الشباب التونسي والأزمات كورونا نموذجا: بقلم زياد عبد القادر كاتب تونسي

في 1976 كان إدغار موران قد نشر مقالة تحت عنوان «من أجل علم للأزمات Pour une crisologie».

وجه الطرافة في هذه المقالة أنها تعرّفنا على تناقض المعنى الحديث لكلمة «أزمة» مع دلالتها الأصلية. في البدء تجدر الإشارة إلى أنّ كلمة «أزمة crise « تنحدر من الكلمة اليونانية Krisis وتعني تشخيص المرض. بعبارة أخرى، إنها المستوى الذي تكون فيه علامات مرض ما جليّة على نحو يسمح للطبيب بتشخيصه. فضلا عن القدرة على التشخيص، نجد أنّ من بين معاني كلمة Krisis في لسانها اليوناني «ضرورة اتخاذا القرار». فظهور المرض يستدعي وفق هذا التعريف اتخاذ قرار للقطع مع وضع قد يكون في استمراره مضرة لنا.
بالانتقال إلى اللغة اللاتينية نجد أنّ لفظ Crisis قد بات يؤدي دلالة طبية محضة، مسجّلين بذلك تعطل دلالات الأصل اليوناني من قبيل «اتخاذ القرار» و«القطع مع». ولكنّ الأخطر من هذا التعطل في ثراء اللفظ هو الانقلاب الحديث على دلالته اليونانية، فقد بات يعني «عدم القدرة على الحكم».
إنّ الأهمية التي تكتسيها هذه العودة الإيتيمولوجية إنما تكمن في لفت أنظارنا إلى «الأزمة» بوصفها رفيق الإنسان في تطوره التاريخي، وهو ما يوضحه موران في مقاله «الحيوان الأزمويّ L’animal crisique». فهل تاريخ الإنسان بأسره إلاّ تاريخ أزماته الروحية والعلمية والسياسية؟ ولكنّ الطريف في الأزمة أنها لا تأتي إلاّ وهي مرفوقة بشطرها الثاني، ونقصد بذلك «ضرورة القطع مع»، لذلك علينا، حسب إدغار موران، تأوّل الأزمات بوصفها ما يقترحه علينا الواقع من إشكاليات. ولأنّ هذا الواقع مركّب، فإنّ الأزمة هي بالضرورة شبكة من الأزمات، وبالتالي فإننا نحتاج معرفة مركّبة لفهمها. فالأزمة الصحية مثلا، ليست وفق هذا القول أزمةً في حدود مجرد علوم الطب، بل الأصح أنها أزمة تلامس مختلف ميادين المعرفة، ما يقتضي الماما واسعا بعلوم شتى للتصدي لها وفهمها. متى أخذنا الأمر من هذه الزاوية فإنّ مساهمة الأزمة في التحفيز على رعاية المعرفة وتطويرها ستصبح قابلة للفهم.
لقد اعتمدنا لهذه الورقة عنوان فرعيا «كورونا نموذجا». ويهمنا في البدء أن نوضح أنّ ما نحن بصدده لا يعدو أن يكون قراءة تأويلية في تفاعل الشباب التونسي مع هذا الشكل المستجد من الأزمات انطلاقا من منصة التواصل الاجتماعي الفايسبوك. إنها قراءة برقية، ورغم أنها لا تعرض أرقاما أو بيانات أو غير ذلك من الشروط التي لابد من توفرها في أيّما عمل يروم صفة العلم، فإنها تأمل ألاّ يحول ذلك دون أن تقذف ولو حجرا واحدا في بحيرة الأفكار الساكنة.
