وكذلك في الجدل داخل كل الدول ( حملات كبيرة من المحاكمات الجزائرية مثلا مست كبار مسؤولي الدولة ) ومنها تونس .
لقد اتسم الحديث عن الفساد في تونس في المدة الأخيرة بميزة هامة هي أنه:
- لم يعد توجيه شبهة الفساد لمجتمع الإعمال والاقتصاد والسياسة فقط بل تشمل كذلك القضاء إذ أصبح الحديث عن الفساد داخل القضاء حديثا غير «محرم» وعلني .
- أن الحديث عن الفساد داخل القضاء لم يعد حديث المجتمع المدني أو نشطاء محاربة الفساد فقط بل أصبح «إقرارا» و «اتهاما» صادرا عن القضاة أنفسهم ومتبادلا بينهم وأخر الاتهامات المتبادلة بين وكيل جمهورية المحكمة الابتدائية بتونس السابق والرئيس الأول لمحكمة التعقيب وفتح تحقيق ضد هذا الأخير في إطار بحث جزائي بعد اتهامه بالفساد حسب ما تداولت ذلك وسائل الإعلام نقلا عن مصادر قضائية .
- أن الوقوف في وجه الفساد داخل المنظوم القضائية يطالب به اليوم القضاة أنفسهم ( عريضة القضاة الذين طالبوا بموقف قانوني ضد احد القضاة الكبار) وكذلك المحامين ( يوم غضب المحامين في سوسة تحت شعار «المحامون ضد الفساد») ...
أن علاقة القضاء بالفساد علاقة لصيقة باعتبار أن القضاء هو أهم واكبر أدوات مكافحة الفساد ولكن في نفس الوقت هو احد مجالات مكافحة الفساد ( من داخل القطاع ومن خارجه ) وهو ما أكدت عليه كل الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها الجمهورية التونسية والتي اشترطت توحيد الجهود وتنسيقها دوليا ولكن على المستوى الوطني اشترطت لنجاعة مكافحة الفساد وجود قضاء بموصفات خاصة .
I) الاتفاقات الدولية مكافحة الفساد
هذه الاتفاقيات الدولية التي تعنينا وطنيا:
1) اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (نوفمبر 2003) والتي تعرف نفسها في الديباجة بأنها «صك قانوني دولي لمكافحة الفساد».
2) الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد (21 ديسمبر2010)
3) اتفاقية الاتحاد الإفريقي لمنع الفساد ومكافحته (جويلية 2003).
فهذه الاتفاقيات (الأممية والإقليمية) تعتبر اليوم وبعد المصادفة عليها من قبل الدولة التونسية جزءا أصليا من منظومة التشريع التونسي المتعلقة بمكافحة الفساد بل هي اعلي هذه القوانين وتأتي مباشره بعد الدستور (الفصل 20 من الدستور).
فالدولة التونسية بالمصادقة على هذه الاتفاقيات تكون ملتزمة كليا بمكافحة الفساد والمساعدة على تنسيق الجهود لمحاربته امميا ( مع كل الدولة المصادقة على اتفاقية الأمم المتحدة ) وإقليميا في اتجاه التزامها العربي ( اتفاقية الجامعية العربية ) وإفريقيا ( اتفاقية الاتحاد الإفريقي )
II) ماهية الفساد حسب الاتفاقية الدولية
اشتركت كل هذه الاتفاقيات في أنها لم تعرف تعريفا قانونيا مفهوم الفساد إلا أنها أكدت كلها على خطورته
1) غياب تعريف قانوني للفساد
تميزت الاتفاقيات الثلاثة بأنها لم تقدم تعريفا قانونيا لمصطلح الفساد بل أنها أقصى ما توصلت إليه اتفاقية الاتحاد الإفريقي في ديباجتها هو اعتبار إن الفساد « جملة الأعمال والممارسات ,بما فيها الجرائم ذات الصلة التي تجرمها هذه الاتفاقية « . أما الاتفاقية العربية فإنها اكتفت بالإشارة إلى إن الفساد هو « ظاهرة إجرامية متعددة الأشكال « في حين إن اتفاقية الأمم المتحدة لم تقترح تعريفا قانونيا لمفهوم الفساد.
