بالنّسبة إلى العلوم الأخرى، وكيفيّة تمثّلها في الأوساط الرّسميّة وعند الرّأي العامّ في عالم اليوم الذي سادته ثقافة المؤسّسة الاقتصاديّة وسلعنة المعرفة التي وقع ربطها بالرّبح المادّي المباشر.
في مثل هذا السّياق، تعدّدت الآراء واحتدم النّقاش بين من يرى أنّ العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة تجاوزها الزّمن وأنّها لم تعد تصلح لأنّها دون جدوى، ومن يرى أنّها ليست علوما نافعة، ومن يعتقد أنّها مجال يتيح ثقافة عامّة مهمّة للإنسان، ومن يرى أنّها مهمّشة ويُنظر إليها على أساس أنّها دون العلوم الأخرى.
ورصدنا نحن أهل هذا الاختصاص، تدحرج وضعيّة علومنا، وسقوط مكانتها في الوعي الجمعي العامّ وفي الأوساط الرّسميّة وحتّى عند البعض من المختصّين في هذه العلوم حيث حوّلوا أبحاثهم وأبحاث الطلبة الذين يؤطرونهم إلى مجرّد استعراض لبعض المعلومات المذكورة سابقا بطريقة تفتقد في بعض الأحيان إلى أبسط القواعد المنهجيّة المتعارف عليها.
أمام هذا الوضع الذي ما انفكّ يبخّس العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، اجتماعيّا ورسميّا، رغم تذمّر الكثير من أهل الاختصاص بطرق شخصيّة ومعزولة وتفتقد إلى أيّ تأطير مؤسّساتي، طلع علينا أحد كبار المسؤولين في التّعليم العالي معلنا أهميّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة على أساس تصنيفها ضمن Soft Skills، فتمّ التّرحيب بهذا التّوصيف حتّى من قبل أهل الاختصاص، ظنّا منهم أنّه يدخل في إطار إعادة الاعتبار لهذه العلوم والحال أنّ العكس صحيح. فما المقصود ب Soft Skills؟ وما هي العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة؟ وما هو وضعها مقارنة مع ما يُسمّى بالعلوم الصّحيحة؟
1- ما المقصود بـ Soft Skills:
كثيرا ما تُترجم هذه العبارة من الإنقليزيّة إلى العربيّة بالعلوم اللّيّنة أو العلوم الرّخوة، وهي ترجمة صحيحة إذا ما أخذناها في معناها الحرفي، ولكنّها لا تعبّر على المعنى الذي تقصده. لأنّ الرّجوع إلى مختلف تعريفات هذا المصطلح يوضّح أنّ Soft Skills ليست علوما وإنّما كفاءات ومهارات إنسانيّة Compétences et qualités humaines، يطوّرها شخص ما من خلال متابعة وحدات أفقيّة في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة والقيام بتربّصات، وهذا من شأنه أن يُكسبه المهارات الضروريّة لتسيير مشروع والاندماج داخل المؤسّسة.
لقد أصبح مصطلح Soft Skills، في السنوات الأخيرة مألوفا وكثير التّداول بسبب التّحوّل السّريع الذي تشهده المهن، ممّا جعل الكفاءات المكتسبة وطرق العمل تتجدّد باستمرار بفضل soft skills التي أصبحت نقاط قوّة ضروريّة للتّأقلم مع هذه التّحوّلات في عالم المؤسّسات الاقتصاديّة المنتجة لما يسمّى بالثروة.
