وذلك تأثرا بطبيعة النظام السياسي لكل دولة، فبعد أن كانت الحصانة تجد مصدرها في حرمة ذات الملك في الأنظمة الملكية، وما ترتب عن ذلك من تأكيد لقاعدة لا مسؤولية الملك المطلقة، وإنكار لمبدأ المساواة، أصبحت الحصانة ضرورة تفرضها مقتضيات الوظيفة لأجل الأداء الفعال لها، خاصة ببروز ضرورة الموازنة بين فرضين واللذان يقتصران على حماية الوظيفة الرئاسية عن طريق تقرير الحصانة الموضوعية في الجانب الأول وضمان عدم إفلات رؤساء الدول من المسؤولية الجزائية، وذلك دون الإخلال بالحصانة الإجرائية في الجانب الثاني، لتتقرر بذلك الحصانة النسبية لرئيس الدولة في الأنظمة الجمهورية، والتي يجب أن تستند إلى حجج مشروعة وإلا اعتبرت خروجا وخرقا لمبدإ المساواة.
وتنقسم الحصانة إلى طائفتين؛ الأولى موضوعية، والأخرى إجرائية. تتميز الحصانة الإجرائية عن الموضوعية من حيث أن هذه الأخيرة تحجب إمكانية إنزال العقاب بخصوص بعض الجرائم التي يرتكبها الشخص المتمتع بالحصانة، فيما يقتصر مفعول الأولى على تأجيل السير –مؤقتًا- في إجراءات الملاحقة الجزائية لحين زوال الحصانة بحكم القانون، أو الحصول على الإذن برفعها وفق الشكل المنصوص عليه قانونًا.
وقد منحت اغلب الدساتير حصانة لرؤساء الدول، ففي فرنسا اتسمت الدساتير الفرنسية المتعاقبة بالنص الصريح على عدم مسؤولية رئيس الجمهورية بصورة مطلقة إلا في حالة الخيانة العظمى ابتداءً من دستور الجمهورية الثالثة ( 1875 – 1940 )، إذ ورد في المادة (6/2) من القانون رقم ( 25 ) لسنة 1875 و هو أحد قوانين تشكيل الدستور على إن (رئيس الدولة غير مسؤول إلا في حالة الخيانة العظمى) بعد أن حدد مسؤولية الوزراء الجنائية في الفقرة (الأولى) منه، إذ وردت النصوص الخاصة بمسؤولية رئيس الجمهورية على غرار ما ورد في دستور الجمهورية الثالثة ، أما دستور (1958) فقد نص صراحة على مسؤولية رئيس الجمهورية عن حالة الخيانة العظمى في المادة (68/1) منه بالقول ( لا يكون رئيس الجمهورية مسؤولاً عن الأعمال التي يقوم بها في مباشرة مهامه إلا في حالة الخيانة العظمى و يكون اتهامه بواسطة المجلس بقرار موحد يصدر بتصويت علني و بالأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتكون منهم المجلسان، و تجري محاكمته أمام المحكمة القضائية العليا).
و يمنح الدستور الأمريكي الصادر عام 1789 حصانة للرئيس، و هو ما نص عليه كذلك الدستور الجزائري و العراقي و الليبي و السوري...و اغلب دساتير العالم.
و لقد نص الفصل 87 من الدستور التونسي الصادر في 27 جانفي 2014 على ما يلي: « يتمتع رئيس الجمهورية بالحصانة طيلة توليه الرئاسة، وتعلق في حقه كافة آجال التقادم والسقوط، ويمكن استئناف الإجراءات بعد انتهاء مهامه. لا يسأل رئيس الجمهورية عن الأعمال التي قام بها في إطار أدائه لمهامه».
يضع الدستور مبدأ عدم مسؤولية الرئيس بصفته تلك. وقد جاء هذا المبدأ بشكل عام ومطلق بحيث لا يمكن إثارة المسؤولية الجزائية لرئيس الجمهورية لأي سبب كان سواء أكان ذلك بسبب الأعمال التي قام بها في إطار أداء مهامه أو حتى بسبب الأفعال التي ارتكبها خارج ذلك أو حتى تلك التي قد يكون قد اقترفها قبل انتخابه لمنصب رئيس الجمهورية أو في الفترة الفاصلة بين انتخابه وأدائه لليمين الدستورية.
و حصانة رئيس الدولة تطرح مسألة نطاق الحصانة (المبحث الأول) و إمكانية المساءلة في صورة الحكم بالعزل ( المبحث الثاني).