هذا لا يعني إن هذه الاتفاقيات لم تعتبر وان الفساد هو جريمة أو فعل له علاقة بالجريمة من ذلك إن الاتفاقية الأممية قد أكدت على إن للفساد علاقة « مع سائر أشكال الجريمة وخاصة الجريمة المنظمة والاقتصادية بما فيها غسيل الأموال ...».
مع ذلك فان جملة الاتفاقيات اجتهدت في تعداد بعض الإعمال الإجرامية باعتبارها تصنف فسادا, كما كان الحال في الاتفاقية الإفريقية التي أقرت انه من الإعمال والممارسات التي تصنف فسادا كل عملية للكسب غير المشروع وكل غسل عائدات الفساد وكل عملية استخدام هذه الأموال المتأتية من الكسب غير المشروع والفساد في تمويل الأحزاب.
إما الاتفاقية الأمم المتحدة فإنها أبقت على المفاهيم العامة للإعمال التي تعتبر فسادا باستخدام عبارتي» الجريمة المنظمة « و»الجريمة الاقتصادية غسل الأموال « كما أنها أكدت على أن كل الممتلكات المتأتية أو متحصل عليها بشكل مباشر أو غير مباشر من ارتكاب جرم «يعتبر من العائدات الإجرامية « وبالتالي فان مجرد الاستفادة من هذه العائدات تعتبر جريمة وفسادا .
2) التأكيد على خطورة الفساد
لقد تعرضت هذه الاتفاقيات في ديباجتها إلى خطورة الفساد وشموليته باعتباره « لم يعد شانا محليا بل هو ظاهرة عبر- وطنية تمس كل المجتمعات والاقتصاديات « ( ديباجة الاتفاقية الأممية )
لقد رأت الاتفاقية الإفريقية أن للفساد عواقب وخيمة «على الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي» كما إن له « أثار مدمرة على التنمية الاقتصادية والاجتماعية».
وذهبت تقريبا في نفس الاتجاه الاتفاقية العربية لما أقرت وان للفساد « اثأر سلبية على القيم الأخلاقية والحياة السياسية «والنواحي الاقتصادية والاجتماعية».
إما الاتفاقية الأممية فإنها كانت أكثر شمولا لان الفساد وحسب ما جاء في الديباجة له عدة مخاطر على «استقرار المجتمعات وأمنها» وكما أنه «يقوض مؤسسات الديمقراطية وقيمها والقيم الأخلاقية والعدالة». فضلا على أنه «يعرض التنمية المستدامة وسيادة القانون للخطر».
III) دور القضاء في مكافحة الفساد
أكدت كل من الاتفاقية العربية والاتفاقية الأممية على إن للقضاء «دور حاسم في مكافحة الفساد» ( المادة 12 من الاتفاقية العربية والمادة 11 من الاتفاقية الأممية) وفي نفس الإطار وفي إحدى إصدارات الأمم المتحدة لتدريس وتفسر الاتفاقية الأممية جاء فيها وان « التطبيق المنصف للتشريعات الجنائية من الأمور الجوهرية في التصدي للفساد بفاعلية».
فهذه الاتفاقيات وفي الاتجاه الصحيح قدرت وان مكافحة الفساد ( أو حتى منع الفساد قبل حصوله كما جاء في الاتفاقية الإفريقية ) يستلزم العديد من الإجراءات والهياكل (قوانين /مؤسسات المجتمع المدني / منظمات مختصة في مكافحة الفساد ..) ولكن يبقى الدور «الحاسم» و«الجوهري» هو دور القضاء. وهذا الدور» الحاسم « والجوهري للقضاء في منع ومكافحة الفساد لا يكون ممكنا إلا بشروط معينه.
iv) شروط مكافحة القضاء للفساد
أعطت كل الاتفاقيات المذكورة للقضاء دورا حاسما في مكافحة الفساد ولكنها في نفس الوقت وبشكل ضمني أو صريح اعتبرت وان لابد من شروط معينه حتى يتمكن القضاء من مكافحة الفساد « بفاعلية « (حسب عبارة الوثيقة الصادرة عن الأمم المتحدة ) .
