لتولّى منظومة التّعليم العالي دور تكوين الموارد البشريّة التي كانت البلاد في حاجة لها بعيد الاستقلال. وكان هذا الأمر طبيعيّا بالنّسبة لدولة الاستقلال الفتيّة التّي كانت في حاجة كبيرة لإطارات في مختلف الميادين، من إدارة وتعليم وصحّة ونسيج اقتصادي ناشئ مثّلت الشركات والمؤسسات العمومية عموده الفقري.
ونجد صدى لهذا الاهتمام في النّصوص القانونيّة المنظّمة للتّعليم العالي. إذ نصّ القانون عدد 118 لسنة 1958 المتعلّق بالتّعليم في الفصل الخامس والعشرين من بابه الثّالث على أنّ من الغايات الأساسيّة للتّعليم العالي «تكوين الإطارات العالية العلميّة والفنيّة وغيرها اللاّزمة لحياة الأمّة وخاصّة من أساتذة التّعليم الثّانويّ وكذلك تمكين التّعليم في كامل درجاته أن يستفيد من رقيّ العلم والمعرفة». كما نصّ الأمر عدد 98 لسنة 1960 المتعلّق بإحداث وتنظيم الجامعة التّونسيّة على أنّ من أهداف الجامعة التّونسيّة «تنظيم التّعليم العالي ونشره وتحقيق تكوين الإطارات العليا لسدّ حاجيّات مختلف فروع النّشاط بالبلاد». ونجد كذلك نفس الاهتمام في القانون عدد 3 لسنة 1969، وهو أوّل قانون متعلّق بتنظيم التّعليم العالي في تونس المستقلّة، في فصله الرّابع أنّ من المهام التّي تضطلع بها الكليّات والمعاهد ومدارس التّعليم العالي «تنظيم ونشر تعليم عال يساير تطوّر المعرفة والواقع القوميّ ويستجيب لحاجيّات البلاد». ويمكن من متابعة ما حصل في تونس خلال العشريّات الثّلاث الأولى بعد الاستقلال، استخلاص أنّ منظومة التّعليم العالي قد أدّت هذا الدّور على وجه مرضيّ، إذ طعّمت الدّولة والاقتصاد بموارد بشريّة مكوّنة أحسن تكوين. كما لعبت أيضا دور المصعد الاجتماعيّ لشرائح واسعة من التونسيين حيث كانت الشّهادة الجامعيّة ضمانة آنيّة لشغل قارّ ومحترم مكّن عائلات بأكملها من الارتقاء الاقتصادي والاجتماعي.
إلّا أنّ الأوضاع تغيّرت شيئا فشيئا نحو الأسوأ انطلاقا من منتصف ثمانينات القرن الماضي لكي تتحوّل راديكاليّا خلال أربعين سنة، إذ ارتفع عدد العاطلين عن العمل المتحصلين على شهادة جامعيّة عبر السّنين من 500 سنة 1980 إلى 285.400 خلال الثلاثي الثاني لسنة 2020 كما يبيّن ذلك الجدول التالي:
تطوّر عدد العاطلين الحاصلين على شهادة جامعية. *الثلاثي الثاني
كما ارتفعت نسبة العاطلين عن العمل من المتحصّلين على شهادة جامعيّة عبر السّنين من 3.4 % سنة 1994 إلى 31.2 % خلال الثلاثي الثاني لسنة 2020 كما يبيّن الجدول التالي:
تطوّر نسبة العاطلين من الحاصلين على شهادة جامعية. *الثلاثي الثاني.
وقد كان لهذه التطوّرات المخيفة لأعداد العاطلين ولنسبهم وما تمثّله من ضرب للشهادة الجامعيّة كمصعد اجتماعي، وقع على سياسات الدّولة، اضطرها لمحاولة فهم الأسباب وطرح مخارج لما أتّضح أنّه أزمة هيكليّة تمسّ تشغيلية الحاصلين على شهائد جامعية.