وفي هذا الصّدد يذكر Jérôme Hoarau «أنّ تطوّر عالم الشغل وخاصّة مع تطوّر الروبوتيا Robotisation والأوتوماتيّة automatisation والذكاء الاصطناعي intelligence artificielle، يجبرنا على التعويل على Soft Skills باعتبارها مهارات ناعمة compétences douces ، يمكن وصفها أيضا بالمهارات السّلوكيّة الأفقيّة والإنسانيّة»، وعددها 15 وتتمثل في:
- حلّ المشاكل Résolution du problème
- الثّقة La confiance
- الذكاء العاطفي Intelligence émotionnelle
- روح التّعاطفL’empathie
- التّواصل La communication
- التّعامل مع التّوتّر لامتصاصه La gestion du stress
- التّحكّم في الوقت La gestion du temps
- الإبداع La créativité
- روح الاضطلاع بالمسؤوليّة L’esprit d’entreprendre
- الجرأة L’audace، الحافز للنجاح La motivation
- الرّؤية والتّصوّر Vision et visualité
- الحضور La présence
- الإحساس بالمجموعة Le sens du collectif
- الفضول La curiosité.
يتّضح من خلال هذا الاستعراض السّريع لهذه المهارات أنّها لا رسميّة وغير واعية، وأنّها تتعلّق بكلّ ما له علاقة بالتفاعلات الإنسانيّة، خلافا «للعلوم الصحيحة» hard skills التي تمثّل علوما تقنيّة أو أكاديميّة مكتسبة وقابلة للبرهنة.
من خلال كلّ ما تقدّم تتراءى لنا Les soft skills ليس كما رسخت في أذهاننا على أساس أنّها علوم مثلها مثل العلوم الصّحيحة ولكنّها مختلفة عنها في المناهج والنّتائج. فبالرّغم من أنّها أصبحت مفهوما مألوفا فإنّ معناها بقي غامضا ويسوّق في الأوساط الرّسميّة التّونسيّة وحتّى عند بعض الجامعيّين على أساس أنّه ردّ لاعتبار العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، والحال أنّ Les Soft Skills، ليست علوما تقنيّة أو أكاديميّة، بل هي مجرّد كفايات ومهارات إنسانيّة يتحصّل عليها المهندسون الذين يشتغلون في المؤسّسات الاقتصاديّة عن طريق قراءة المقالات الصّادرة في الصّحافة والمدوّنات أو المواقع الإلكترونيّة بنسبة 57 ٪، في حين يحصل 24 في المائة من بينهم على هذا التّكوين في مؤسّساتهم عبر تقويم السّلوك خلال المقابلات السّنويّة les entretiens annuels، أو الدورات التّكوينيّة في إدارة الأعمال. وإذا ما حصل وأن تحصّل المهتمّ بالتكوين في Soft Skills صلب العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، فإنّ هذا التكوين لن يكون إلاّ في صلب الوحدات الأفقيّة، فيكون تكوينا مكمّلا لتكوينه الأساسي الأكاديمي في التّقنيّة أو التّكنولوجيا.
ومن هذا المنطلق تكون العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة إذا نظرنا إليها من زاوية فهم Soft Skills، مجرّد تكوين إضافي للمتحصّل على تكوين أساسي في التقنيّة والتكنولوجيا، من أجل تحسين شروط انتدابه أو ترقيّته في المؤسّسات الاقتصاديّة. ويمكن للأشخاص الرّاغبين في الحصول على الكفايات والمهارات الإنسانيّة تلقّي تكوين حسب طلبهم أو طلب مؤسّساتهم في مراكز التّدريب واللّغات عن طريق مدرّبين Coach وليس عن طريق أساتذة باحثين. وفي بعض الأحيان يمكن للمشتغلين في المؤسّسات الاقتصاديّة الحصول على هذه المهارات الإنسانيّة في شكل وحدات أفقيّة تُدرّس في الجامعات. وعلى هذا الأساس يصبح القول بأنّ مصطلح Soft Skills مرادفا لمصطلح العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة هو نفي صفة العلم وبالتالي البحث العلمي لهذه العلوم بسبب اختزالها في مجرّد مهارات أفقيّة أو تكوينا مكمّلا يمكن أن يؤمّنه مدرّبين وليس أساتذة باحثين من أجل تقويّة أداء التقنيّين في تحسين مردود المؤسّسات الاقتصاديّة لجني أكثر ما يمكن من الأرباح يكون المستفيد الأكبر منها أرباب العمل ومؤسّسات.
