علامة التلقيح في الكتف أبلغ من بيانات جواز السفر. هذا الأخير يمكن تزويره وتغيير كل ملامح صاحبه. التلقيح غير ذلك، لا إزالة للأثر. لا إزالة كونك تونسي.
حدث مرّة في أحد مراكز الإيواء الإيطالية، المهاجرون السرّيون يتكدسون فوق بعضهم، لا هوية لهم ولا أوراق ثبوتية. يتعمدون إلقاءها في البحر قبل الوصول أو أثناء الهروب من إمكانية إرجاعهم إلى بلدانهم الأصلية. يفقدون هويتهم ليحصلوا على أخرى. في مركز الإيواء يقع استنطاقهم لمعرفة من أين أتوا. الجميع يحاول التضليل أملا في البقاء. تفطن أحد الذين يقومون بالاستنطاق إلى حيلة سوسيولوجية، من المؤكد أنه حصل عليها بطريقة ما. طلب من المهاجرين السريين نزع ملابسهم الفوقية كي يتثبت من أكتافهم. وضعهم مع آخرين من جنسيات مغايرة. نظر إلى الأكتاف المعروضة أمامه مليا. سحب مجموعة منهم وأصرّ على كونهم تونسيين، وبعد التشديد عليهم اعترفوا. لقد فضحهم التلقيح، فضحتهم الدولة الوطنية. و لا يزال التلقيح يفضحنا إلى الان.
لمّا كنا في الأقسام الابتدائية كان يوم التلقيح مفعما بالفرح وبالخوف في آن واحد. كانت مناسبة التلقيح تشعرنا بأننا موضوع اهتمام بالغ. لم يكن من كان خارج المدرسة معنيا بهذا الاصطفاء الصحّي. وكان المعلمون يعرضون على مسامعنا فوائده الكبيرة وكان الممرض الذي يتولى العملية حريصا على طمأنتنا. كنا نتندّر بمخاوف بعضهم وبكاؤهم لحطة وخز الإبرة في الكتف. وكنا نتسابق في إطهار شجاعتنا أمام هذا الاختبار. عدا ذلك كان موسم التلقيح فرصة للمرح خارج إكراهات الدروس.
كبرنا بهذه العلامات، وشم الدولة الوطنية على أكتافنا. هويتنا في جسد خال من أمراض ذاك الزمن. وكان صناع الحداثة آنذاك ثلاث، المعلم، الممرض وساعي البريد. هؤلاء من جعلوا منا مواطنين وقدمونا للمصعد الاجتماعي، وضعونا أمامه لننطلق. ومن وقتها والتلقيح جزء من ثقافتنا الصحية. لقد جعلت الدولة الوطنية من التلقيح معركة كبرى وفرضت على مواطنيها الاستظهار بما يُثبت الالتزام به. هو شرط أساسي للدحول إلى المدرسة. الأمّ حارسة التلقيح بلا منازع.
جاءت الجائحة وأعدنا الحديث عن التلقيح. العالم كلّه يبحث عن الخلاص. شركات تصنيع الأدوية، العلماء، المخابر العلمية، دُول تصنع مجدها باكتشاف اللقاح، وتصورات تدافع على فكرة أن التلقيح لا يعدو سوى صراع قوى نيوليبرالية من أجل الهيمنة، وآخرون غير مستعدّين كما كانوا صغارا لعرض أكتافهم لوخز الإبر. ولكن اكتشاف اللقاح كان خطوة لإنقاذ البشرية.
لم نكن في تونس في مستوى التحدّي اللقاحي. السياسة أفسدت كلّ شيء. وأضحى الحصول على التلاقيح موضوعا للمناكفات السياسية ولفشل ذريع في إدارة الأزمة. وصُنّفت تونس من بين الدول التي تجد صعوبة بالغة في الحصول على ما يناسبها من الجرعات لإنقاذ مواطنيها. حصلنا على تلاقيح كبلد يحتاج إلى هبات، ضعفت صورتنا ففقدنا الثقة في العملية برمّتها. دولة لازالت تعتمد الأسلوب المركزي في التعامل مع توزيع التلاقيح. المراكز الجهوية التي اعتمدتها الدولة التونسية لا تفي بالحاجة. لقد تحولنا من مقاربة التلقيح الذي يأتي إلينا إلى مقاربة الذهاب إلى التلقيح. هناك فرق بين المقاربتين في سياق أصبحت فيه الخدمة تأتي إلى الأفراد في عقر دارهم.
تونس لا تلقّح أو من الأفضل القول أن تونس غير قادرة على التلقيح. التلقيح الرمزي يحتاجه الفاعلون السياسيون الذين يديرون اللعبة السياسية باهتمامات و استقطابات أخرى. فقدان الثقة في الإدارة السياسية لأزمة كورونا تدفع بالمواطنين إلى فقدان الثقة في التلقيح. إنهم يعتبرون الأمر سياسيا أو يقرِؤونه هكذا دون تردّد. يصبح التلقيح والإقبال عليه كالإقبال على صندوق الاقتراع في الانتخابات، تشابه كبير في المسألتين.