وسقوط نظامه. فقد كانت أعمار جلّ المشاركين في التحركات الاجتماعية الراهنةوقت الثورة دون العاشرة، بين 4 و8 سنوات. ولكن هذه التحركات لا تختلف عن تلك التي أدت إلى الثورة:نفس المطالب ، ونفس الغضب والنقمة، تدفع لها نفس العوامل والأوضاع الّتي ازدادت تأزّما مع تفاقم البطالة، واستفحال الهشاشة والتهميش والتفاوت والظلم، وما ينجم عن ذلك من يأس وفقدان للثقة في المستقبل. ويصرّ البعض على تحميل الثورة مسؤولية تردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتدهور الخدمات العموميّة في مجالات التربية والصحّة والنقل وغيرها، وكلهم حنين إلى عهد بن عليّ وبورقيبة،يسوقون له على أنه زمن الرفاهية والأمن و»فرحة الحياة»، نرى الكثير من الثورجيين الذين لم يشاركوا في الثورةولم يفعلوا أيّ شيء لتحقيق أهدافها، رغم تمكنهم من السلطة أو مشاركتهم في المسك بمقاليدها، وهم يكرسون كل طاقاتهم للحفاظ على المنظومة التي ورثوها عن بن علي، ولم يفعلوا سوى مضاعفة سلبياتها :
• فالسياسات النيو- ليبراليّة التّي فرضها البنك العالمي وصندوق النقد الدولي منذ بداية الثمانينات، وتبنّاها نظام بن عليّ وكانت سببا للأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة الّتي قادت إلى ثورة 2010- 2011، ظلت الأفقَ الوحيد لسياسات كلّ الحكومات المتعاقبة منذ عشر سنوات، في ظل تراجع الإمكانيّات، وانعدام الكفاءة لدى من أصبحت بأيديهم المسؤولية في كل الميادين وفي كل مستويات السلطة، دون القدرة على استنباط الحلول وعلى تصور آفاق للخروج من مآزق هذه السياسات التي نجحت في غرس منظومة قيم مدارها الإدمان على استهلاك ما تروج له شتى وسائل الإشهار، من شاشات وأفلام وصحف وشبكات تواصل يوصف بالاجتماعي، في حين أنه أبعد ما يكون عن متطلبات الاجتماع، والبحث عن الخلاص الفردي دون اعتبار لقيم العمل والتضامن والتضحية، والهروب إلى أوهام الحلول السهلة كالإقبال على المخدرات والحلم بالهجرة أو العزوف عن كل ذلك، عندما يغلب اليأس من بلوغه، إلى المغامرة والانخراط في الشبكات المتداخلة «للجهاد» والإجرام والتهريب والإرهاب.
• الفساد تفاقم وغدا أكثر الأشياء «دمقرطة» إلى حدّ أنه بات يسمم كلّ النسيج المجتمعي، وانقلبت علاقته بالحكم، فبعد أن كان نابعا منه وخاضعالسيطرته، أصبح هو منبع الحكم، يعين القائمين به ويضغط عليهم حتى يكونوا في خدمته.
• البطالة عموماً، وبطالة الشباب خصوصًا، استفحلتفي حين اتجهت كل المؤشّرات الاقتصاديّة نحو التراجع، وهو ما أدى إلى تزايد الانفجاراتالناجمة عن انسداد آفاق التشغيل بصورة بات من الصعب التكهن بما يمكن أن تؤول إليهمن يوم إلى آخر.
• وظروفعيش كلّ الطبقات الاجتماعيّة تدهورت، ولم ينج من هذا المصيرالقاتم سوى المستفيدون من الفساد ومن قربهم من الأحزاب الحاكمة، وبالخصوص من حركة النهضة التي ما انفكت ركيزة قارة في كلّ الائتلافات الحكوميّة منذ2011 رغم التراجع المستمر لوزنها الانتخابي.
• ومظاهر الحيف والتفاوت بين الفئات الاجتماعية وبين الجهات تعمّقت إلى حدّ أنه لم يعد بالإمكان تحملها أو القبول بها والصبرعليها.
• والمرافق العموميّة تراجعتوتدهورت إمكانياتها إلى درجة أنها أصبحت عاجزة عن ضمان الحدّ الأدنى من الخدمات الموكولة لها، وهو ما فسح المجال أمام القطاع الخاص الّذي يسعى لتحقيق أقصى ما يمكن من الأرباح في أدنى الآجال، فضلا عن استغلال تراجع المرافق العمومية من طرف القوى المحافظة وبنى الهيمنة التقليديّة المتربصة بما تحقق على من مكاسب حداثية قلصت من نفوذها منذ الاستقلال يل ومنذ إصلاحات القرن التاسع عشر.