1- لسنا في خندق واحد
العبارة الواردة أعلاه عنوان مقالة للروائية الأمريكية من أصل مغربي ليلى علمي نُشرت في لوس أنجلس رفيو أوف بوكس في 10 أوت 2020. ما يهمنا من هذه المقالة هو الإشارة إلى التفاوتات التي كشفت عنها أزمة كورونا، فقد بدا واضحا أنّ من لديهم المال أو وظائف حكومية كانوا قادرين على البقاء في البيوت آمنين، مشاهدين برامج التلفزيون ومطورين مهاراتهم في الخبز، أما أصحاب الدخول المحدودة فقد كان عليهم ان يعملوا مخاطرين بالاصابة بالعدوى أو البقاء في البيوت منتظرين الطرد.
ما تقوله الروائية عن التمايز الذي خلقته أزمة كورونا داخل المجتمع الأمريكي، يصلح قوله أيضا عن المجتمع التونسي. فإن كانت شريحة الأمريكيين المحظوظين قد انشغلت خلال أيام الحظر بتطوير مهاراتها في الخبز وغيرها من أشغال النعمة، فإنّ الأمر نفسه ينطبق علينا. فبين عشية وضحاها باتت صور المخبوزات ووصفات الطعام تملأ الشاشات. خلال الأيام الأولى من الحظر كان واضحا تقبّل موجة المخبوزات هذه بالكثير من المرح، بل حتى إنها كوفئت بالمشاركة والنشر. ولكن مع طول مدة الحظر، لم يعد يخفى تبرّم الكثيرين منها، فقد بدت علامةً على عدم الاكتراث تجاه من باتوا مهددين في خبزهم كفاف يومهم. لقد كانت هذه علامة تمايز دلت على أنّ مجتمع الحظر ليس كله في خندق واحد.
كتعبير عن موقف ضدّيّ من سُعار الطبخ الذي تحوّل إلى مباهاة اجتماعية، ظهرت أصوات مقابلة تدعو إلى إعادة الفتح مع اتخاذ تدابير السلامة. في الحالتين لم يكن خافيا أنّ المصالح الشخصية هي ما يتحكم في مواقف جميع الأطراف، بين من يفكر في راحته حتى وإن كان فيها ضياع عمل غيره، وبين من يفكر في تأمين عمله حتى وإن كان على حساب سلامة الجميع. هذا الانقسام الحدّيّ بدا من القوة بحيث شقّ كل الفئات العمرية خالقا داخلها اتجاهات تعبّر عن قلق الفرد في حدود وجوده الشخصي. إنّ فحصا سريعا لمنتخباتٍ من تعليقات من هم في فئة الشباب تسمح لنا بأن نسجّل اتجاهين متقابلين إزاء أزمة الكورونا. الأول، يتحدث عن ملازمة البيت كإجراء وقائيّ كلّف ذلك الدولة ما كلّف، وأصحاب هذا الرأي هم في الأغلب مباشرون في أحد الوظائف العمومية. الاتجاه الثاني، ويشمل العاطلين عن العمل أو من يزاولون مِهنًا هشة، ويدفع باتجاه تعميم تكاليف تداعيات كورونا الاقتصادية على الجميع. في الحالتين، بدا أنّ متغير الجنس والمستوى التعليمي والجهة بلا أيّ قيمة تذكر. في المحصّلة، لقد كانت هذه «إشارة إلى أنّ الرابط الاجتماعي قد هزل».
2- كورونا: الوباء وآفاق التلقي
بعبارة الأستاذ فتحي المسكيني، «لم يعد الإنسان المعاصر -منذ نهاية القرن التاسع عشر-جسماً يدّعي أنّه مساحة أخلاقية لا يزال يمتلك الوصاية الاجتماعية عليها تحت عنوان «الصحة»، بل هو قد تحوّل بسرعة مرعبة إلى دوائر حيويّة لا متناهية من «إمكانيات المرض» لا يرى منها سوى طبقتها الخارجية».