أولا: شرط التخصص :
أكدت الاتفاقية الإفريقية في المادة 13 على انه يجب ان يكون لكل دولة طرف في الاتفاقية «اختصاص قضائي يسال إعمال الفساد والجرائم ذات صلة».
ويفهم الاختصاص هنا في اتجاهين : اتجاه الاختصاص الوظيفي إي وجود محاكم خاصة ومتخصصة في قضايا الفساد وكذلك اختصاص مهني /عملي إي وجود قضاة مختصين في مادة وقوانين الفساد وهذا بالضرورة لا يهم القضاة لوحدهم بل يهم كذلك الخبراء وأعوان البحث الجزائي وموظفي المحاكم المتخصصة في الفساد وحتى المحامين .
ثانيا: شرط الاستقلالية
ألزمت المادة 12 من الاتفاقية العربية كل الدول الأعضاء « بضمان وتقرير استقلالية القضاء وأعضاء النيابة العامة..».
واعتبار ان استقلالية القضاء مسالة هامة و حاسمة في مكافحة الفساد فان هذه القاعدة والعبارات تقريبا هي التي نجدها بالمادة 11 من الاتفاقية الأممية (أهمية /استقلالية /دور حاسم ) مع تأكيد هذه المادة 11 على أن هذه الاستقلالية لا تشمل القضاء فقط بل يجب « تتميع جهاز النيابة العمومية باستقلالية مماثلة « ( المادة 11 الفقرة 20)
ثالثا: شرط النزاهة
ألزمت المادة 11 من الاتفاقية الأممية الدول المصادقة عليها باتخاذ «تدابير لتدعيم النزاهة ودرء فرص الفساد في أعضاء الجهاز القضائي ..».
وجاء كذلك في المادة 12 من الاتفاقية العربية وان الدول الأعضاء ملزمة « .. استقلال القضاء وأعضاء النيابة وتدعيم نزاهتهم ..».
إذن فكل من الاتفاقيتين اعتبرتا أن نزاهة القضاء شرط أساسي في مكافحة الفساد وان هذه النزاهة تفترض واقعيا غياب الفساد في الجهاز القضائي لان « القضاء الذي توكل له سلطة ملاحقة الفاسدين أولى به محاسبه الفاسدين في صفوفه سواء كانوا قضاة او موظفين وكل متعاون معهم سواء كانوا عناصر أمنية أو الأطباء الذي تؤثر تقاريرهم في مسار الملفات ..» ( موقف احد قضاة لبنان المتحمسين لمكافحة الفساد في لبنان / مقاله حرب الفساد تطرق ابواب القضاء اللبناني جريدة الشرق الأوسط 11 /03 /2019 عدد 14713).
أن الاتفاقية الأممية تعد « أول اتفاقية تعترف صراحة بالمشكلة العالمية المتمثلة في الفساد في مرفق العدالة والنيابة العمومية ..» واعتبار ذلك «عقبه جسيمة دون تحقيق العدالة و التنفيذ الفعال للقوانين المحلية ...» (عن وثيقة صادر عن الأمم المتحدة خاصة بتدريس الاتفاقية ص 71 ).
