ومنذ ذلك الوقت وبالرغم من الدعوات المتكررة والمتعددة الى اطلاق مفاوضات جديدة مع مؤسسة بريتون وودز من أجل فتح باب التعاون المالي مع المؤسسات الدولية والتخفيض من حدة الأزمة المالية فإن بلادنا لم تتقدم في هذا الاتجاه وبقيت علاقاتنا مع صندوق النقد تراوح مكانها .
إلا أن الأسابيع الأخيرة عرفت تسارعا كبيرا في هذا المجال ليصبح الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي أولى أولويات العمل الحكومي والمعركة التي لا يجب أن يعلو عليها أي صوت آخر .فتوالت الاجتماعات مع الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين وبصفة خاصة الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمة الأعراف اتحاد الصناعة والتجارة من أجل مشاركتهم في صياغة تصورات وسياسات اقتصادية جديدة .كما قام عديد المسؤولين الحكوميين بالتأكيد أكثر من مرة على ضرورة الانطلاق في تحديد برنامج إصلاحات كبرى من أجل الخروج من الأزمة الاقتصادية والانخرام الكبير للمالية العمومية .وقامت الحكومة بتكوين عديد اللجان للتفكير في الإصلاحات التي يجب القيام بها من أجل فك العزلة الاقتصادية وفتح آفاق جديدة لبلادنا .
وفي نفس السياق بدأت الحكومة في العمل على حشد دعم سياسي واسع لبلادنا في المفاوضات مع صندوق النقد من خلال اللقاءات التي قام بها رئيس الحكومة مع سفراء البلدان الكبرى والمؤثرة في مجلس إدارة المؤسسة المالية .
بعد غياب طويل وسبات دام سنة عاد صندوق النقد الدولي ليخطف الأضواء وليصبح أولى الأولويات في العمل الحكومي .
وبطيعة الحال يبدو من الصعب في الظروف الحالية التكهن بالنتيجة النهائية لمفاوضاتنا مع صندوق النقد ومدى إمكانية الوصول إلى اتفاق من عدمه.وفي ظل هذه الظروف فإن السؤال الأساسي يهم قدرة هذا الاتفاق مع صندوق النقد وإذا حصل على دعم المالية بما يمكننا من الخروج من الأزمة الحالية وفتح آفاق جديدة لاقتصادنا .
• في أهمية الاتفاق مع صندوق النقد الدولي
عرف النقاش العام نقدا كبيرا لعلاقتنا مع صندوق النقد لأسباب عديدة لعل أهمها الرؤيا الاقتصادية التي تدافع عنها المؤسسة منذ انبعاثها في الأشهر الأخيرة للحرب العالمية الثانية سنة 1944 وفي قرية بريتون وودز في الولايات المتحدة الأمريكية مع توأمها البنك الدولي.
لقد كانت أهداف هذه المؤسسة محل جدل بين الدول المشاركة في الاجتماعات التحضيرية لتحديد رؤاها وتصوراتها وبصفة خاصة بين الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى.وقد انتهى هذا الجدل بانتصار النظرة الأمريكية ليصبح الهدف الأساسي لهذه المؤسسة الجديدة المحافظة على التوازنات المالية الكبرى للدول ديدنها في ذلك وفلسفتها نظرة اقتصادية محافظة .
وقد كانت هذه النظرة والسياسيات ذات المنحى التقشفي التي أوصت بها هذه المؤسسة وراء الكثير من النقد والجدل في النقاش العام وبصفة خاصة من قبل العديد من الاقتصاديين ومنظمات المجتمع المدني .وقد اعتبر العديد من المتابعين لهذه السياسات انه إلى جانب انعكاساتها الاجتماعية الخطيرة فهي لا تساهم في تحسين الوضع المالي للبلدان التي تطبقها.
وقد وجد هذا النقد وهذه التحفظات صداهما في بلادنا .فقد أشارت عديد القوى السياسات والاجتماعية إلى المآخذ الكبيرة على الاتفاقين اللذين أمضيناهما في السابق مع الصندوق وعجزهما عن تحسين الوضع المالي لبلادنا .
