هذا النشاط البشري الذي لم تدرك العلوم الانسانية والاجتماعية قيمته إلا مؤخرا يفتح لنا آفاقا كبيرة لفهم ما يدور حولنا الآن مثلما يساعدنا على فهم ما كان حاصلا في الماضي. وإذ يقع الاحتفال بالنادي الإفريقي في مائويته فليس لأن هذا النادي هو ناد رياضي فحسب، بل لأنه علاوة على ذلك هو مؤسسة عريقة من مؤسسات هذا الوطن تختزل التاريخ والمجتمع والثقافة والسياسة. النادي الإفريقي هو ظاهرة اجتماعية كليّة يتداخل فيها كل ما يمكنه أن يختزل الوجود البشري.
مرحلة تأسيس النادي الإفريقي كانت مرحلة مفعمة بالنضال الوطني، في نفس السنة يقع تأسيس أول حزب سياسي، الحزب الحر الدستوري التونسي. وفي تلك المرحلة وقبلها أيضا مع حركة الشباب التونسي في 1907 تبدأ النخب الوطنية في الاشتغال على مواجهة الاستعمار الفرنسي وفي تحديد شكل العلاقة معه. وفي هذا السياق تدخل النوادي الرياضية حلبة المواجهة، وهي مواجهة هوياتية.
كانت لليهود آنذاك نواديهم وكذلك الفرنسيون والإيطاليون والمالطيون وكان لا بدّ أن يكون للمسلمين نواديهم الرياضية. وهنا اختلط العامل الديني بالعامل الوطني وأصبحت مباريات كرة القدم على وجه الخصوص مواجهات تكشف عن تركيبة المجتمع التونسي آنذاك وعن مختلف تناقضاته. ودخلت كرة القدم على وجه الخصوص غمار الحياة السياسية وبدأ الزعماء الوطنيون والنخب في النظر إليها كطريق إلى الفعل في المشهد العام.
ساهم في تأسيس النادي الإفريقي أشخاص من النخب البورجوازية المتعلمة والمحافظة أيضا والتي كانت قريبة جدا من الحزب الحر الدستوري الذي أسسه عبد العزيز الثعالبي الدي كان هو نفسه من كان وراء تأسيس الملعب الإفريقي سنة 1915 الذي وقع حلّه سنة 1918. من داخل هذه المنظومة وهذا التوجه ظهر إلى الوجود النادي الإفريقي. وهو ليس ناديا رياضيا فقط، إنه إلى ذلك ناد ثقافي كانت له بصمة في الحياة الثقافية التونسية. وكان النادي الإفريقي مثلما يلعب المباريات ينظم المسرحيات والأمسيات الثقافية وكانت له علاقة بالمسرح البلدي تضاهي علاقته بملاعب كرة القدم أنذاك. أسماء مثل «عبد العزيز العقربي» و»عبد الرزاق كرباكة» و»أحمد خيرالدين» وجماعة تحت السور وكذلك الكثير من مؤسسي الراشدية كل هؤلاء كانوا من الفاعلين في فضاءات النادي الإفريقي.
لم يكن النادي الإفريقي بعيدا عن الاستراتيجية السياسية والنضالية للحبيب بورقيبة. وتفيد المصادر التاريخية أنه أنضمّ إلى هيئة النادي سنة 1927 وكان من المدافعين على فكرة إدماج النادي الإفريقي والترجي الرياضي. لم تر الفكرة طريقها إلى التجسيد واختار الحبيب بورقيبة مسار بناء زعامته في فضاءات الترجي. ربّما يعود ذلك إلى خلافاته مع جماعة الحزب الحرّ الدستوري الذي كان يقوده عبد العزيز الثعالبي والذي كانت علاقته بالنادي الإفريقي واضحة المعالم.
