والحلول تتوارى وتختفي لتصبح البلاد كالسفينة تتلاطمها الأمواج وبدون بوصلة لبناء طريق النجدة والانطلاق في تجربة سياسة جديدة .
لقد فتحت الثورة في شتاء 2011 آفاقا كبيرة والكثير من الآمال في القطع مع الاستبداد الشرقي الذي أضنى كاهل المجتمع المدني وتوق أجيال عديدة نحو الحرية والتعدد.كما أعطت هذه الثورة الأمل في الانتهاء من أمراض الاستبداد الطفولية كالفساد والمحسوبية والارتشاء وارتهان الذمم لأصحاب القرار والسلطة والجاه .
كما أن الثورة فتحت مجالا للتفكير في قضايا التهميش الجهوي والاجتماعي وكل مظاهر الأزمة الاجتماعية كالبطالة وخاصة بطالة أصحاب الشهائد وانسداد الآفاق أمامهم.فكانت إحدى مطالب هذه الثورة هي التشغيل وكرامة أجيال واسعة من الشباب وقع تهميشها وقبر أحلامها في العيش الكريم والغد الأفضل .
إلا انه بعد عشر سنوات من عمر هذه الثورة تحولت الأحلام إلى سراب .أما الأمل في بناء تجربة سياسية فقد بدأ يضيع أمام تنامي اللوبيات والمصالح التي ضربت بالمبادئ عرض الحائط وجعلت منها أضغاث أحلام ضاعت في صخب الحياة اليومية .فأصبح هذا الأمل بعيدا وصعب المنال مما ساهم في تراجع الثقة في العمل العام والنمو الكبير للإحباط الذي يهيمن على المجتمع .
فعادت أفواج كبيرة من الناس والتي خرجت ذات 14 جانفي 2011 الى الفضاء العام لممارسة مواطنيتها إلى الفضاء الخاص تجر أذيال الخيبة والفشل . وفي نفس الوقت دفعت الخيبة والفشل أجيال أخرى من الشباب إلى الهروب من هذا الواقع المرير عبر قوارب الموت بالنسبة للمهمشين أو لتحتضنهم كبريات المؤسسات الكبرى ولتستفيد من طاقاتهم وخبراتهم .
والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم : هل استنفذنا مخزون الأمل الذي فتحته الثورة ذات شتاء 2011 ؟ هل فشلنا في بناء تجربة سياسية جديدة قادرة على إعادة بريق الابتسامة على أفواه أبنائنا وأحبتنا ؟ هل عجزنا عن فتح المرحلة الجديدة لمشروع الدولة الوطنية الحديثة والمدنية الذي بدأه مصلحو القرن التاسع عشر وتبنته الحركة الوطنية وعملت على تحقيقه دولة الاستقلال ؟
بالرغم من الحجم الهائل للتشاؤم السائد اليوم ولانسداد الأفق فاني اعتقد جازما أن باب الأمل لازال مفتوحا حتى وإن تراجع مقارنة بالسنوات الأولى للثورة . إننا لقادرون اليوم على مواصلة تجربة التحول الديمقراطي وإنجاحها لتبقى تجربتنا السياسية مثالا يحتذى في محيطنا العربي والإسلامي .
ومواصلة هذه التجربة وإنجاحها يتطلب منا العديد من الشروط الأولية . وفي رأيي فإن أولى هذه الشروط هي عدم الانصياع لحالة الاستسلام السائدة وحالة العجز المهيمنة عل النخب السياسية وأطراف كبيرة من المجتمع .
قدرنا - في رأيي - ليس الفشل بل القدرة على تخطي الصعاب والتحديات .
وإنّي لئن ارفض بعض الأفكار المتداولة في بعض وسائل الإعلام وعند البعض من أننا «أبهرنا العالم» لإيماني العميق بأن كل شعوب العالم والتي احتضنتني في عديد المناسبات لها من القدرة والكفاءة والتجربة لرفع التحديات التي تواجهها فاني أجزم من خلال قراءة تاريخية موضوعية على قدرتنا ككل الشعوب الأخرى على إيجاد الطريق لما تتلاطم الأمواج ويشتد هياج الأمواج .