2- ما هي العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة؟ وهل هي فعلا علوما؟
تتمثّل العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة في مجموعة من الاختصاصات المتخصّصة في دراسة الإنسان والمجتمع. تهتمّ هذه العلوم بالأنشطة والسّلوكيّات والتّفكير والنّوايا وأنماط الحياة وتطوّر الإنسان في الماضي والحاضر سواء كان فردا أو مجموعة.
تفرّق المعاجم بين العلوم الإنسانيّة التي تدرس كلّ ما يتعلّق بالثقافات الإنسانيّة: تاريخها، إنجازاتها، أنماط عيشها وسلوكيّات الأفراد والمجموعات في صلبها، في حين تهتمّ العلوم الاجتماعيّة التي ظهرت في القرن التاسع عشر عن طريق أوقست كونت (1798 - 1857) بدراسة المجتمعات الإنسانيّة.
ويمكن أن نعرّف العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة أيضا على أساس عدم انتمائها إلى العلوم الطبيعيّة أو العلوم المتعارف على تسميّتها ب»الصّحيحة» التي تدرس كائنات وأجسام واقعيّة معتمدة في ذلك على منهج علمي صارم، خلافا للعلوم الإنسانيّة ذات الصّعوبات المنهجيّة بسبب بحثها في أمور غير مستقلّة عن الكائنات البشريّة التي تدرسها، ممّا أنتج عديد النّقاشات الإبستيمولوجيّة عن المقاييس العلميّة والموضوعيّة لهذه العلوم.
يمكن تقسيم أهمّ الاختصاصات في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة إلى أربعة محاور، مع التّأكيد على عدم الاتّفاق بين مختلف المختصّين في تاريخ العلوم على هذا التّقسيم:
- تطوّر المجتمعات:
• علم الآثار
• الدّيمغرافيا
• التاريخ
- التفاعلات الاجتماعيّة:
• الأنتروبولوجيا
• العلوم الاقتصاديّة
• علم الاجتماع
- النظام المعرفي:
• علم النّفس
• الألسنيّة
- الإنسانيّات:
• العلوم السّياسيّة
• الفلسفة
• السّيميائيّة
• علوم الاتّصال
- علوم اجتماعيّة تطبيقيّة
• الحقوق
• البيداغوجيا.
تأسّست منظومة التعليم العالي في تونس بعد الاستقلال على أساس اعتبار العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة علوما مؤسّسة بدليل تأسيس شعب مستقلّة لكلّ اختصاص منها في مرحلة أولى، ليقع تخصيص مؤسّسات مختصّة لكلّ مجال أو مجموعة مجالات متقاربة منها في مرحلة ثانية.
