وهذا يعني أن كلّ المناطق المنكوبة تنمويا، سوى تلك التي لا تمتلك شيئا ثمينا تضعه رهينة لمطالبها، في حالة استنفار تنموي تُصاغ احتجاجات دون توقف.
هؤلاء الذين تخيفهم كرة الثلج يدافعون عن هيبة الدولة ويرون أن أي تفاوض للدولة مع الجهات غبر التقليدية هو عمل انتحاري وأن عليها الاستعداد لتلبية مطالب كل المحتجين وخصوصا أولائك الذين بإمكانهم تعطيل أنتاج أو تعطيل خدمة حيوية من الخدمات. إذ الدولة لا تمتلك القدرات الكافية لإيجاد حلول سريعة للطلب الاجتماعي المتزايد.
إن ما حصُل في الكامور هو اتفاق غير كلاسيكي بين الدولة وفاعلين جُدد في المشهد التفاوضي الذي تعودنا عليه. نحن إذا أمام براديقم جديد في فض النزاعات التي لها علاقة بالطلب الاجتماعي. ومن المفهوم ألا يتقبل العديد هذا البراديقم لأنه أحدث ارتباكا كبيرا في تصورهم للعلاقة بين الدولة والمجتمع. قُرأ اتفاق الكامور على أنه إضعاف للدولة ومسّ من هيبتها ودعوة للآخرين كي يحذوا حذو ما حدث وقد بدأت التحركات في هذا الاتجاه بالظهور.
لقد ظهرت أولى المبادرات عندما أصرّ اهل جمنة في الجنوب الغربي على استعادة الواحة التي ورثوها عن أجدادهم والتي تسلمتها الدولة التونسية من الفرنسيين وبدأت التصرف فيها كإحدى أملاكها واكترتها بطرق فيها الكثير من المحاباة. منذ 2011 تعامل المواطنون في جمنة مع الواحة من منظور اقتصاد اجتماعي وتضامني. وأثبتت التجربة أن أهل جمنة والجمعية التي تشرف على التصرف في الواحة قد نجحوا في إرساء نمط تنموي خارج عن المألوف. فهو نمط تنومي يخضع لرقابة مالية وإدارية مستقلة وكل المؤشرات تدلّ على أن أهل جمنة قد استفادوا من واحة يعتبرون أنها ملكهم وأنه يجدر بهم أن يتصرفوا فيها لأن الدولة قد عجزت سابقا في ذلك. إن نموذج واحة جمنة يُعدّ درسا للدولة في كيفية حوكمة مواقع الإنتاج. وهذا النموذج يمكن تعميمه على أن يكون ضمن سياق يسمح بذلك أو ان فرص نجاحه كبيرة.
نجح نموذج الكامور لأنه أعطانا فرصة لنرى الأشياء بطريقة مغايرة، ولأنه أخرجنا من البراديقم الكلاسيكي الذي في الغالب يتعامل مع مثل هذه الظواهر باللجوء إلى الحلول الأمنية أو في أفضل الحالات يقدّم مسكنات أو وعود لا ترجمة لها في الواقع. القيمة الرمزية لظاهرة الكامور أنها أعادت للتداول النقاش الجدّي حول العلاقة الممكنة بين المركزي
والمحلي. كما مكنت الدولة من معرفة ما يحدث في الجهات لأنه في أغلب الأحيان هناك ازدراء للحركات الاحتجاجية وعجز عن مواجهتها أو حتى اقتراح حلول. الشباب الطي قاد الكامور كان في قوة اقتراح كما كان المواطنون في واحة جمنة قوة اقتراح وقوة فعل.
قد تعطينا تجربة الكامور رؤية تنموية جديدة تُعيد للمحلي فرصا لإثبات قدراته على إنجاز حوكمة جيدة للمشاريع التي تقع تحت إشرافه. والكاموريون مطالبون الآن بإثبات هذه الجدارة. من هنا تأتي مراقبة ما سيحدث هناك طيلة سنة كاملة مسألة قصوى للاستفادة من الدروس. على الكامريين أن يحولوا ما حصلوا عليه من جراء الاتفاقيات إلى اقتصاد تضامني
واجتماعي وأن لا يتصرفوا مع ما حصلوا عليه على أنه امتياز ريعي. وهذا يكون بالعمل على إنجاح تجربة شركات البستنة التي كانت شركات كسل وليست شركات انتاج.
من هذا المنطلق لا يجب التعامل مع ظاهرة الكامور كشبح مخيف يهدّد التوازنات الاجتماعية والاقتصادية والأمن العام ويضع الدولة في حرج لا خروج منه. ظاهرة الكامور براديقم جديد يعيد ترتيب أولويات الدولة وأولويات العلاقة بين دولة متجذرة في مركزيتها، عاجزة تقريبا على بناء مقترحات جدية وفاقدة لثقة مواطنيها.
قد تكون خسائر غلق مواقع الإنتاج كبيرة وهي ليست فقط كلفة مادية. ولكن هذه الكُلفة لا معنى لها أمام كُلفة فقدان الثقة بين المجتمع والدولة وكُلفة دولة مريضة بمركزيتها عاجزة على تقديم المقترحات وغير منتبهة بالمرّة للقدرات التي يحتويها المحلّي. فإذا وقع غلق « الفانة» أربع أشهر مع ما يعنيه من خسائر، فإن إغلاق المنافذ أمام المحلي و القدرات التي يمتلكها مع ما يعنيه من خسائر أيضا، قد وقع منذ عشرات السنين.