حول موقع الفرد ضمن سيرورة العلاقات الاجتماعية، وعن ارتباطاته المتعددة بالجماعة وبالحركات الاجتماعية وعن علاقته بذاته وهو يصنع تاريخه. ولهذا كانت المقولات التي تعبّر عن موقع الفرد متحولة ومتشكلة وفق علاقة الفرد بالحداثة في مستوياتها المختلفة.
شاءت العلوم الإنسانية والاجتماعية أن تضع الفرد ضمن مقولة كبرى وشاملة استمرت عقودا وتأسست حولها أغلب الكتابات وهي مقولة التنشئة الاجتماعية. وتعني هذه المقولة كما صيغت في بدايات تشكل العلوم الانسانية والاجتماعية تلك القدرات التي للفرد كي يندمج في المجتمع، كي يستوعب عبر مؤسسات التنشئة كيف يكون وفيا للمجتمع وكيف يبني معه علاقة توافق وانسجام. وتعني أيضا ما يتيحه المجتمع من مقترحات متعدّدة للفرد كي يسهل عليه قبول إكراهات دامجة. لم يكن التساؤل حول الفرد بقدر ما كان حول الأدوار التي يمكن أن يلعبها الفرد عبر التنشئة الاجتماعية في الحفاظ على النظام الاجتماعي وتماسكه. ولكن السؤال الأهم هو كيف يمكن إدراج التوافق وفي نفس الحركة بين استقلالية الأفراد من جهة واندماجهم في المجتمع من جهة ثانية. ولكن هناك في الطرف المقابل من اهتم بمسألة التنشئة الاجتماعية كبرمجة يخضع لها الأفراد في حياتهم، يستبطنون عبرها القيم والمثل والاكراهات الاجتماعية فيعيدون انتاجها ملتزمين بالحفاظ على النظام الاجتماعي. والتنشئة هنا ليست إلا تلك الروابط القوية والناجحة بين توجهات الأفراد والمسارات الاجتماعية مع التأكيد على تنوع أشكال التنشئة الاجتماعية ومضامينها ودرجاتها من التنشئة الأولى إلى التنشئة الثانوية ووفق الثقافات المختلفة كذلك.
الفردانية لا ترتبط بالتنشئة الاجتماعية، إنها أيضا فردانية تتشكل في شكل فاعل جماعي قد يكون الطبقة العاملة كذات تفعل في التاريخ و يمكن أن تكون حركات اجتماعية دينية، إثنية ، نسوية ، إيكولوجية أو غيرها ولكن في هذه الحالة يكون البعد الفرداني مرتبطا بالتحرّر مقابل التبعية، التحرّر مقابل الاغتراب ، وهنا لا يمكن فهم الفردانية إلا في علاقتها بالتناقضات و بالصراعات المختلفة سياسية كانت أم اقتصادية أو اجتماعية . تصبح الفردانية في هذه الحالة و في هذا السياق تعبيرا عن رفض اجتماعي، عن علاقة متوترة مع أي سلطة كانت رأسمالية، عائلية، مؤسساتية. العلاقة مع الذات لا يُنظر إليها في هذه الحالة الذاتوية إلا كنتيجة للتعارض بين منطق السلطة وبين الرفض الاجتماعي لها.
لا يهمّ في الفردوية قدرة الفرد على الاندماج ولا قدرته على التحرر و لكن ما يهم أكثر هو قدرته على صناعة ذاته، على ابتكارها و على المضيّ بها بعيدا في تحقيق الذات. في هذه الحالة يتمّ تناول الفرد في تجاربه، في الاختبارات العديدة التي تواجهه، في قدرته على التعامل معها وإيجاد الحلول لها. وفي وضع تعجز فيه مؤسسات التنشئة الاجتماعية على إيجاد إجابات واقعية للفرد، فإنه في هذه الحالة يجد الفرد نفسه أمام تحدّ كبير مُلزم من خلاله على إظهار تجربته كتجربة فريدة يمكن أن تكون مرجعا له ولغيره. تُصبح الحالة البيوغرافية ومسار الأفراد وجهة لا مناص منها لتحديد مواقع الأفراد من المجتمع ومن التنشئة الاجتماعية. وتصبح الفردوية هنا هذا التوازن المطلوب في العلاقة بين الفرد والمجتمع.
تعترضنا في هذا السياق من الفردوية مقولات لم نعهدها من قبل، لم تكن موجودة بيننا، لم تألفها العلوم الإنسانية والاجتماعية. إنها مقولات متصلة بالبعد الشخصي للأفراد. نجدها في حياتهم العاطفية، في العلاقة مع الجسد، وفي العلاقة مع المسار المهني وفي الحاجة إلى تدريب الذات على معطيات وسياقات جديدة. ولهذا نتعود على مقولات تقدير الذات وتطوير القدرات الذاتية و الطريقة المثلى في تجاوز الذات و التصرف مع الآزمات و مواجهة كل أصناف الضغوطات و كيفية التعامل مع النزاعات في مستواها اليومي و البسيط. وعندها لا معنى للتغيرات الاجتماعية إلا عبر البيوغرافيات الفردية بعيدا عن التغيرات المرتبطة بالانتماء الطبقي أو أي انتماء جمعوي آخر.
ما هو متاح الآن هو ما يعترض الفرد من صعوبات تهمّ مسيرته المهنية، موقعه داخل الفضاء الحضري، قدرته على التميز وعلى إثبات الذات، تحقيق نجاحات في مسائل شتى، التعبير عن هويته و عن تفرّده، مواجهته للاختبارات الممكنة. كل هذه المقولات هي التي تجعل الفرد في مسار متواصل من ابتكار الذات مصدره في ذلك ما يُسمّى بالتجربة الفريدة التي يخوضها يوميا من أجل أن يكون لمسيرته الشخصية معنى داخل مجتمع الأفراد.
مقولات الفردانية الجديدة
- بقلم محمد جويلي
- 10:08 18/05/2021
- 703 عدد المشاهدات
لم يكن الفرد غائبا عن الفهم الذي تطلقه العلوم الإنسانية والاجتماعية. في كل المراحل التي مرّت بها هذه العلوم كان التساؤل دوما