أثبتنا ذلك في المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر لما دخلت الدولة الحسينية في مسار إذلال الشعب وتفقيره.فكانت الثورات ومنها ثورة باي الشعب علي بن غذاهم ثم جاءت محاولات الإصلاح لبناء الدولة المدنية وتحديث أسسها ومؤسساتها للخروج من الأزمة . إلا هذه التجارب كان مآلها الفشل اثر إفلاس الدولة التونسية ودخول الاستعمار .
وستظهر كذلك قدرة النخب على المقاومة في أحلك الفترات الاستعمارية . فقد ظهرت الحركة الوطنية التي قادت نضال الشعب ضد الاستعمار وتوصلت إلى إخراجه ولو على مراحل.
ثم ستأتي مرحلة بناء الدولة الوطنية والتي ستنجح النخب في جعلها الحاضن لطموحات قطاعات واسعة من الشعب في التغيير الاجتماعي وتفعيل المصعد الاجتماعي ليفتح مجال الارتقاء لأجيال كان الفقر والتهميش مجالها الوحيد .
واثر انحراف الدولة الوطنية عن مبدإ الحرية والتعدد واستفحال الاستبداد ستظهر نخب جديدة من الشيوعيين والديمقراطيين والإسلاميين والتي ضحت بالغالي والرخيص من أجل عودة الديمقراطية والتعدد.
فكانت تجربة ظهور الرابطة التونسية لحقوق في منتصف السبعينات أولى المحاولات في المحيط العربي والإسلامي للخروج من المشروع السياسي المابعد كولونيالي العربي والذي اعتمد على برنامج الدولة القوية والتي تحولت تدريجيا إلى الاستبداد .
ولا يمكن لنا أن نمر على هذه القراءة السريعة دون التوقف عند تجربة الثورة حيث وفي أحلك فترات التفرد بالرأي للنظام السابق والاستفراد بالحكم وتنامي الفساد واستفراد العائلات المتنفذة بمفاصل الدولة جاءت الانتفاضات الشعبية والتي انطلقت منذ 2008 في الحوض المنجمي لتنتهي بسقوط نظام بن علي والانطلاق في تجربة معقدة للتغيير الديمقراطي.
أردت من خلال هذه الملاحظات التأكيد على أن الاستسلام والانصياع للأمر الواقع لم يكن من شيم الحركة الاجتماعية في بلادنا . ففي أحلك الفترات التاريخية في بلادنا تمكننا من الحفاظ على جرعة كبيرة من الأمل والإيمان بقدرتنا على تغيير الواقع والتي مكنتنا من فتح آفاق تاريخية جديدة لتجربتنا السياسية .
والملاحظة الثانية والهامة من هذه القراءة السريعة هي - وعلى خلاف عديد البلدان الأخرى - أن تجربة التغيير السياسي والاجتماعي في بلادنا تجربة ذاتية وداخلية وناجعة من عمق المجتمع وأحشائه .
فلا مكان للتدخل الخارجي في مساراتنا الداخلية . وتبقى قوانا الذاتية هي المحرك الأساسي للتغيير السياسي والاجتماعي .
• من أجل برنامج إنقاذ وطني
إذن اليوم كما في الأمس لابد من صياغة برنامج إنقاذ وطني للخروج من حالة الإحباط التي نمر بها ومن الأزمات المتعددة ولإعادة الأمل في نجاح تجربة التحول الديمقراطي .وكما نجحنا البارحة فلي قناعة بقدرتنا على تجاوز الصعاب وبناء رغبة جمعية لتحسين الواقع نحو الأفضل .
ولا تعدو هذه الورقة إلا أن تكون مساهمة في النقاش الدائر حول طرق الخروج من الأزمة ودعوة إلى حوار جدّي حول هذه القضايا وطرق تفعيلها .
وقبل المرور إلى عناصر هذا البرنامج لابد لنا من الوقوف عند أهم مميزات الواقع .