مرّت العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة منذ تأسيس «الجامعة التّونسيّة» بثلاث مراحل رئيسيّة؛ تمثّلت أوّلها في تكوين الكوادر الضّروريّة لتسيير البلاد في التعليم والإدارة لتعويض الكوادر الفرنسيّة التي بدأت تغادر البلاد بعد حصولها على الاستقلال شيئا فشيئا. وقد ساهم في تكوين هذه الكوادر العديد من المختصّين في العلوم الإنسانيّة والآداب في الجامعات الفرنسيّة، وساهم الكثير من هؤلاء أيضا في بناء الدّولة الوطنيّة ورسم السياسة التّعليميّة والثقافيّة لتونس بعد الاستقلال. ويمكن اعتبار هذه المرحلة بمثابة الفترة الذّهبيّة للعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بتونس، بالرّغم من أنّها اقتصرت على التّعليم العالي في مرحلة الإجازة وافتقدت تماما للبحث العلمي وهذا ما جعل الطلبة الذين يريدون مواصلة تعليمهم في التبريز أو الدكتوراه يلتحقون بالجامعات الفرنسيّة، ولم تنطلق مثل هذه الدّراسات في تونس إلاّ بداية من الثّمانينات تحت إشراف من تكوّنوا في الجامعات الغربيّة في معظم الأحيان. أمّا المرحلة الثانية فهي تلك التي تزايد فيها عدد الطلبة عشرات المرّات، وكان معظمهم يوجّهون إلى شُعب العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة والآداب بمعدّلات متوسّطة ودون المتوسّط، فتحوّلت هذه الشّعب إلى ما يُشبه المحطّات لتأجيل بطالة المتخرّجين منها. أمّا البحث العلمي فقد ظلّ في هذه المرحلة باهتا يقوم به بعض الأشخاص بصفة طوعيّة ويقوم به آخرون من أجل الارتقاء في الرّتب العلميّة في غياب تامّ لسياسة وطنيّة من أجل النّهوض بالبحث في هذه المجالات. أمّا المرحلة الثالثة فهي تلك التي بدأت مع إرساء منظومة إمد التي فقدت خلالها هذه العلوم بريقها تماما فلم تعد تجذب الطلبة لانسداد آفاق الشّغل، ولا الباحثين لأنّ بحوثهم لا يهتمّ بها سوى قلّة قليلة من المختصّين في هذه المجالات. ولم تستفد العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة من هذه المنظومة إلاّ في بعض الاختصاصات التي وقع إدماجها في عروض التّكوين بوصفها وحدات أفقيّة مثل حقوق الإنسان وثقافة المؤسّسة مع بعض اللغات الأجنبيّة مثل الإنجليزية والتي أطلق عليها زمن بن علي الموادّ الاستراتيجيّة.
عرفت العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة تهميشا واضحا ولكن لم يقع التخلّي عنها كتكوين أساسي رغم بعض المحاولات التي شهدت أوجها سنة 2009، إلى أن طلعت علينا الأوساط الرّسميّة بمصطلح Soft Skills الذي رسخ في تصوّر النّاس على أساس أنّها «علوم ليّنة» في مقابل «العلوم الصّحيحة»، والحال أنّ المقصود بها هو تحويل هذه العلوم إلى كفايات أفقيّة مكمّلة للعلوم التّقنيّة خاصّة.
بالرّغم من أنّ العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة تأسّست في تونس على أساس أنّها علوم مؤسّسة وليس باعتبارها كفايات أفقيّة ولا زالت على هذه الحال حتّى يومنا هذا، إلاّ أنّ وضعها لم يعرف تطوّرا كما كان شأنها في الغرب الذي عرفت فيه هذه العلوم أيضا أزمة متواصلة إذا ما قارنّاها «بالعلوم الصّحيحة». ويُرجع العلماء تهميش دور العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة في العالم بصفة عامّة في معالجة الأزمات الإنسانيّة للمجتمعات إلى النّظام النيوليبيرالي الذي لا يولي اهتماما إلاّ للعلوم التي تخلق منفعة مادّيّة وتضمن التّواجد في تصنيف شانغاي للجامعات، وعندما اضطرّ هذا النّظام إلى أنسنة هذه العلوم بحث عنها في الكفايات الأفقيّة التي تكسب التّقنيّين في المؤسّسات الاقتصاديّة مهارات ناجعة تزيد في الإنتاج وتوفير الأرباح.
---------
1- Coach en Soft Skills et esprit d’entreprendre et co-auteur de l’ouvrage Le réflexe Soft Skills.
قضايا جامعية: العلوم الإنسانية والاجتماعية في منظومة التعليم العالي في تونس: كفاءات أفقيّة أم علوم مؤسّسة
- بقلم المغرب
- 11:33 17/05/2021
- 1570 عدد المشاهدات
بقلم: حياة عمامو
أستاذة تعليم عال، كلية العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، جامعة تونس
أردنا من خلال معالجة هذا الموضوع طرح أزمة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة في الجامعة التّونسيّة في علاقة بطبيعتها