• المبحث الأول: نطاق حصانة رئيس الدولة
حصانة رئيس الدولة تشمل الحصانة الشخصية (الفقرة الأولى) والحصانة الوظيفية ( الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: الحصانة الشخصية
تهدف الحصانة الشخصية إلى حماية ممارسة الوظيفة، وبالتالي فهي مرتبطة بالشخص الذي يمارسها، ولا يمكن أن يتعلق الأمر إلا بأعمال خارج وظائف الرئاسة.
المبدأ هنا ليس مبدأ عدم المسؤولية، فمن يمارس وظيفة رئيس الجمهورية هو مسؤول، لكن فقط لحماية تلك وظيفة من الضروري حماية الشخص الذي يمارسها، فلا يجب أن تمنع المسؤولية من ممارسة الوظيفة الرئاسية بفعالية.
وقد تشمل هذه الحالة الأولى التتبعات والإجراءات القضائية التي تكون سابقة للتصريح بالنتائج النهائية للانتخابات بسبب أفعال وأعمال يعاقب عليها القانون، قد تنسب إلى المترشح الفائز في الانتخابات بصفته الشخصية وليست الرسمية.
و إعمالا للمبدإ العام، فهي تقتضي التعليق الفوري لكل الإجراءات والتتبعات القضائية وترتيب النتائج القانونية اللازمة عن ذلك.
وبالنسبة للأفعال التي يتم ارتكابها خارج نطاق ممارسة رئيس الجمهورية لمهامه، يتمتع هذا الأخير بحصانة جزائية مؤقتة يتم تحديد مدتها وفقًا للفصل 87، وبالتالي، لا يتم اتخاذ أي إجراء قضائي، أيّا كان، ضد رئيس الدولة خلال فترة ولايته.
ويتم تمديد مبدأ عدم المساءلة الجزائية لجميع أنواع الإجراءات القضائية المعنية، باستثناء الأحكام الصادرة بشكل نهائي والصادرة في شأنه قبل التصريح بالنتائج النهائية للانتخابات في صورة فوزه.
ويجدر التنويه إلى الفرق بين أجال التقادم و السقوط.
1- التقادم:
- تعريف التقادم : يقصد بالتقادم مرور مدة من الزمن يمنع القانون بعدها سماع الدعوى للمطالبة بحق من الحقوق، فالذي يتقادم هو حق إقامة الدعوى للمطالبة بالحق وليس الحق المطالب به ذاته.
- محل التقادم : يشمل التقادم مبدئيا، كل التزام وكل دعوى مرتبطة به، إلا أن ثمة حالات تستعصي عليه أي أنها لا تبطل بالتقادم، وهي الالتزامات المضمونة برهن حيازي على منقول أو برهن رسمي بالاضافة للالتزامات بين الزوجين و بين الاب أو الام و أولادهما، ثم الالتزمات بين ناقصي الاهلية أو الاشخاص المعنوية و بين من لهم ولاية عليهم.
2- السقوط:
- تعريف السقوط : يقصد به المدة الزمنية المحددة والوجيزة التي يجب خلالها ممارسة الحق و إلا سقط مباشرة، لأن الهدف منها تأمين الحسم السريع في وضعية قانونية معينة، وهي تختلف عن مدة التقادم في كونها لا تتوقف و لا تنقطع.
- خصائص السقوط : لعل من أهم ما تتسم به آجال السقوط كون الحق الذي لم يستعمل في المدة المحددة له قانونا، لا يجوز التمسك به بعد ذلك لا بواسطة الدعوى أو الدفع، و أنه يمتنع تعديل هذه الآجال زيادة أو نقصانا بموجب اتفاق بين الطرفين، اللهم إلا إذا كان ثمة نص يقضي استثناء ذلك.
وبمجرد الانتهاء من فترة الرئاسة، قد تستأنف الإجراءات أو التتبعات المختلفة في نهاية هذه الفترة، وبالتالي فإن الحصانة الشخصية هي مؤقتة بطبيعتها، وتتوقف مع نهاية المدة الرئاسية.
ففي نهاية المدة، يفقد الشخص الذي يتولى مهام الرئاسة أي حماية قانونية في إطار الحصانة ويصبح شخصا عاديا مرة أخرى، فالحصانة لا تمحي الجريمة وإنما توقف التتبعات إلى حين انتهاء المدة الرئاسية.
الفقرة الثانية: الحصانة الوظيفية
أقر الفصل 87 فقرة ثانية مبدأ عدم مساءلة رئيس الجمهورية عن الأعمال التي يقوم بها في إطار أدائه لمهامه. وهي تهدف إلى حماية الوظيفة الرئاسية وليس ممارستها. وتؤدي الحصانة الوظيفية إلى عدم مسؤولية الشخص الذي يشغل المنصب عن الأفعال التي يقوم بها في إطار توليه لمهامه، وهي دائمة، لأن وظيفة رئيس الجمهورية لا تتوقف بعد رحيل الشخص الذي يمارسها، لذلك خصّها الفصل 87 بفقرة مستقلة عن الفقرة الأولى ولم يربطها بمدة محددة.
