وفي الأثناء تضيع الفرصة التي بشّرت بها انتخابات خريف 2019، و تزداد الرؤية ضبابية، وتتصاعد أصوات الاحتجاج في الجهات، وتعبّر أجيال ما بعد الثورة عن نفاد صبرها من معارك الشيوخ والقصور، ولا يخفي الفاعلون الاقتصاديون حيرتهم، والشركاء الدوليون انشغالهم ...وفي المقابل تتكشف التطورات في الساحة الدولية، وخاصة في جوارنا القريب، عن فرص عظيمة من شأنها أن تفكّ عنا خناق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، ولكن لا يستفيد من الفرص إلا من يكون جاهزا...
إنّ هذه الحلقة الجديدة من الأزمة مفتوحة على كل الاحتمالات، أخطرها هو استمرار التلذّذ بمعارك القصور، وحينها لن يكون مضمونا استمرار تحصّن جمهور المتفرجين بالصبر الساخر، ولكن قد يهتدي العقل السياسي إلى حلول تسكّن الأزمة والأفضل منه أن يهتدي إلى حلول تضع البلاد على سكّة نهاية مثمرة لهذه العهدة وتحافظ على الاستحقاقات في مواعيدها...
لا يجب أن نغالط أنفسنا...فالبلاد ليست في حاجة إلى تجاوز شكلي للأزمة، والى مجرّد تسريح عروق الإدارة السياسية الحالية... فهذا الحل قد يوفّر راحة نفسية مؤقتة...ولكن دون وضع الإجراءات السياسية والقانونية ضمن حلّ ذي ديمومة ونجاعة يعالج المشكلات الحقيقية، ستحصل الانتكاسة في أقرب عثرة، وسنجد أنفسنا أمام أزمة أكثر تعقيدا.
إن غايتنا هنا هي المساهمة في تلمس ملامح مثل هذا الحل بعد أن اتفق الجميع أن الحل هو سياسي قبل كل شيء.ومن أجل ذلك نرى من الضروري أن نستعيد المحطات التي كانت سببا في الوضعية الراهنة، مع التحلّي بأقصى درجات الوضوح وتسمية الأشياء بأسمائها...فالمسؤولية والنصح للبلاد يقتضيان ذلك...إذ أن المجاملات وأنصاف الكلمات لا تؤدي إلا إلى كشف نصف الحقائق و إلى اتخاذ نصف الإجراءات في أحسن الحالات...
لقد كانت انتخابات 2019 في العمق مراهنة على قدرة الصندوق على قيادة التغيير والاستجابة للاستحقاقات المهملة من مطالب الثورة، ولكنها أفرزت مشهدا ملغّما. وهنا تكمن المفارقة بين سعة التطلعات و صعوبة توفير الروافع ولذلك كان مطلوبا قراءة رسائل الانتخابات بدقّة للمحافظة على الثقة المستعادة في العملية الانتخابية وفي العملية السياسية،كما كان مطلوبا قراءة الأرقام من غير زاوية الكاسبين و الخاسرين.
يجدر التوقف عند معطيين، نراهما الأكثر تأثيرا:
المعطى الأول: انتخاب رئيس يفكر بطريقة مغايرة (لنقتصر هنا على هذه العبارة) عن المنتظم القائم من أحزاب ومنظمات ونخبوهو يتبنّىفي مجمله - بدرجات متباينة- السياسة العمليّة التي تحدّد المواقف بناء على قراءة في الواقع وموازين القوى من أجل الوصول إلى حلول توافقية بعد إدارة الصراع. والموقف السليم بالنسبة لهذه الرؤية هو الذي يحقق نتائج تؤتي أكلها بالتراكم، أما الموقف المبدئي عندها فهو الذي يحقق أفضل النتائج ضمن السياق القائم مع اعتماد أفضل آليات إدارة الصراع /التفاوض/التداول ...
في حين يتبنى الفائز في الانتخابات الرئاسية رؤية مغايرة يستمد فيها الموقف سلامته من ذاته لا من السياقات والإكراهات وموازين القوى والواقع...
لا يعنينا هنا نقاش صواب الرؤيتين فنحن معنيون فقط برسم الصورة كما نراها.
المعطى الثاني: انتخاب برلمان دون عمود فقري يضمن استقراره و نجاعته، مع تجاور مكونات مؤثرة تشقّها محاور صراع حادة أيديولوجية وتاريخية ونفسية وشخصية...
