من بلدان العالم إلا أن الفيروس لازال يشهد تناميا كبيرا مهددا بذلك كل المجتمعات والجنس البشري بمجمله .
وإلى جانب انعكاساتها الصحية الكبيرة كانت لهذه الجائحة انعكاسات اقتصادية خطيرة.وقد اهتممنا بهذه المسألة التي أثارت اهتمام الخبراء والرأي العام بصفة عامة .وقد انصب هذا الاهتمام على مسألتين أساسيتين – الأولى تخص انعكاسات الجائحة على التفكير الاقتصادي والسياسات الاقتصادية .وقد أحدثت الجائحة في هذا المجال ثورة كبيرة كان من أهم نتائجها اتباع سياسات اقتصادية غير تقليدية في عديد المجالات وبصفة خاصة في السياسات المالية والنقدية .
كما اهتمت الدراسات الاقتصادية بانعكاسات الجائحة على التوازنات الكمية للاقتصاد مثل النمو وتوازنات المالية العمومية والمديونية والتوازنات الخارجية وغيرها من القضايا الكمية للبلدان .
إلا أنه لم يتم الاهتمام في رأيي بما فيه الكفاية لدراسة وفهم انعكاسات الجائحة على المؤسسات الاقتصادية وعلى القطاع الخاص بصفة خاصة .وقد أشارت الكثير من التقارير الى الانعكاسات الهامة والمفزعة للجائحة على المؤسسات الاقتصادية.وقامت العديد من الحكومات باتخاذ إجراءات سريعة لدعم المؤسسات الاقتصادية وحمايتها من آثار الجائحة.إلا أننا لا نمتلك إلى حدّ اليوم دراسة مستفيضة حول هذه الانعكاسات الاقتصادية على المؤسسات وعلى ديمومتها .
وقد جاءت الدراسة الأخيرة والمستفيضة التي قام بها معهد الإحصاء بدعم من عديد المؤسسات الدولية بتغطية هذا النقص .وقد صدرت هذه الدراسة مؤخرا تحت عنوان «Impact de la crise covid-19 sur le secteur privé formel» أو الانعكاسات جائحة الكوفيد 19 على القطاع الخاص المهيكل « لتثبت حجم المخاطر التي تحوم حول المؤسسات الخاصة وديمومتها من جراء هذه الجائحة.
وتأتي أهمية هذه الدراسة في كونها تمت على مراحل متواصلة منذ انطلاق الجائحة.وقد قام المشرفون عليها بنشر نتائجها في مرحلتين : الأولى في شهر ماي أي بعد أسابيع قليلة من انطلاق الجائحة والثانية في شهر سبتمبر أي بعد المحاولة الأولى لعودة النشاط إلى سالف عادته .وجاءت المرحلة الثالثة في نهاية السنة المنصرمة والتي سنحاول الوقوف على أبرز نتائجها .وبالتالي ستمكننا هذه الدراسة من القيام بمقارنة هامة حول تطور أوضاع المؤسسات الخاصة بعد سنة كاملة من الجائحة والانعكاسات الكبيرة التي نتجت عنها وخاصة على ديمومتها.
كما أن أهمية هذه الدراسة تكمن كذلك في التغطية الكبيرة التي قام بها للقطاع الخاص.حيث شمل المسح 2500 مؤسسة خاصة في كل القطاعات الاقتصادية الهامة في بلادنا .
كما قامت هذه الدراسة بتوزيع المؤسسات الاقتصادية حسب نشاطها الموجه للتصدير أو إلى السوق الداخلية لنتمكن من فهم القطاعات التي عانت أكثر من انعكاسات الجائحة .
والقراءة المعمقة لنتائج هذه الدراسة تشير إلى الانعكاسات الخطيرة والقاتلة لهذه الجائحة على مؤسساتنا الخاصة وعلى النسيج الاقتصادي في بلادنا .
والنتيجة الثانية التي يمكن أن نصل إليها أن المخاطر أصبحت تتفاقم وتتدعم بمرّ الزمن.وبالتالي فإن تراجع الجائحة على المستوى الصحي سيضعنا في مواجهة خطر قاتل آخر يخص ديمومة المؤسسات الخاصة وديمومة نسيجنا الاقتصادي في المستقبل .
• مؤسسات القطاع الخاص وتفاقم المخاطر
تشير النتائج لهذه الدراسة إلى التفاقم الكبير للمخاطر خلال الأشهر الأخيرة للسنة المنقضية مقارنة بما كانت عليه في الأشهر الأولى بعد الجائحة .
فتشير أن نسبة الغلق النهائي للمؤسسات ارتفعت من %5.4 في نهاية الثلاثي الثالث إلى رقم مخيف تجاوز %10في نهاية السنة .ولكن نزيف إيقاف المؤسسات لا يقف عند الإيقاف النهائي للنشاط بل يضم كذلك الإيقاف المؤقت للعمل والذي تصاعد من %7.7 خلال الثلاثي الثالث إلى %11.2 في نهاية السنة .
