في العالم الثالث وفي كل أنحاء العالم كما خلف كذلك هذا الرحيل في نفسي الكثير من الحزن والمرارة لا فقط للقيمة العلمية والفكرية لسمير ،كما كنت أناديه بكل بساطة وبدون تكلف،بل كذلك للعلاقة الشخصية القوية التي ربطتني به كما ربطت كذلك عائلتينا منذ أن عرفته في منتصف ثمانينات القرن الماضي .ومنذ تلك اللحظة أصبحت شريكا لندواته الهامة التي كان ينظمها في كل أنحاء العالم .وكان يقترح دعوتي إلى المؤتمرات الكبرى التي تقع دعوته إليها،لنقضي الوقت مع بعض ونواصل نقاشاتنا التي لا تنتهي في أهم القضايا الفكرية.كما دعاني إلى كتابة بعض كتبه مع بعض وهو شرف قل أن يعطيه مفكر عالمي في قيمة سمير أمين إلى مفكر مبتدئ.وقد وصلت هذه العلاقة الفكرية والصداقة بيننا إلى درجة أن الكثير اعتبروني وريثه الفكري .
وتكمن في رأيي أهمية سمير أمين في جانبين مهمين الأول في كونه بنى مدرسة فكرية من خلال كتبه ومقالاته منذ نهاية خمسينات القرن الماضي وهي مدرسة «التبعية» (école de la dépendance) والتي تؤكد على تبعية العالم الثالث والبلدان الحاصلة على استقلالها إلى سلطة المركز نظرا للطابع اللامتكافيء وغير العادل للنظام العالمي .ونادى سمير أمين بضرورة الثورة على النظام العالمي وتغييره جذريا من اجل توفير ظروف النمو المستقل لبلدان العالم الثالث .وكان لهذه المدرسة تأثير منقطع النظير على المستوى العالمي إلى حدود منتصف ثمانينات القرن الماضي .
كما تعود أهمية سمير أمين إلى الاعتراف الذي حظيت به تحاليله ونظرياته على المستوى العالمي ليصبح المفكر العربي الوحيد الذي وصل إلى درجة العالمية .
فقد تم ترجمت كتاباته إلى كل لغات العالم وكانت نظرياته تدرس في كل جامعات العالم و في بلدان العالم الثالث كما في البلدان المتقدمة .كما سعت أهم جامعات العالم وتنافست في ما بينها لإقناعه بتلبية دعواتها لتقديم محاضرات وندوات والنقاش مع طلابها وأساتذتها .
وكان كذلك لقادة وسياسيي بلدان العالم الثالث اهتمام بآراء وأفكار سمير أمين وكانوا كثيرا يستشيرونه حول القضايا العالمية .وكان مدعوا دائما لقمم بلدان العالم الثالث وخاصة اجتماعات دول عدم الانحياز .
عادت بي الذكرى هذه الأيام لتحاليل سمير أمين ولنقده الراديكالي للنظام العالمي والذي يعتبره وراء التفاوت وعدم المساواة بين البلدان على المستوى العالمي .وأشار في هذه التحاليل إلى أن هذا التفاوت كان وراء التبعية التي تعيشها بلدان العالم الثالث تجاه البلدان المتقدمة والتي تفسر غياب سيادتها على القرارين الاقتصادي والسياسي .
كانت لي نقاشات مطولة مع سمير أمين حول هذه القراءة لواقع العولمة في السنوات الأخيرة .وقد وجهت له بعض النقد واعتبرت أن هذه النظرة إلى الواقع العالمي وقراءتها على قاعدة الصراع بين الشمال والجنوب أو المركز والمحيط كما يحلو له تسميتها لم تعد مواكبة للتطورات التي يشهدها العالم .فلئن كانت هذه القراءة مهمة وقادرة على فهم حركة العولمة منذ نهاية الخمسينات ووصول الكثير من البلدان المستعمرة إلى الاستقلال إلى حدود منتصف التسعينات فقد شهد العالم منذ تلك الفترة تطورات مهمة وبصفة خاصة مع ظهور القوى الاقتصادية الجديدة كالصين والهند مما جعل هذه القراءة بالية تجاوزها الزمن .
لم يكن سمير أمين يقبل بسهولة بهذا القرار لكنه كان يؤكد على وجود بعض العوالم الهيكلية في النظام العالمي والتي تجعل النمو المتكافيء و العادل حلما بعيد المنال .
وعندما نحاول قراءة تطورات الوضع العالم بعد الجائحة وبالرغم من التطورات والفرص التي فتحتها العولمة أمام البلدان النامية فانه لا بد لنا من الإقرار بوجود عوامل تزيد من اللامساواة وغياب العدالة والتي تتطلب تغييرات جذرية .
• في التبعية التقليدية :
كان لنظريات الدكتور سمير أمين تأثير كبير منذ نهاية الخمسينات حصول عديد البلدان المستعمرة على استقلالها .وكان السؤال عندها هل يمكن لهذه البلدان أن تتمكن من تدعيم استقلالها السياسي باستقلال اقتصادي وبناء اقتصاد وطني يقطع مع المنظومة الاستعمارية ومن تبعية هذه البلدان الى المركز الاستعماري .