• المبحث الثاني: إمكانية مساءلة رئيس الدولة في حالة العزل
ينص الفصل 88 من الدستور على» يمكن لأغلبيّة أعضاء مجلس نوّاب الشّعب المبادرة بلائحة معلّلة لإعفاء رئيس الجمهوريّة من أجل الخرق الجسيم للدّستور ويوافق عليها المجلس بأغلبيّة الثّلثين من أعضائه وفي هذه الصّورة تقع الإحالة إلى المحكمة الدّستوريّة للبتّ في ذلك بأغلبيّة الثّلثين من أعضائها.
ولا يمكن للمحكمة الدّستوريّة أن تحكم في صورة الإدانة إلاّ بالعزل. ولا يعفي ذلك من التّتبّعات الجزائيّة عند الاقتضاء. و يترتّب على الحكم بالعزل فقدانه لحقّ التّرشّح لأيّ انتخابات أخرى».
وبناء على ذلك يمكن أن تقوم مسؤولية الرئيس في حالة الحكم بالعزل عند قيام شروط لائحة الإعفاء ( الفقرة الأولى) و الحكم بالإدانة من المحكمة الدستورية ( الفقرة الثانية)
الفقرة الأولى: الشروط المتعلقة بلائحة الإعفاء
يجب إن تتوفر في لائحة الإعفاء جملة من الشروط و المتمثلة في:
- التعليل: يجب ان تكون لائحة إعفاء رئيس الجمهورية معللة تتضمن أسباب الإعفاء و المتمثلة في خرق جسيم للدستور.
- الخرق الجسيم للدستور: الخرق في اللغة يعني: خرق الستر عما وراءه و كذلك يعني ما لا يحل و لا يجمل. و الخرق هو عدم إتباع أحكام القانون.
ويتحقق الخرق الجسيم للدستور من خلال إتيان أي فعل من رئيس الجمهورية يشكل مخالفة صريحة أو ضمنية لأي نص من نصوص الدستور و العمل على خلاف ما ورد فيها من خلال استعمال الصلاحيات الممنوحة له بموجب تلك النصوص استعمالاً يؤدي إلى تلك المخالفة.
و يمكن القول بأن الانتهاك الذي يمكن أن يحصل من قبل رئيس الجمهورية للدستور يتمثل في الحالات الآتية:
- عند مخالفة أي نص من نصوص الدستور بصورة عامة و خصوصاً النصوص الإلزامية الواردة فيه، و التي تمنع القيام بعمل معين فيقدم رئيس الجمهورية عليه أو تلك التي تفرض عليه واجباً معيناً فيمتنع عن القيام به.
وهنالك من يرى بان الانتهاك يتحقق إذا خالف رئيس الجمهورية نصوص الدستور السياسي الذي ينظم العلاقة ما بينه وبين السلطات العامة الأخرى أو إذا خالف نصوص الدستور الاجتماعي الذي ينظم علاقته مع السلطات العامة الأخرى بالإفراد.
- مخالفة النصوص الدستورية المحددة لصلاحيات رئيس الجمهورية الواردة في الفصول 76 إلى 81 من الدستور.
- إمكانية حدوث حالة انتهاك الدستور من قبل رئيس الجمهورية إذا تعمد تعطيل نص دستوري معين ويمكن أن يتحقق تعليق أو تعطيل الدستور في حالات عدة منها :
- عندما يصدر الرئيس قرارا رسميا يقضي فيه بتعليق العمل ببعض نصوص الدستور وخصوصا تلك التي تتعلق بحقوق الإنسان.
- عندما يتخذ الرئيس اتجاها يقضي بتطبيق نصوص الدستور لكن بشكل يتعارض مع محتواها بصورة متعمدة.
في مقابل الصلاحيات المذكورة أعلاه، يحق للكونغرس الأميركي بغرفتيه الشيوخ والنواب عزل الرئيس، بعد إدانته بالخيانة، أو الفساد، أو أي جرائم وجنح يجرمها القانون الأميركي.
وما يمكن الإشارة إليه ان عبارة الخرق الجسيم للدستور وردت فضفاضة و لا يوجد معيار دقيق للتمييز بين ما يعتبر خرق جسيم و خرق غير جسيم للدستور؟
- تقديم المبادرة من طرف أغلبية أعضاء مجلس نواب الشعب: يتم تقديم لائحة اللوم من قبل ما لا يقل عن 109 نائب.
- الموافقة على لائحة الإعفاء بأغلبية الثلثين: يجب ان تتم الموافقة على لائحة الإعفاء من طرف ما لا يقل عن 145 نائب.