إلا انه وبالرغم من هذا النقد يبدو اليوم أن هناك إجماعا كبيرا على أنه لامناص اليوم من إبرام اتفاق مع صندوق النقد لأسباب متعددة.وأولى هذه الأسباب الأزمة المالية الخانقة التي تمر بها بلادنا والتي تتطلب تظافر كل الجهود الداخلية والخارجية لإيقاف النزيف .
كما أن حجم الحاجيات المالية للدولة لسنة 2021 والتي تم تقديرها في ميزانية الدولة ب19 مليار دينار سيكون من الصعب توفيرها دون دعم المؤسسات المالية العالمية ودون الخروج على الأسواق المالية العالمية .ويعتبر في هذا الإطار صندوق النقد الدولي بوابة الدخول لهذه الأسواق والاتفاق معه صك ضمان يسمح لبلادنا بتوفير هذه التمويلات لتغطية حاجياتنا في ظروف أحسن وبتكلفة اقل.
لهذه الأسباب وضعت بلادنا نصب عينيها هدفا أساسيا في الأيام القادمة وهو الوصول إلى اتفاق مع هذه المؤسسة لتقليص الضغط على المالية العمومية وعلى قدرتنا على توفير التمويلات الضرورية لتمويل ميزانية الدولة .
وفي إطار هذه المحاولات والتسريع في إبرام اتفاق مع صندوق والذي اخذ في بعض الأحيان الكثير من الهرولة يمكن لنا أن نتساءل هل أن التمشي الذي اتبعته الحكومة هو التمشي السليم .
• في مسارات التفاوض مع المؤسسات المالية العمومية
أن تمشي التفاوض مع المؤسسات المالية العمومية يأخذ في الغالب مسارين : المسار التقني أو الاقتصادي والمسار السياسي .
ويتكون المسار التقني والاقتصادي من عدة محطات ومراحل مهمة والتي يجب على كل البلدان اتباعها واحترامها .ومن هذه المحطات الجانب الإداري والذي يتكون من مراحل متواصلة تنطلق من الطلب الرسمي من البلاد إلى المؤسسة لطلب دعم أو ما نسميه (requête) وانه لا يمكن الحديث عن أي تعاون قبل إمضائها من طرف ممثلي البلاد في مجلس الإدارة وإرسالها.
كما يشمل هذا المسار محطة هامة وهي إمضاء البلاد على وثيقة لمختلف الالتزامات التي ستقوم بتطبيقها وهي ما نسميه (Mémorandum de politique économique et financière) والتي يقع إرسالها إلى مجلس الإدارة بعد مفاوضات عسيرة ومضنية في أغلب الأحيان مع وفود المؤسسات .ويعتبر عرض مشروع الاتفاق على مجلس الإدارة آخر مرحلة إدارية .وعلاوة على الجانب الإداري فإن هذا المسار يتكون كذلك من جانب اقتصادي ومالي مهم.وسيكون البرنامج الاقتصادي والسياسات المالية التي ستطبقها الدولة خلال فترة الاتفاق محل نقاش طويل ومضن مع مبعوثي صندوق النقد.فالشروط التي يضعها الصندوق في أغلبها صعبة وقاسية من أجل هدف أساسي وفي بعض الأحيان وحيد وهو الرجوع إلى الاستقرار المالي ومحاربة انخرام المالية العمومية .وكما هو الشأن في بلادنا فإن شروط هذه السياسات التقشفية تهم التقليص في كتلة الأجور والتخفيض في الدعم وخوصصة المؤسسات العمومية وتكون هذه الاختيارات الكبرى للسياسات الاقتصادية مجال تفاوض عسير وصعب مع وفود الصندوق والتي لا تقبل في كثير من الأحيان التراجع على شروطها .ولكن الاتفاق على هذه الشروط يبقى أساسيا لأنه بدونها لا يمكن المرور إلى مجلس الإدارة .
أما المسار الثاني في التفاوض والاتفاق مع المؤسسات المالية العالمية فهو سياسي .إذ أن العوامل السياسية تلعب دورا مهما في تحديد مواقفها تجاه البلدان .إلا أن ما يجب التأكيد عليه أن الجانب السياسي لا ينفي الجانب التقني والاقتصادي.وفي ظل غياب اتفاق على المسائل الاقتصادية والاختيارات المالية فإن الجانب السياسي والحشد الذي تقوم به الدول لا يمكن له يؤتي أكله .