فهذه الاتفاقية تميزت باشتراط شرط النزاهة ولكن بمعنى خاص يتمثل في الاستقلالية و عدم الفساد « لان ضمانة مكافحة الفساد هو عدم فساد الجهاز القضائي بكل مكوناته من قضاة وأعوان الأبحاث وخبراء وموظفين وغيرهم . فمتى مس الفساد احد هذه الحلقات (القضاء مثلا او الخبراء ) فان عملية مكافحة الفساد وتطبيق القانون تتعطل نهائيا». (نفس المرجع )
فحسب وثائق الأمم المتحدة فان احد أوجه الفساد هو فساد الأجهزة القضائية في كل دول العالم (بدرجات مختلفة) وان احد أوجه مكافحة الفساد هو مكافحته داخل الأجهزة القضائية . وهو ما يفسر انه وفي إطار حرب القضاء اللبناني مثلا على الفساد وقع إيقاف عدد من الفاسدين (رجال أعمال , تجار مخدرات ,مهربين .. ) وكذلك إيقاف عدد من القضاة والمحامين ورجال الأمن وغيرهم باعتبارهم شركاء في الفساد ومعاونين على الإفلات من العقاب . (جريدة الشرق الأوسط 11 /03 /2019 عدد 14713).
لهذا السبب فان الاتفاقية الأممية قد ألزمت الدول الأعضاء بفعل ما يلزم ليكون القضاء بعيدا «عن فرص الفساد» (حسب عبارة الاتفاقية ) حتى يلعب دوره المهم والحاسم في مكافحة الفساد ( المادة 11 فقرة 1 ) .
فوحده القضاء المتخصص والمستقل و النزيه ( غير الفاسد ) هو الذي سيضمن:
• محاكمة عادلة للمتهم « بموجب إجراءات جنائية طبقا للحد الأدنى من الضمانات المنصوص عليها من الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب .. (المادة 14 من الثقافية الاتحاد الإفريقي )
• مكافحة ناجعة وحاسمة للفساد بعيدا عن الحسابات والاعتبارات السياسية ( في عملية الأيادي البيضاء الشهيرة فتح القضاء الايطالي ملفات نصف أعضاء البرلمان الايطالي و400 عضو في المجالس البلدية والوزير الأول ...).
• إعطاء صدقية ومصداقية للأحكام التي يصدرها بكل حرفية ,وشفافية , وحيادية , سواء كانت بالإدانة أو بالبراءة لان في غياب هذه الشروط وخاصة الاستقلالية والنزاهة «تكون القرارات والأحكام موضع تشكيك وشبهات» (كما أكد على ذلك نفس القاضي اللبناني المذكور أعلاه والمنشور في جريدة الشرق الأوسط عدد 14713).
• أن تكون مكافحة الفساد إحدى «رافعات التنمية» وليس وسيلة من وسائل تصفية الحسابات السياسية (الحكم بالإدانة) أو التغطية على فساد الشركاء والحلفاء السياسيين (الحكم بدم الإدانة) . وهذا الدور «التاريخي» للقضاء يجب أن يدافع عليه القضاة أنفسهم ومن معهم من «شركاء في إقامة العدل» ( المحامين ) ولا يكون ذلك إلا بانخراط الجميع في
مكافحة الفساد خارج منظومة القضاء وخاصة داخله ( فساد القضاة والمحامين والخبراء وأعوان العدلية...) وهو ما بدأت بعض ملامحه تظهر للعيان خاصة بظهور محامين ضد الفساد ( بما في ذلك فساد المحامين ) أو قضاة ضد الفساد ( وخاصة فساد القضاة ).
فمكافحة الفساد حسب المقاييس والاتفاقيات والمعايير الدولية يجب أن يخاض بالقضاء وفي القضاء من داخل القضاء ومن خارجه بواسطة القضاة وكل شركائهم ومساعديهم في منظومة العدالة دون حساسية أو أحكام مسبقة أو رهاب «Phobie» مما يمكن أن تكشف عنه عمليات البحث أو التدقيق ودون تحصن بمبدأ التضامن القطاعي Corporatisme.
فالسكوت عن الفساد في أي قطاع من القطاعات وأساسا أعضاء هذا القطاع لا يعتبر تواطئا فقط بل يعتبر مشاركة Complicité وكما هو متفق عليه فان المشارك يعتبر أخلاقيا وقانونيا مثله مثل الفاعل الأصلي.