إنّ وجه الادعاء الذي يصيبه الفيروس هو التالي: مرض الإنسان بوصفه «نموذج للصحة أو براديغم طبّي للحكم على مدى تمتّع أيّ حيوان «آخر» بصحّته». لقد صار من السخف مقابلة هذا المرض بسرديّات الانفصال الأخلاقي والميتافيزيقي عن بقية الكائنات الحيّة. المثير أنّ هذا الانفصال الذي تعطّل بصورة جذرية في ميدان علاقة الإنسان بالكائنات الحيّة قد عوّض عن خسارته بتثبيت موقعه داخل مملكة الإنسان نفسه. ولكنّ نكتة الأمر أنه بدلا من صيغته الأصلية، فإنّ هذا الانفصال قد أخلى مكانه لنسخة فقيرة منه، نسخة بلا أيّ مضمون ميتافيزيقيّ أو أخلاقيّ تعرّف نفسها تحت مسمّى «التباعد الاجتماعي». لم يعد هناك شك في أنّ الإنسان فيروس لأخيه الإنسان، لذلك لم يعد ثمة بُدّ من تجنّبه. إنه وضع غير مسبوق في تعريف الإنسان تحت وطأة شعوره بالعار من نوعه.
لقد جرت العادة أنّ المرء متى مسّه الضُرُّ لا يجد حرجا في أن يجاهر بالمرض. كان هذا شأنه إلى أمد قريب، فما الذي حدث لينقلب الأمر إلى الضد؟ كيف نفسّر أنّ الكثير من المصابين كانوا أقرب إلى الشعور بالخزي وهم يتلقّون خبر اصابتهم بالمرض؟ ألم يصل الأمر بالبعض حدّ التكتم على الاصابات المسجّلة في محيطه المصغّر كما لو أنه يُحيط بالسرّية عارا قد حلّ بالعائلة؟ نسجّل في البداية أنّ الفيروس قد نجح في أن يقول لنا عن ذواتنا المعاصرة ما لم يستطع أن يقوله المرض التقليدي. لقد بدا لنا مثيرا للهلع، أكثر حتى من فكرة الموت نفسها، أنّ طقوس العيادة والمواساة التي كان يسمح بها المرض قد عُطّلت فجأة. السهر على عزيز في مرضه، مسكُ يده أو مسح عرقه، بل حتى السير في جنازته...هذا وغيره لم يعد مسموحا به. لقد بات ترفا من الماضي، تراثا أخلاقيّا فاخرا قد نكون نحن آخر شهوده.
ما يبدو واضحا هو أنّ حياة بلا صِلاتٍ تستحق موتا بلا صلات. على نحو ما، هذا ما نجح الفيروس في أن يقوله لنا عن نمط وجودنا. عالميًّا، تحت تبرير حمائيّ، رأينا كيف تمّ اغلاق الحدود بين الدول. الاجراء نفسه تمّ تطبيقه على صعيد الكوكب بأسره لتتحوّل المدن والقرى إلى كانتونات مغلقة في وجه بعضها البعض. في تواز مع هذه التدابير الأمنية، تكشف صفحات التواصل الاجتماعي عن مواقف شعبية من النمط ذاته. فلنأخذ صفحات الجهات التونسية مثالا. إنّ مسحا سريعا لهذه الصفحات زمن الأزمة يُظهر لنا بأيّ سلاسة تمّ تكييف الدعوة إلى حظر الجولان مع منشوراتٍ ذات نمط جهوي. ما نرمي إليه هو هذا التحول الذي بمقتضاه ما عادت تعبيرات الخوف من الوباء تجري تحت تبرير يتعلق بالصحة، وإنما باحتياط من الألتروفوبيا. فقط، فلنضع نصب أعيننا ذلك الاحتجاج الذي أبداه الكثيرون على دفن ضحايا الوباء، من غير أصيلي الجهة، في مقابرهم. إنّ القصد من استدعاء هذا الرفض هو التنبيه إلى أنّ الخوف من الوباء قد استحضر معه احتياطا من العُقد. ومتى وضعنا نصب أعيننا أنّ هذا الاحتياط تغذّيه ثقافات فرعية، فإنّ فحص آثار الوباء في حدود مجرد أعداد الإصابات والوفيات، أو في حدود الخسائر الاقتصادية الناجمة، سيظل يحجب عن أعيننا تلك المصادر المخفيّة التي تشكل أنماط الفهم لدى الأغلبية.