كان المطلوب الانتباه لهذين المُعطيين عند هندسة المشهد الجديد في بداية نوفمبر 2019...وذلك بالاشتغال على تجميع الوسط الديموقراطي من أجل تهدئة البرلمان و تشكيل حكومة مستقرة وناجعة والتفاعل الايجابي مع معطى تمايز رئيس الجمهورية ...
فلم يكن مطلوبا التفكير مثله ولكن كان مطلوبا تجاوز الرتابة والمحافظة في إدارة الشأن السياسي وكان ذلك ممكنا ببناء كتلة تقود الحكومة والبرلمان وتتعامل إيجابيا مع الرئيس...1 ولكن ذلك لم يحصل... وتراكمت أخطاء السير...
إنّ التجميع والبناء في الوسط كان يتطلب شجاعة التعامل مع معطيات الصندوق و بناء الثقة . وبناء الثقة في مناخ موبوء يتطلب صبرا وبيداغوجيا ودلائل أهمها اعتماد شراكات يكون فيها الجميع كاسبا « win-win » و لا يكون ذلك إلا بالتفاوض حول حزمة « package » متكاملة تتضمن رئاسة البرلمان ومكتبه ولجانه بجانب تركيبة الحكومة رئاسة و مواقع ...
لقد حصلت «الخطيئة الأصلية» بانتهاج فصل المسارات بين المسلكين البرلماني والحكومي، وهي منهجية فاقمت أزمة الثقة المستحكمة.
ولكن الأخطاء السياسية والأخلاقية تواصلت بعد ذلك في كل المحطات،بدءا بظروف الإطاحة بحكومة الحبيب الجملي لفسح المجال أمام بديل طُبخ في الكواليس بطريقة تغيب عنها النزاهة والشفافية، مرورا إلى طريقة اختيار رئيس الجمهورية مرشّحه ثمّ تمرير حكومة الفخفاخ في البرلمان مع إضمار إسقاطها وهي تقنية أسميناها حينها «الزواج بنيّة الطلاق» .إضافة إلى طريقة إدارة تلك الحكومة وخلفية سقوطها وطريقة اختيار المشيشي،وما رافق كامل المسار بعد ذلك من مفاجآت وصراعات...
لقد دعونا في أواخر أوت الماضي إلى عدم التصويت لصالح حكومة السيد المشيشي لأنها وُلدت في سياقات تمنعها من النجاح. إذ كيف يُتصوّر نجاح حكومة يغالبها رئيس الجمهورية دون أن تتمتع بدعم حقيقي ودون أن تتوفر على عمق سياسي .
كما لم نكن متحمسين لتمرير التعديل الوزاري الأخير لأنه تم أيضا في سياق مغالبة وضمّ وزراء تتعلّق بهم شبهات فساد.
• خلاصة الصورة:
إن مستويات الأزمة متعددة منها غياب الرؤية وانعدام الثقة وطغيان الانفعالات والشحنات النفسية ولكن جوهرها أخلاقي يطال الأغلبية التي تعتمد منهج التكتيكات الصغيرة والمخاتلة والخطابات المتلوّنة والفتاوى المتغيّرة كما يطال المعارضة التي تستقوي بخصوم الديموقراطية وبمراكز النفوذ وبموقع الرئاسة، وبعض مكونات هذه المعارضة لم يغادرثقافة الزعيم الملهم والتعويل على «البيان رقم واحد»...
ولكنّ الجديد في هذه اللوحة هو انكشاف رهافة القشرة الأخلاقية لرئيس الجمهورية...
لقد تسامح كثيرون مع ضعف كفاءته وتفريطه في مصالح وطنية كبرى، وغيابه المتكرّر عن كل المناسبات التي توسّع صداقات البلاد وتجلب المستثمرين، بدعوى النظافة والنزاهة والأخلاق ...ولكن هذا الغطاء انكشف فالأخلاق في السياسة هي التزام بالتعاقدات واحترام لجلالة الموقع ...
لقد ظهر الرئيس في صورة الذي يبتز البلاد، ويستثمر غياب المحكمة الدستورية، ويحرج المؤسستين العسكرية والأمنية وهما مؤسستان على ملك التونسيين ولهما تعاقداتهما الأخلاقية مع الوطن وليسا مجرد «كيس ملاكمة» يوظّف في المعارك التافهة لهذا المسؤول أو ذاك...
إنّ المحاولات المتكررة لتغيير حقيقة النظام السياسي والحرص على رئيس وزراء تابع للقصر، والمعارك لتطويع وزارتي الداخلية والعدل واختيار محيط غير كفء ومحاولة التأثير في توازنات الأحزاب الداخلية ، كلّها سقطات أخلاقية لا تنجح في إخفائها الإحالات التاريخية ولا الاستشهادات اللغويّة...