وفي هذا الإطار تأتي قراءتنا النقدية للتمشي الحكومي الذي اختار إعطاء الأولوية للجانب السياسي ليبقى الجانب الاقتصادي والاختيارات المالية الكبرى في مستوى النوايا المعلنة.
• هل أن الاتفاق مع الصندوق كاف للخروج من الأزمة
لقد اشرنا إلى أهمية هذا الاتفاق مع صندوق النقد باعتباره يشكل بوابة عبور للتمويل الدولي لبلادنا وسيساهم في التقليص من حدة الأزمة المالية .إلا أننا لا يمكن أن نقول كما الاعتقاد السائد اليوم انه طوق النجاة الخلاص .
فالاتفاق مع صندوق النقد ضروري وأساسي ولكنه - في رأيي - غير كاف لخمسة أسباب على الأقل .
-السبب الأول مالي فالوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد - إذا تمكننا من ذلك - سيتطلب الكثير من الوقت في إعداد الاختيارات الكبرى والسياسات المالية والتفاوض حولها .وهذا الزمن لا يلتقي مع زمن وديناميكية المالية العمومية واحتياجاتها الآنية في الأسابيع القادمة والتي قد تدفعنا الى انهيار مالي قبل الوصول الى اتفاق مع صندوق النقد.وبالتالي لابد للحكومة ان تأخذ هذه المسالة بعين الاعتبار وتحشد التمويلات من مصادر أخرى في انتظار الوصول الى اتفاق مع صندوق النقد.
السبب الثاني اقتصادي .إن الاتفاقات وبرامج التعاون مع صندوق النقد مالية وتهتم بالتوازنات الكبرى للمالية في بلادنا .ولا تأخذ هذه البرامج التحديات الاقتصادية الأخرى ولا يجب أن نحجب في هذا المجال الجوانب المتعددة للازمة الاقتصادية،فإلى جانب الاستقرار المالي لابد لنا ان نعمل على ضبط برنامج شامل لدفع الاستثمار وإنقاذ المؤسسات الاقتصادية من الانعكاسات الكبيرة لجائحة الكوفيد.
-السبب الثالث هيكلي.فإلى جانب الجوانب المالية والاقتصادية للازمة لابد من الإشارة إلى الجوانب الهيكلية التي تتطلب رؤية واضحة المعالم لبناء نمط تنموي جديد.
-السبب الرابع اجتماعي ويهم الأزمة الاجتماعية العميقة التي تعيشها والتي دقت أركان العقد الاجتماعي .وهذه الأزمة تتطلب سياسة اجتماعية جديدة تهدف الى إعادة بناء المشترك الجمعي .
-السبب الخامس سياسي وهو الأهم ويتطلب بناء تحالف واسع بين الأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية من اجل حماية المجتمع وإنقاذ الاقتصاد.فالحلول الاقتصادية والاختيارات المالية على أهميتها لن تكون ذات قيمة في ظل الواقع السياسي المتأزم وغياب أدنى علاقات الثقة بين مؤسسات الدولة .
تعيش بلادنا اليوم أزمة اقتصادية ومالية خانقة .وتتطلب هذه الأزمة الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي لفتح الأبواب لتعبئة الحاجيات المالية للدولة على الأسواق العالمية وللتخفيض من حدة أزمة المالية العمومية .وهذا الاتفاق ضروري وأساسي ولكنه على أهميته يبقى غير كاف للخروج من الأزمة والتي تتطلب برنامجا شاملا واتفاقا سياسيا واسعا لمواصلة التحول الديمقراطي وحماية المجتمع من الجائحة وإنقاذ الاقتصاد .
هل أن الاتفاق مع صندوق النقد كاف للخروج من أزمتنا المالية ؟
- بقلم حكيم بن حمودة
- 10:00 26/04/2021
- 1442 عدد المشاهدات
تعيش بلادنا على وقع بداية المفاوضات مع صندوق النقد الدولي ومحاولة الوصول إلى اتفاق بعد إنهاء الاتفاق السابق في أفريل 2020.