تشير هذه الأرقام المفزعة إلى أن أكثر من خمس (%21.6) المؤسسات الخاصة قد توقفت عن النشاط بصفة نهائية أو وقتية جراء الجائحة .وهذا الرقم على خطورته لا يعطينا فكرة واضحة على قتامة الوضع الاقتصادي في المستقبل وانعكاساته على نشاط المؤسسات الخاصة .فقد أشارت هذه الدراسة إلى أن %65.4 من هذه المؤسسات ليست متأكدة من قدرتها على مواصلة النشاط خلال السنة الحالية .ولعله من المهم التوقف على حجم الأزمة الاقتصادية التي تنتظرنا الإشارة إلى أن الصعوبات مست بصفة خاصة المؤسسات الصغرى جدا والتي تعاني في اغلبها (%83.6) من حجم الانعكاسات الاقتصادية للجائحة .
وقد أشارت الدراسة إلى القطاعات الأكثر تضررا من الجائحة وتأتي قطاعات الخدمات والإعلام والصناعات الغذائية في قائمة هذه القطاعات .
كما تشير هذه الدراسة إلى أن المؤسسات المرتبطة بالسوق الداخلية هي الأكثر تضررا من الأزمة الاقتصادية من المؤسسات المرتبطة بالسوق الخارجية .
وكان لهذه التطورات المخيفة على مؤسسات القطاع الخاص تأثير كبير على الوضع المالي وعلى قدرتها التشغيلية.وفيما يخص المداخيل فقد أكدت أغلب المؤسسات (%85.9) أن مداخليها شهدت تراجعا هاما خلال السنة المنقضية .
أما فيما يخص التشغيل فقد أكدت غالبية المؤسسات الخاصة أن أزمة الكوفيد كان لها تأثير على التشغيل (%62.9) – فقد التجأ أكثر من ربع المؤسسات (%25.9) إلى طرد جزء من العملة بينما قرر ثلث هذه المؤسسات (%30.5) التقليص في ساعات العمل .
وقد أشارت هذه الدراسات إلى الأسباب التي ساهمت في الأزمة وانعكاساها على المؤسسات الخاصة .ومن ضمن هذه الأسباب أشارت نسبة كبيرة من المؤسسات إلى تراجع الطلب (%79.5) مما دفعها إلى التخفيض في نشاطها وانتاجها .
كما أكد عدد كبير من المؤسسات الخاصة على صعوبة الحصول على دعم البنوك والتمويل في هذه الظروف (%54.9) بالرغم من الدعم الذي قدمته الدولة في هذا المجال .
وأشارت بعض المؤسسات إلى أن الصعوبة في هذه الأزمة تكمن كذلك في صعوبة الحصول على المواد الأولية .
• في ضرورة تنشيط دور الدولة
لقد اهتمت هذه الدراسة بتقييم دور الدولة في دعم المؤسسات الاقتصادية وخاصة القطاع الخاص للصمود أمام الانعكاسات الاقتصادية للجائحة .وقد قامت الحكومة بأخذ جملة من الإجراءات منذ بداية الجائحة من اجل دعم المؤسسات الاقتصادية في هذه الأوضاع الاقتصادية الصعبة .
وقد أكدت المؤسسات الخاصة في هذه الدراسة على أهمية ثلاث مستويات من الإجراءات والقرارات لدعم استمراريتها وهي التأجيل أو التخفيض في الاداءات والدعم المالي المباشر وكذلك الضمان من اجل اللجوء إلى لمؤسسات المالية والبنوك.إلا أن الأهم في هذه المجال هو تقييم المؤسسات الخاصة للدعم الذي قدمته لها الدولة .ولئن لاحظنا ارتفاعا في نسبة المؤسسات التي تمتعت بالإجراءات الحكومية في نهاية السنة مقارنة بالأشهر الأولى(%25.5) إلا أن هذه الاستفادة تبقى محدودة إذا قارناها بحجم وحدة الأزمة .فقد أشارت أكثر من ثلث المؤسسات (%34) أنها لم تتمتع بدعم الحكومة بالرغم من أنها قدمت مطالب في هذا الصدد.كما أشارت عدة مؤسسات (%14.5) أنها لم تتقدم بمطالب نظرا للتعقيدات الكبرى ولصعوبة المسار.
وهنا تكمن النتيجة الأساسية لهذه الدراسة وتخص التناقض والتباعد التام بين خطورة الأزمة والخطر الداهم الذي قد يدمر مؤسساتنا الاقتصادية ونسيجنا الاجتماعي وضعف الدعم والتعبئة للدولة ولمؤسساتها من اجل حمايتها من الانعكاسات القاتلة للازمة الاقتصادية.
تعيش مؤسساتنا الاقتصادية وخاصة الخاصة منها اليوم وضعا اقتصاديا كارثيا نتيجة الجائحة وفيروس الكوفيد.وتؤكد هذه الدراسة أن هذه الأزمة قد أدت إلى إفلاس عدد كبير من المؤسسات الخاصة ووضعت ديمومة نسيجنا الاقتصادي والصناعي على المحك.وتؤكد هذه الدراسة على أن هذه الأزمة ستتواصل معنا لسنوات طويلة .
إن هذه الأزمة وهذا الخطر الداهم يتطلب منا ضبط برنامج وتصور طويل المدى من اجل حماية مؤسساتنا والوقوف إلى جانبها وإعادة ديناميكية النسيج الاقتصادي وحيويته .