ارتأت السّلطة السيّاسيّة تحديدا وبصفة صريحة انطلاقا من منتصف العشرية الأولى للقرن الحالي، أنّ الخلل يكمن أساسا في منظومة التّعليم العالي التي أصبحت محل اتهامات بعدم الانفتاح على النسيج الاقتصادي وبتكوين خريجين غير قادرين على الاستجابة لحاجيات سوق الشّغل. ولدعم الانفتاح وتحسين الاستجابة، انتهجت وزارة الإشراف سياسة تعميق التوجه نحو مهننة التّكوين في الجامعات وسطّرت أهدافا ثلاث وهي ربط مسارات التكوين بالمهن وتشجيع إرساء مسارات قصيرة وتطوير البحث العلميّ التّطبيقي. كما يتجلّى هذا التّوجه في فرض أن يكون عدد الإجازات التّطبيقية ضعف عدد الإجازات النظريّة ضمن ما سميّ آنذاك بإصلاح إمد، وفي فتح المجالس العلميّة ومجالس الجامعات لممثلين عن المحيط الاقتصادي والاجتماعي والثّقافي، وامضاء اتفاقية شراكة مع اتحاد الصّناعة والتّجارة والصّناعات التقليدية تفتح الباب للبناء المشترك للإجازات التطبيقية ولإمكانيّة مساهمة المهنيين في التّكوين. ورغم تنبيه الطّرف النقابي الممثل في تلك الفترة في النقابة العامة للتعليم العالي والبحث العلمي فالجامعة العّامة للتعليم العالي والبحث العلميّ، إلى المخاطر والانزلاقات التي يمكن أن تقع فيها مثل هذه المقاربات، إلّا أنّ السلطة السياسية لم تأخذ بعين الاعتبار التحفظات ولم تتردّد، وتمادت في هذا التوجّه بطريقة أحاديّة مؤكّدة للرّأي العامّ الجامعي والوطني أنّ ذلك هو التوجّه الصّحيح لحل معضلة عطالة الحاصلين على شهائد جامعيّة.
اليوم، وبعد مرور أكثر من خمسة عشر سنة على اعتماد هذه السياسات من الواضح أنّ تقييمها يؤكّد فشلها الذّريع في تحقيق أي تغيير في تشغيلية الحاصلين على شهائد جامعيّة. لم تستطع هذه السياسات لا قلب الاتجاه ولا حتى كبحه، بل رأينا تنامي ظاهرة جديدة وهي عطالة حاملي شهائد الماجستير والدكتوراه. ونعتقد أنّ هذه المقاربة التي رأت أنّ الخلل الأكبر هو في منظومة التعليم العالي وحمّلتها مسؤوليّة عطالة الحاصلين على شهائد جامعية كانت مقاربة خاطئة إذ أغفلت معطيات أساسيّة نرى أنّها مهمّة وأنّها هي السبب الرئيسي لعطالة حاملي الشهائد الجامعية.
تمثّل حسب رأينا هيكلة النسيج الاقتصادي التونسي عائقا أساسيّا تقف وراء عدم قدرته على امتصاص المتخرجين من الجامعات التونسيّة. من الواضح أنّ انتداب خرّيجي الجامعات من قبل الوظيفة العموميّة والقطاع العموميّ أصبح يقتصر في أغلبه على قطاعات قليلة كالتربية والصّحة والتّعليم العالي وبضع قطاعات حسّاسة أخرى، وأنّ الأعداد التي يتم انتدابها داخل هذه القطاعات محدودة. كذلك آليّات التّشغيل، ورغم أنّها لا توفّر مقوّمات الشّغل اللائق، فقد أثبتت التجربة هشاشتها وعدم قدرتها على المساعدة على تحسين ما سميّ «تشغيليّة» خريجي التّعليم العالي. أمّا القطاع الخاصّ، فلم يثبت إلى الآن قدرته على القيام بالمجهود المنتظر منه.