عندما نوجّه النظر أبعد من حدود أنفسنا سنبدأ في رؤية العقد الثقافية والهووية التي سمح الوباء بكشفها. نضرب هنا مثالين إثنين. الأول، السرعة القياسية التي تحوّل بها الوباء من محنة صحية تهم عموم الإنسانية إلى فرصة هووية لوصم الآخر، المختلف ثقافيا وعرقيّا. فلنتذكر هنا موجة السخرية من «المطبخ الصينيّ» والتندر بأنه وراء تفشي الوباء العالمي. الثاني، هو السهولة التي انقلب فيها الوباء إلى مادة للسجال حول الدين أكثر منه حول العلم. ما نلاحظه هو أنّ هذا الانخراط في «تديين» الوباء بنقله من سجلّ الأرض إلى سجلّ السماء، ومن فضاء الأزمة العالمية إلى نطاق الملّة، يكاد يكون عابرا للأجيال.
إنه لذو مغزى، في اعتقادنا، أنّ السجال حول منشإ الأزمة وطبيعة الحلّ في المستقبل قد استأثر بالجانب الأوسع من تعليقات من هم في سنّ الشباب، وهذا له دلالة في رأينا. ولأنّ فحص هذه الدلالة يتطلب جهدا ليس في وسع هذه المساحة أن تتحمله فإننا نكتفي في ختام هذه الورقة بالاشارة إلى جملة من الملاحظات البرقية. أولا، إنّ مواقع التواصل الاجتماعي قد انتقلت من منصة لعرض المواقف والآراء إلى منصة لتشكيلها وصياغتها. ثانيا، إنّ تأثير هذه المواقع في تشكيل فهم للأزمة، محافظٍ كان أو على الضد من المحافظة، لهوَ من القوة بحيث أنه بات بمثابة الإطار المرجعي الذي يجد فيه كل طرفٍ جماعته «الروحية». ثالثا، يكشف اختلاف المواقف من الأزمة، متى فحصناه عن كثب، عن اختلاف عميق حول قضايا محورية من قبيل الهوية والآخر والدين والعلم، إلخ. رابعا، إنّ قسما كبيرا من ردود المستخدمين وتعليقاتهم حول الأزمة يستدعي إلى أذهاننا فيلم «المعضلة الاجتماعية The social Dilemma». الفكرة الأساسية هنا هي توجيه المستخدمين، بواسطة خوارزميات معقدة، إلى تبني مواقف معينة عن طريق «تعريضهم لأشخاص يشاركونهم الآراء نفسها، من دون عرض الرأي الآخر، ما يجعلهم مع الوقت متعصبين أكثر لآرائهم».
لا شك في أنّ الوباء كارثة تطال وجودنا، ولكن أليس في عين الكارثة قد وجد الفكر على الدوام فرصته ليطرح الأسئلة التي لم تخطر له في سائر الأيام؟ حسبنا أن نتذكر، كما يشير إلى ذلك الروائي كين فوليت، أنّ الطب كعلم حقيقي قد بدأ بعد أن فتك الطاعون بإيمان الناس بالكنيسة كمصدر للمساعدة الطبية. هذا في علاقة بالغرب. ولكن في علاقة بنا، هل يمكن أن ينطوي الوباء على مثل هذا المفعول الإيجابي؟ هل يمكن أن يدفع من هم في سن الشباب، على الأقل، إلى الإيمان بالعلم وإلى تبني قيم المعقولية؟ نعتقد أنّ الأمر يحتاج جهدا كبيرا، تتضافر فيه شتى العلوم، قبل أن نتجرّأ ونقدم إجابة على هذه الأسئلة؟

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115