساء حكومات «منقذين» لأنهم سيكونون «قادرين على التفاوض في أمرها».
أولا الحديث عن مؤشر «نسبة أجور الوظيفة العمومية من الناتج المحلي» لخبطة مفهومية لا رأس لها ولا «ساس». لأنه يكفي بأن ينزل الناتج الداخلي إلى الحظيظ كما هو الأمر في تونس منذ 11 سنة حتى يقفز ذلك المؤشر نحو السحاب، ليس بقوة الأجور وإنما بضعف الناتج. وكان من الأجدى تناول نسبة أجور الوظيفة العمومية من الميزانية، وهي مسألة لن نتناولها هنا لضيق المجال.
مسألة الدعم قديمة - جديدة، لا يخلو منها مجتمع، أولها شريكنا الاتحاد الأوروبي، الذي يدعم بأكثر من مائة ٪ مجمل قطاعه الزراعي والغذائي، وإلى حد الآن لم يقع التوصل إلى حل من نوع «دعم الأشخاص وليس المواد»، وإذا توفر ذلك الحل دون أن يؤول إلى ثورات مثل ثورات الخبز ومئات القتلى فلا بأس أن يتم النظر فيه.
مسألة «الشركات العمومية الخاسرة»، قد وقع التوصل في أمرها إلى لغة مشتركة بين مختلف الأطراف المعنية، ألا وهي «النظر حالة بحالة» والابتعاد عن كل موقف أيديولوجي يقر إما بأن «القطاع العمومي فاسد بطبيعته» او بأن «القطاع العمومي صالح بطبيعته».
وفي ما يتعلق بما يمسى بـ«مناخ الأعمال»، فهو مرتبط بالشفافية والنفاذ إلى المعلومة والمساواة أمام القانون والحد من غطرسة اللوبيات والإصلاح الجذري للقضاء والإدارة وإصلاح الاعلام ويقظة المجتمع المدني وبناء الأحزاب على قواعد جديدة تنبذ الفساد والإفساد، وهي أهداف جوهرية نبيلة، لكن بأي طريقة سيتم التفاوض في شأنها مع صندوق النقد والبنك الدوليين،وعلى أساس أي رزنامة مضبوطة وأهداف وآليات؟ إذا كان ذلك ممكن لما لا؟ لكن الأغلب على الظن أن الأمر سوف لن يتجاوز التوصيات العامة.
ولقد قلنا وكررنا عديد المرات ومنذ سنوات،وقد كنا من معارضي قرطاج 1 و2 زمن رئاسة صديقنا العزيز المرحوم الباجي قائد السياسي والتي جمعت طيفا عريضا من الأحزاب والمنظمات، أن التركيز على «شروط الشركاء» والبحث عن «رئيس حكومة يفهم لغتهم» تمشي يعكس العجز والتقصير والتسليم للغير لكي يمرر ما يشاء حسب رِؤاه الخاصة، بينما السؤال والجواب على هذه المسائل الوطنية من عندنا ولدينا. وعلى فكرة لقد تمكن صندوق النقد الدولي من تمرير ما يريد في خصوص ترك قيمة الدينار تنزل لدفع التصدير وسعر قروض البنوك يرتفع للحد من التضخم، لكن لم نتحصل على أي نتيجة لا في هذا المجال ولا في ذاك، بل انجرت عن ذلك ولا تزال كوارث في كوراث.
أمرنا معطل لأننا لم نتفق على تمشي وطني، ولو مرحلي، يستجيب للأولويات الأولوية، مبني على المعرفة بأدق ما يكون للواقع، بمختلف مظاهره الاقتصادية والاجتماعية والمالية، من أجل بناء تمشي مشترك ومقنع لأوسع ما يمكن من الشرائح، يرمي إلى تحقيق الأهداف الوطنية المشتركة مع مراعاة الظروف، تنتج عنه بمجرد بلورته ثقة وطنية جديدة، ينجر عنها دفع جديد للإنتاج الذي هو الحل الوحيد للخروج من الجمود القاتل الذي يجعلنا لقمة سائغة لمن هب ودب. وانطلاقا من مثل هذا الموقف الوطني المتلاحم والمتآزر والصلب يأتي التفاوض وتونس واقفة على قدميها وليست منبطحة على بطنها، وحتى الشركاء الجديون فإنهم لا ينتظرون غير ذلك، لكن في غياب هذا المنتظر فإنهم إما حائرون في أمرنا أو سيمرون إلى المرحلة الموالية، مرحلة تخييرنا بين اليونان ولبنان.
دوامة البحث عن الحكومة الأقدر والأجدر!
- بقلم بوجمعة الرميلي
- 09:35 16/09/2021
- 622 عدد المشاهدات
يستحسن كثيرا في هذا الشأن البدء بالحديث عن الحكومة قبل الحديث عمن يرأسها. وذلك ليس للتنقيص من قيمة رئيس الحكومة