عند متابعة السير الذاتية لرؤساء النادي الإفريقي قبل الاستفلال نجد أن أغلبهم ينحدرون من العائلات البرجوازية المتعلمة والمشتغلة بالسياسة. مصطفى صفر كان شيخا لمدينة تونس ثم رئيسا للنادي ومؤسسا للراشدية بعد ذلك. المنصف العقبي أحد رؤساء النادي هو ابن الشاذلي العقبي شيخ مدينة تونس. صالح عويج هو الآخر كان رئيسا للنادي الإفريقي وشيخا لمدينة تونس. إذن هناك ارتباط بين النادي في مستوى التسيير وبين العائلات « البلدية» المخزنية وتواصل هذا التقليد لسنوات بعد الاستقلال.
النادي الإفريقي ليس ناديا رياضيا فحسب، إنه خلاصة تحولات مجتمعية وسياسية. هو جزء من النسيج الحضري ومن علاقة الفرد بالفضاء وبالانتماء. تتشكل حول النادي فكرة أساسية وهو أنه فريق الشعب. ويقدّم أنصاره في كل أرجاء الدنيا أنفسهم كونهم شعبُ الإفريقي في مرحلة أخرى. دخلت هذه الفكرة وهذا الشعار وهذه العلامة ضمن الديناميكية التي يعيشها أي جسم مهما كان نوعه. ولكنها فكرة غير منفصلة عما يحدث في العلاقة بين كرة القدم والسياسة في تونس.
مع بدايات سبعينيات القرن الماضي ظهر إلى الوجود شعار « ترجي يا دولة» وهو شعار يلمّح من بين ما يلمّح إليه إلى العلاقة بين الترجي والنظام السياسي أنداك. عيّن بورقيبة وقتها شخصية مقربة منه جدا لترؤس النادي بعد أزمة نهائي كأس 1970. ولأن الأخر هو جزء من بناء الهوية فإن شعار» الإفريقي فريق الشعب» يأتي كردّ فعل وكإجابة على ارتباط النادي الغريم بالدولة. ولم يخل شعار فريق الشعب من الاستثمار السياسي من جهات غير تونسية.
تحوّل شعار « النادي الإفريقي فريق الشعب» إلى شعار أخر هو « شعب الإفريقي» وهو الشعار الأكثر استعمالا الآن. نشأ هذا الشعار في سياق أصبح فيه المناصرون في كرة القدم أكثر أهمية من النادي. هم الفاعلون الأساسيون في حياة النادي، وتشكلت مع هذا التحوّل اهتمامات غير مسبوقة بكل تفاصيل النادي، وتزامن ذلك مع تجذّر ثقافة الأولتراس في المشهد الكروي التي أكسبت صورة المناصرين شرعية وضعتهم في واجهة المشهد. وكان المدرب «عبد الحق بن شيخة» هو من أطلق هذه التسمية في 2008 بخلفية جزائرية بها لمسات جبهة التحرير عندما حصل النادي على بطولة دوري كرة القدم. وجد هذا الشعار صدى لدى المناصرين، في حين لم يعجب السلطة السياسية آنذاك. وقد يكون الشعار « شعب الإفريقي» دلالة على تعلق المناصرين بناديهم بعيدا عن حمّى النتائج. وهو تعلق يزداد كلما دخل النادي في أزمة نتائج أو أزمة تسيير. وهذا ما قام به المناصرون في بادرة مواطنية من أجل إنقاذ النادي من أزمته المالية في السنتين الأخيرتين عندما ساهموا بتبرعاتهم الفردية والجماعية في إنعاش خزينة النادي وجنّبته مآزق عديدة مع الفيفا.
استطاع أنصار النادي الإفريقي أن يصنعوا لأنفسهم صورة المناصرين الذين يرون تعلقهم بالنادي شبيها بالالتزام الديني، فيه نفس نضالي قوي وهي الصورة المتداولة التي جعلت المناصرين يعيشون حالة شغفهم بالنادي وكأنهم شعب تشكّل حول وطن...
برج بابل: النادي الإفريقي في مائويته: أنصارُه الذين تحوّلُوا إلى شعب
- بقلم محمد جويلي
- 10:07 06/10/2020
- 2978 عدد المشاهدات
لم تكن كرة القدم أبدا نشاطا غير ذي معنى. كرة القدم وإن لم تكن كلّ المجتمع، فإن كل المجتمع مبثوث في كرة القدم.