الفقرة الثانية: الحكم بالإدانة من المحكمة الدستورية
عند تحقق شروط لائحة الإعفاء تقع إحالتها إلى المحكمة الدّستوريّة للبتّ في ذلك بأغلبيّة الثّلثين من أعضائها أي بحضور 8 أعضاء على الأقل.
مع الإشارة إلى أن المحكمة الدستورية تتركب من اثني عشر عضوا من ذوي الكفاءة، ثلاثة أرباعهم من المختصين في القانون الذين لا تقل خبرتهم عن عشرين سنة.
و قد نص الفصل 65 من القانون الأساسي عدد 50 لسنة 2015 المؤرخ في 3 ديسمبر 2015 المتعلق بالمحكمة الدستورية على ان رئيس مجلس نواب الشعب يعرض على المحكمة الدستورية لائحة إعفاء رئيس الجمهورية من أجل الخرق الجسيم للدستور بعد الموافقة عليها بأغلبية الثلثين من أعضاء مجلس نواب الشعب في أجل لا يتجاوز ثمانية وأربعين ساعة وتكون اللائحة معللة.
وتتعهد المحكمة الدستورية بملف الإحالة وتطلب من رئيس الجمهورية أو ممن ينوبه الرّد عليها في أجل لا يتجاوز سبعة أيّام وتبتّ فيه بأغلبيّة ثلثي أعضائها في أجل لا يتجاوز خمسة عشر يوما.
وللمحكمة الدستورية أن تتّخذ كل القرارات والإجراءات التي تراها ضروريّة لتسهيل صدور حكمها.
وتصدر المحكمة قرارا يقضي بعزل رئيس الجمهورية في صورة ثبوت إدانته وتعلم به فورا رئيس مجلس نواب الشعب.
و في صورة الحكم بالعزل يمكن القيام بالتتبعات الجزائية، فصدور حكم بالعزل يخول تتبع رئيس الدولة المعزول من اجل الأفعال التي تشكل جريمة وفق أحكام القانون الجزائي.
و قد حدد التشريع الفرنسي أحكام حصانة رئيس الدولة في إطار المادة 68 من الدستور؛ وبموجب هذه الأخيرة فإنه لا يمكن حجب الحصانة عن الرئيس إلا إذا تحققت الشروط التالية: أولًا، لا بد أن يتوافر اقتراح مشترك برفع الحصانة من قبل مجلسي البرلمان. ثانياً، لا يتخذ قرار رفع الحصانة إلا خلال الجهة التي حددها الدستور، والتي تتمثل في البرلمان الذي يتم تشكيله في صورة محكمة عليا، بحيث يرأس رئيس الجمعية الوطنية برلمان المحكمة، ويأخذ الأخير قراره بأغلبية الثلثين، خلال شهر واحد فقط؛ وعلى إثر ذلك، يتم رفع الدعوى في مواجهة رئيس الدولة عن ما اقترفه من جرائم تستوجب محاسبته
وكذلك اناط المشرع الفلسطيني مسألة رفع الحصانة عن رئيس الدولة بالمحكمة الدستورية.
و يجدر التنويه الى انه في امريكا تعرض ثلاثة رؤساء أميركيين للمتابعة القضائية، وهم أندرو جونسون (1968) وريتشارد نيكسون (1974) و بيل كلينتون عام 1998، إلا أن مجلس الشيوخ برأ كلينتون وأندرو بينما استقال نيكسون قبيل إدانته في فضيحة «ووتر غيت» الشهيرة.
ويواجه الرئيس الأميركي المنتخب عام 2016 دونالد ترامب دعوى قضائية في كاليفورنيا رفعها ضده طلبة سابقون في جامعة ترامب عام 2010؛ يزعمون فيها أنهم تعرضوا للاحتيال خلال سلسلة من الحلقات الدراسية عن العقارات.
ورغم أن الرؤساء يتمتعون بحصانة من أي دعاوى قانونية تنشأ نتيجة مهامهم الرسمية، فقد قضت المحكمة الأميركية العليا بأن هذا لا ينطبق على أفعال يزعم أنها ارتكبت قبل توليهم الرئاسة. وصدر هذا الحكم عام 1997 أثناء دعوى تحرش جنسي ضد بيل كلينتون رفعتها بولا جونز، وتمت تسوية الدعوى قبل أن تذهب إلى ساحات المحاكم.
وفي جنوب إفريقيا يُتيح القانون متابعة الرئيس، ومن الأمثلة المهمة في هذا الصدد متابعة رئيس جنوب أفريقيا جاكوب زوما بتهمة تبديد أموال عامة في إصلاح مسكنه، وإلزامه بتعويض الدولة عشرين مليون يورو في صيف 2016.