• وأجهزة الدولة أصبحت مخترقة منطرف الإسلاميّين ولوبيات الفساد التي تغلغلت في القضاء والشرطة والجيش والديوانة وفي مختلف الإدارات، بصورة باتت معها هذه الأجهزة غير قادرة على القيام بوظائفها، وعلى ضمان أمن البلاد والشعب ضدّ التهديدات الإرهابيّة وشبكات الجريمة المنظّمة.
• والنظام السياسي أصبح مشلولابـحكم ما يميزه من هجانة، إذ لا هو رئاسي ولا هو برلماني، فضلا عن غياب المؤسسات الضرورية للحد من سلطة المناورات الحزبية في منظومة «حزبُقراطيّة» نابعة من نظام انتخابي لا يسمح لأيّ حزب بتفادي ألاعيب التحالفات الانتهازيّة الّتي لا هدف من ورائها سوى البقاء في الحكم لمواصلة الاستثراء الفاحش، والاحتماء بالسلطة للإفلات من العدالة ومن التتبعات التي يقتضيهاالتورّط ، بشكل أو بآخر، في جرائم الفساد والاغتيالات السياسية الإرهاب وتبييض الأموال وما إلى ذلك من أنواع المخالفات والجنايات.
هل يبرّر هذا ما نقرأه ونسمعه من تبرم من الثورة وتحسّرعلىعهد نظام بن علي؟
قطعا، لا وألف لا !فالمشكل ليس في الثورة ضدّ هذه الدكتاتوريّة بل في عدم استكمال مهام الثورة وتحقيق أهدافها.فلئن أطاحت الثورة بحكم بن عليّ فإنها لمتنجح في تقويض أسس منظومته. وكل ماتمكّنت من تحقيقه يكاد ينحصر في الحريّات التي تم افتكاكها قبل أن ينقضّ عليها الانتهازيّون الذين لم يكونوا من المشاركين فيها، ويستحوذوا على الحكم ليحوّلوا وجهتها ويحولوا دون تحقيق باقي أهدافها.فما أن تمكنوا من مقاليد السلطة حتى كرسوا كل طاقاتهم لإنقاذ ما استطاعوا من منظومة الاستبداد والفساد التي ورثوها عن بن علي، وعملوا على ضمان استمرارهالبلوغ أهدافهم، سواء منها الانقضاض على مكاسب تونس الحداثية لتحقيق مشروعهم الثيوقراطي الظلامي، أو الاستثراء والاستئثار بكلّ السلطات، باسم الشعب وباسم الله، من أجل تحقيق مآربهم.ولعل أبلغ صور المحافظة على المنظومة الموروثة عن عهد بن علي، ما نراه من اعتماد على من تفانوا في خدمة النظام الذي استهدفته الثورة : فيكفي أن يقدّم رجال بن عليّ ولاءهم للحكّام الجدد حتّى يُغفر لهم كلّ شيء، وتتمّ إعادة تأهيلهم للاستفادة من تجربتهم في تقنيات الهيمنة والتسلط، على غرار ما تشهد عليه دعوة آخر أمين عام لحزب بن عليّ، محمّد الغرياني، إلى تقلّد خطة مستشار لدى راشد الغنّوشي رئيس حركة النهضة ورئيس مجلس نواب الشعب، رغم ما أثاره هذا التعيين من استغراب واستنكار حتى في صفوف الإسلاميين ومن طرف عدد من قياداتهم التاريخية.
وحين تجرّأ الشباب وسكّان الأحياء الشعبيّة والجهات، الّتي كانت ضحيّة الظلم الموروث عن نظام بن عليّ، على الخروج للتظاهر والتعبير عن غضبهم، بما أتيح لهم من أدوات وبما لديهم من ثقافة، تجاه استفحال مظاهر التفاوت والتهميش و»الحقرة» وعدم الاكتراث لأوضاعهم ولمطالبهم، تمّت مجابهتهم بنفس الأجوبة والأساليب : القمع، وإن بدرجة أقل مما كان يمارسه بوليس بن عليّ، بسبب عدم القدرةعلى ما كان يأتيه النظام السابق، واللجوء إلى ميليشيات الإسلاميّين لمساندة قوات الأمن كما كانت تفعل من قبلُ ميليشيات التجمّع الدستوري الديمقراطي، وميليشيات حزب بورقيبة،ونفس اللغة الخشبيّة والخطاب الديماغوجي المراوغ والمماطل، حيث أخذت عبارة «أتفهّم مطالبكم» في كلمة المشيشي مكان « فهمتكم» في كلمة بن عليّ قبيل هروبه.