نعدّ في تونس اليوم إجمالا 782155 مؤسسة خاصّة في ارتفاع ملحوظ على مدى العقدين السّابقين كما يبيّن ذلك الجدول التّالي:
هذا الارتفاع الكميّ المتواصل منذ ما يقارب العقدين في عدد المؤسّسات قد يوحي في ظاهره بديناميكيّة ونشاط وتطوّر وبحاجة إلى انتداب إطارات كفؤة حاصلة على تكوين جامعيّ رفعا من هذه المؤسسات لتحديّات التنافسيّة ولمردوديّتها وتحسينا لقدرتها على الولوج للأسواق في ظلّ تنافسية عالميّة محتدمة. إلّا أنّ هذا الارتفاع في عدد المؤسّسات يخفي حقيقة أخرى مختلفة تماما وذلك نتيجة التركيبة الهشّة لهذه المؤسسات. ولتبيان ذلك، نقدّم الأرقام التّالية. على مجموع 782.115 مؤسّسة خاصّة سنة 2019، هناك 679.770 مؤسّسة لا تشغّل أي أجير، وهو ما يمثل 87 بالمائة من مجموع المؤسسات الخاصّة. ويرتفع عدد المؤسسات التي تشغّل بين أجير وأجيرين إثنين إلى 59.311 مؤسسة خاصّة ما يمثّل 7.6 بالمائة. أمّا المؤسسات التّي تشغّل بين ثلاثة وخمسة أجراء فعددها 21.192 وهي 2.71 بالمائة من المؤسّسات، أي أنّ 97.3 بالمائة من مؤسّساتنا لا تشغّل أكثر من خمسة أجراء على أقصى تقدير. ولا تمثّل المؤسسات التي تشغّل 200 مؤجّر أو أكثر سوى 0.1 بالمائة أي 956 مؤسّسة. ولا يحتاج الأمر تمحيصا كبيرا لاستنتاج أنّ مثل هذه التّركيبة لا يمكن أن تتماشى مع عدد خريجي الجامعة المقبلين على سوق الشّغل الباحثين عن عمل لائق ومناسب للشهائد التي يحملونها.
ومن الواضح ممّا سبق أنّ وضع كلّ المسؤوليّة فيما يخصّ معضلة عطالة خرّيجي منظومة التّعليم العالي على عاتق هذه الأخيرة وذلك نتيجة ما قيل عنها سابقا وما يقال عنها إلى الآن من عدم الانفتاح على النسيج الاقتصادي وبتكوين خريجين غير قادرين على الاستجابة لحاجيات سوق الشّغل، مجانب للحقيقة. فتركيبة سوق الشّغل هي أيضا سبب أساسيّ من أسباب هذه المعضلة. فكما بيّنا أعلاه فإنّ هذه التّركيبة تجعل سوق الشّغل في أغلبيته الساحقة غير قادر أصلا على التّعبير عن حاجياته حتّى للمدى القصير فما بالك بالمدى المتوسّط أو البعيد بطريقة منهجيّة وعقلانيّة، عدا الشركات الكبرى التّي تستطيع القيام بذلك، ولكن قدرتها التشغيلية محدودة بحكم عددها القليل جدا كما تبيّن الأرقام المذكورة أعلاه. وما عدا ذلك فإنّ ما يسمّى تعبير عن حاجيات سوق الشّغل ليس سوى انطباعيّة وتفصيلا على المقاس. فهل يمكن في ظلّ هذه الأوضاع، العبث بمنظومة التّعليم العالي عبر وضع برامجها التكوينية في خدمة نسيج اقتصادي لا يزال في بدايات تبلوره الحقيقي باحثا عن مكان تحت الشمس يضمن استمراريته وفعاليته، وعن الآليّات الضّروريّة للتعبير العقلاني عن حاجيّاته لكي يؤكّد مكانته وقدرته على امتصاص خريجي هذه المنظومة؟
ختاما وددت التّذكير بمقولة لأحد المسؤولين السّابقين للتّعليم العالي والبحث العلميّ الذّي روي أنّه قال بعد انتهاء مسيرته المهنيّة الطّويلة صلب الوزارة ما معناه «قضيّنا سنوات عديدة باحثين عن سبل دعم انفتاح الجامعات والمؤسسات الجامعيّة على محيطها الاقتصاديّ وكان الأجدى بنا أن نعمل على دعم قدرة المحيط الاقتصاديّ على الانفتاح على جامعاتنا ومؤسّساتنا الجامعيّة».
قضايا جامعية: منظومة التعليم العالي في تونس وهواجس التشغيلية
- بقلم المغرب
- 10:12 31/05/2021
- 1786 عدد المشاهدات
بقلم: نزار بن صالح، أستاذ تعليم عال
منذ إحداث أولى مؤسّسات التّعليم العالي في تونس، ثم الجامعة التّونسيّة سنة 1960، أعطت الدّولة التّونسيّة أهميّة كبرى