• هل من حلّ يجنّبنا توالد الأزمات؟
إن استمرار حالة «البلوكاج» لن تؤدي إلا إلى تجميع عوامل الانفجار، كما أن تنفيس الأزمة ، بانسحاب أو سحب الوزراء الذين تحوم حولهم شبهات لن يكون له من دلالة سياسية الا إذا اندرج ضمن رؤية كاملة غايتها إنقاذ بقية العهدة الانتخابية بحكومة مستقرة قادرة على الإنجاز.
غير أن هذه الرؤية غير ممكنة إلا بالانطلاق من الوقائع الصلبة وأهمها حقيقتان:
- رفض رئيس الجمهورية للحلول الوسط ودفع الأوضاع للتأزيم كلما أخطأ خصومه
- ضرورة الإقرار بأنّ حكومات التكنوقراط غير قادرة على إدارة الأوضاع الصعبة كما أنها تعدّ هروبا من التعاقد وتحايلا على الناخبين...
إن الحلّ المستديم والناجع يتطلب تشغيل آلية السياسة المعطّلة منذ بداية العهدة، والسياسة هي جهد يومي وصبور من أجل استعادة الثقة بين الديموقراطيين الذي يستندون إلى الدستور وإلى مكاسب السنوات العشر الماضية والمنشغلون بتدارك الإخلال الرهيب في المجال الاقتصادي والاجتماعي...
واستعادة الثقة تعني أساسا العودة إلى منهجية الحزمة في هندسة قيادة المرحلة القادمة ووضع كل شيء –كل شيء- على الطاولة من أجل ضمان الاستقرار والنجاعة في البرلمان والحكومة...وهذا يتطلب نكرانا للذات وشجاعة في كل الأحزاب والمنظمات، كما يتطلب أن تتحمّل الأصوات العقلانية في كل الأحزاب والمنظمات مسؤولياتها...
لا يجب أن تخطئ الحسابات والبوصلة...فاستمرار المغالية لن يؤدي إلا إلى حالة انفلات لن يستفيد منها أحد، ولنا في تاريخنا صفحات تستحق إعادة القراءة...
فقد أدى فشل محاولات تفكيك الألغام بين ديسمبر 1977 وجانفي 1978 وكذلك فشل الوساطات أواخر 1989إلى كوارث لا تزال البلاد تتحمّل نتائجها...
أما في سنة 2013 فقد تغلبت العقلانية وتداركنا أمرنا بحصيلة خرجت منها تونس كلها رابحة...
إن العودة إلى لحظة ما قبل 12 نوفمبر 2019، وتنازل كل الديموقراطيين بعضهم لبعض، وعدم الخطإ في تصنيف مكونات الساحة سيؤدي إلى مؤسسات مستقرة وناجعة والى إقناع رئيس الجمهورية بالتصرف انطلاقا من صلاحياته وإلى الاستفادة من خصاله الكثيرة، كما يؤدي إلى عزل النزعات غير الديموقراطية في البرلمان البلاد. كما أن هذا لتمشّي سيؤدي إلى استثمار كل النوافذ والفرص التي توفرها التطورات في العالم والمنطقة والجوار...
غير هذا ليس من خيار أسلم من التسريع بإعادة العهدة لأصحابها. إننا ندرك أنه ليس أفضل الخيارات، وأنه مكلّف،و لكنه أفضل من انفلات محتمل لا أحد يدري نتائجه أو من استمرار التطاحن العبثي لأهل القصور...
-----
1 - انظر المقالين الذين نشرناهما بموقع «منتدى الشرق»:
- بعد موسم انتخابي طويل..تونس بين دفعة جديدة للثورة أو الدخول في مرحلة اللايقين بتاريخ | 24 أكتوبر 2019
- تقدير موقف على هامش مشاورات تشكيل الحكومة التونسية: هل تستفيد الأحزاب السياسية من رسائل الانتخابات؟ بتاريخ15 نوفمبر 2019
كيف نتجاوز تدوير الأزمة إلى حلّها؟
- بقلم المغرب
- 10:18 13/02/2021
- 1473 عدد المشاهدات
بقلم: عبد الحميد الجلاصي
يعاني المشهد المؤسساتي،ومعه البلاد، منذ سنة و نصف من حالة من التخبّط، ويسلمنا المأزق إلى الأزمة، و تسلمنا الأزمة إلى أختها و التي تكون دائما أكثر منها تعقيدا...