ولعل أهم مكسب من مكتسبات الثورة الّذييتشبث به الشعب ويواجه به سلطة الحكّام، أيّا كانوا ومهما كانت الإيديولوجيّة التي يتسربلون بها لتبرير سياساتهم، ذلك الذي يتجسد في قوّة الغضب والصمودالتي حلت مكان ما يسمى «قوّة الطاعة». وكل ما يمكن أن نتمناه للتحركاتالشبابيّة والاجتماعية الراهنة هو أن يقع تحصينها من كل محاولات الاحتواء والسعي إلى تحويلهاعن أهدافها لإجهاضها. وفي سبيل ذلك لا بد أن يكون لممثلات وممثلي هذه التحركات مكانهم في الأطر المدعوة للبحث في مطالبهم ولاتخاذ القرارات التي يتوقف عليها الخروج من الأزمةوتحقيق أهداف هذه التحركات التي هي نفس أهداف الثورة التي تم إلى حد الآن تجاهلها. ولإيجاد الحلول الضرورية لمشاكل البلاد ولتحقيق المطالب والأهداف التي هي رهان هذه التحركات، من الوهم التعويل على المؤسسات القائمة في كلّ المستويات، وفي مقدمتها مجلس النواب الشعب الخاضع لهيمنة مجموعات لا تمثّل سوى مصالح اللوبيات والقوى التي لها مصلحة في استمرار الأوضاع على ما هي عليه. وأيا كان الإطار الذي سيتم فيه البحث عن حلول للأزمة المستفحلة يوما بعد يوم -حوار وطنيّ كالذي يدعو له اتحاد الشغل بدعم من عدة جهات، أو صيغ أخرى، فلا يمكنه الاستغناء عن المشاركة الفعلية لممثلي الشباب وللأصوات المعبرة عن هذه التحركات،حتّى لا تنتهي هذه المبادرات إلى ما آل له الحوار الوطني سنة 2014،أي إلىفرصة جديدةلترميم المنظومة القائمة وإنقاذ من يتحكّم فيها.ولابدّ أن يكون مدار كل المساعي والمبادرات النقاط الأساسية التالية:
- اتّخاذ الإجراءات الاقتصاديّة والاجتماعيّة العاجلة الّتي تتطلبها الاستجابة لمطالب الحركة الاجتماعيّة الحاليّة،
- وضع الأسس التي يقتضيها بناء عقد اجتماعيّ جديد قوامه التطلّعات الاجتماعيّة والديمقراطيّة الّتي كانت وراء ثورة 2010- 2011،
- مراجعة الدستور حتّى يتمّ وضع حدّ للنظام السياسي الهجين الّذي يشلّ البلاد، وتجاوزما فيه من تناقضات لا تسمح بسن تشريعات قابلة للتطبيق.
- تغيير القانون الانتخابي في اتجاه نظام اقتراع يسمح بإفراز أغلبية قادرة على اتخاذ القرارات الضرورية لإدارة الشأن العام، دون العودة إلى الأغلبيّة المطلقة على دورتين،
- تركيز المحكمة الدستوريّة، وتفعيل قرارات محكمة المحاسبات المتعلقة بالانتخابات الأخيرة،
- التعجيل بالبت في القضايا المعطلة منذ سنوات، ورفع كل العوائق الحائلة دون ذلك - كالحصانة وتكليف قضاة خاضعين للابتزاز، وغير ذلك من وسائل منع القضاء من القيام بمهامه - سواءتعلق الأمربقضايا الاغتيالات السياسية أوبالقضايا المرتبطة بالإرهاب والفساد، وكلالقضايا التي تتسبب في تعطيل سير دواليب الدولة وتعكير الأجواء السياسية، فضلا عن تهديد أمن البلاد.
ولا بد من التأكيد على أن هذه الأهداف يجب تحقيقها في أقرب الآجال وقبل تنظيم أي انتخابات جديدة.
عشر سنوات بعد الثورة: أيّة أجوبة على تجدد التحركات الشبابية والاجتماعية؟
- بقلم المغرب
- 10:14 27/01/2021
- 977 عدد المشاهدات
بقلم: محمد الشريف فرجاني
بعد عشر سنوات من الثورة، انتفض الشباب الّذي لم يعرف أغلبه دكتاتوريّة ابن عليّ، ولم يشارك في الاحتجاجات الّتي أدّت إلى هروبه