وقد اعتبر سمير أمين أن هذا التحول السياسي والاقتصادي لا يمكن أن يحصل طالما حافظ على النظام العالمي على حاله ولم يقع تغييره بطريقة راديكالية تساعد البلدان النامية على الدخول في مرحلة جديدة مستقلة .وقد أكد سمير أمين في تحاليله على أن عديد العناصر في النظام العالمي تساهم في إعادة إنتاج التبعية والتخلف في البلدان النامية .ومن ضمن هذه العنصر أشار سمير أمين إلى نظام الأسعار العالمي حيث أن البلدان المتقدمة تسعى إلى إبقاء أسعار المواد المصدرة من طرف البلدان النامية وبصفة خاصة المواد الأولية في مستويات منخفضة بينما تعمل على الترفيع في أسعار المواد الصناعية التي تنتجها.ويساهم هذا الفارق في تحويل القيمة المضافة إلى البلدان المتقدمة والى مركز النظام العالمي .
كما أشار سمير أمين كذلك إلى تحويل التكنولوجيا (transfert de technologie) من البلدان المتقدة إلى البلدان النامية حيث تسعى الشركات الكبرى الى مسك التكنولوجيا وعدم تمكين البلدان النامية من أسرار صنع الآلات التي يقع استيرادها .وهكذا تواصل التكنولوجيا إعادة إنتاج تبعية البلدان النامية إلى المركز العالمي .
ومن ضمن العناصر التي تلعب دور مهما في هذه التبعية أشار سمير أمين إلى مسألة تمويل التنمية ليشير إلى أن المديونية ستكون وراء تواصل أغلال استغلال بلدان الشمال لبلدان الجنوب.
كان لهذه القراءات والتحاليل أثير كبير على المستوى الدولي وقد لعبت دورا أساسيا في مطالبة دول عدم الانحياز ومجموعة 77 ببناء نظام اقتصادي عالمي جديد.ولم تقف هذه البلدان عند المطالب بل خطت خطوات عملية للخروج من الدوران في الحلقة المفرعة للتبعية ففرضت تغيير أسعار المواد الأولية بعد الحظر الذي قامت به الدول العربية ومنظمة الأوبيك ،اثر حرب 1973.كما عملت هذه الدول على خلق مؤسسات تمويل جديدة للابتعاد عن هيمنة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مثل البنك الإفريقي للتنمية والبنك الإسلامي للتنمية وعديد مؤسسات التمويل الأخرى .
إلا أن هذه القراءات والتحاليل والسياسات عرفت تراجعا كبيرا وانحسارا منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي .
• نهاية التبعية ؟
عرفت هذه الأفكار تراجعا كبيرا منذ منتصف الثمانينات لعديد الأسباب لعل أولها تلك الهجمة أو الثورة النيوليبرالية التي عرفها العالم في هذه الفترة والتي ستكون وراء تراجع الافكار الاشتراكية والراديكالية .كما يمكن لنا أن نشير كذلك إلى أزمة المديونية والتي انطلقت في المكسيك سنة 1982 والتي شملت اغلب بلدان العالم الثالث .وكان لهذه للازمة انعكاسان مهمان - الأول اقتصادي حيث ساهمت هذه الأزمة وهشاشة اقتصادها في تراجع مشاريع النمو المستقل والانخراط في مشاريع التعديل الهيكلي تحت ضغط صندوق النقد الدولي والبنك العالمي .
أما الانعكاس الثاني فهو سياسي حيث لعبت هذه الأزمة دورا مهم في فك وحدة هذه البلدان في مواجهة البلدان المتقدمة .إلا أن النقد المهم لهذه النظرية سيأتي مع التطور الكبير الذي سيعرفه النظام العالمي منذ منتصف التسعينات حيث ستبرز عديد القوى الاقتصادية والسياسية الجديدة مثل الهند والصين والبرازيل وجنوب إفريقيا وكوريا الجنوبية والتي ستصبح لاعبا مهما في هذا النظام .
قد قبلت القوى الاقتصادية التقليدية بهذا التحول والتغيير وفتحت مؤسسات إدارة هذا النظام العالمي لهذه الدول من خلال مجموعة العشرين وغيرها من المنظمات الأخرى .
إذن أصبح من الصعب الحديث على انغلاق النظام العالمي في ظل بروز قوى جديدة وفاعلة على المستوى الاقتصادي ومؤثرة على المستوى السياسية .
• في أشكال التبعية الجديدة:
لقد خلنا أن عهد عدم التكافؤ والتفاوت في النظام العالمي قد ولى وانتهى .إلا أن الأزمة الحالية والجائحة التي تهز أركان العالم كانتا وراء ظهور أشكال جديدة من التبعية لعل أبرزها صعوبة الحصول على التلاقيح وعدم توفير الإمكانات المالية للدول النامية من أجل وضع برامج إنقاذ اقتصادي ودفع الاستثمار والنمو .
وهذه التطورات والأشكال الجديدة للتبعية وعدم المساواة تؤكد صحة قراءات وتحاليل سمير أمين حول التوجه الطبيعي للنظام العالمي نحو هيمنة الأقوى وسيطرته .وهذا يدفعنا إلى التأكيد على مسالة سياسية هامة وهي ضرورة الوقوف أمام هذا التمشي الطبيعي والعمل على القيام بالإصلاحات الضرورية في كل مواطن الخلل حتى يكون النظام العالمي إطارا للتنمية المشتركة والتعاون والعيش المشترك والتضامن بين الشعوب لا مجالا للصراع والحروب والاقتتال .
في أسباب الثورة على النظام العالمي
- بقلم حكيم بن حمودة
- 10:48 28/06/2021
- 960 عدد المشاهدات
ترك الرحيل المفاجئ للدكتور والمفكر الكبير سمير أمين في أوت 2018 لوعة وحسرة كبيرتين عند أصدقائه ولدى كل المفكرين والناشطين السياسيين