• في تداخل الأزمات
تمر بلادنا بعديد الأزمات وقد قمت شخصيا كما العديد من المحللين بتشخيصها وتحديد ابرز سماتها. إلا أني اليوم اختلف مع قراءاتي السابقة وعديد التحاليل الأخرى في تحديد أولوية الأزمات وأهميتها .
- الأزمة الاجتماعية : في رأيي فان الأزمة الأساسية التي تنخر بلادنا اليوم هي الأزمات الاجتماعية وعجز مختلف حكومات الثورة عن إيجاد الإجابات والحلول لمختلف المطالب الملحة التي طرحتها الحركات الاجتماعية .فجاءت الحركات الاجتماعية منذ الأشهر الأولى للثورة في كل المناطق الداخلية نهاية باعتصام الكامور اليوم والحوض المنجمي لتشل الحركة الاقتصادية والإنتاج في هذه المناطق .
وعوضا عن استنباط حلول جديدة لهذه الأزمات فقد واصلنا التعاطي التقليدي ومن ضمنه شركات البستنة والتي أثبتت فشلها في إعطاء الشغل المحترم وأثقلت كاهل الدولة . وساهمت هذه السياسات في تعميق الأزمات الاجتماعية ساهمت في تغذية حالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي .
- الأزمة السياسية : تشكل هذه الأزمة إحدى التحديات الأساسية التي تمر بها بلادنا . وساهمت حالة التشتت الكبير في فقدان الثقة في الأحزاب السياسية وفي تأبيد هذه الأزمة وتعميقها .
وقد انضاف لهذه الأزمة مخزون كبير من العنف في الخطاب والتخوين وظهور بعض اللوبيات وسيطرتها على بعض الأحزاب السياسية مما افقد العمل السياسي نكهته ومصداقيته .
وتبقى الأسباب العميقة لهذه الأزمة معلقة إلى اليوم وهي استكمال المؤسسات الدستورية وإعادة النظر في القانون الانتخابي والتفكير بجدية في مستقبل النظام السياسي .
- الأزمات الاقتصادية : أشرت في عديد المقالات إلى تواتر ثلاث أزمات اقتصادية كبرى تعصف باستقرارنا الاقتصادي .الأولى هيكلية وبدأت مع أزمة نمط التنمية الموروث من منتصف السبعينات .والثانية ظرفية وتعود إلى اختلال التوازنات الاقتصادية الكبرى بعد الثورة .والثالثة ترجع إلى الانعكاسات الاقتصادية لجائحة الكورونا .
- الأزمة الصحية : أضافت أزمة الكورونا تحديا جديدا لبلادنا ولم نتمكن لحد الآن من ضبط الاستراتيجيات الملائمة لمحاربته .
• المبادئ
إن برنامج الإنقاذ الوطني الذي نقترحه يرتكز على ثلاثة مبادئ أو شروط أساسية.
- الشرط الأول يهم ضرورة الخروج من حرب الكل على الكل التي تشهدها الساحة السياسية والعنف اللفظي من خلال صياغة وثيقة حسن تعامل لا تلتزم بها كل مؤسسات الدولة والأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية فقط بل تقصي على أساسها من لا يحترمها .
- الشرط الثاني يعود إلى ضرورة القطع مع السياسات والتصورات التقليدية التي هيمنت على السياسات العمومية ومحاولة استنباط حلول جديدة قادرة على الخروج بنا من أزماتنا الجديدة .
- الشرط الثالث هو الخروج من التذبذب والخوف والتردد الذي يميّز العمل الحكومي ومؤسسات الدولة بشكل عام وجعل الشجاعة والإرادة والقدرة على الابتكار الأسس الجديدة للعمل العمومي .
• بعض أولويات البرنامج المرحلي
نقترح في هذا البرنامج خمس أولويات كبرى :
- الأولى اجتماعية وتخص تكوين فريق عمل وطني يعتمد على أهم الخبرات ويعمل على الخروج ببرنامج طموح للإجابة على المطالب الاجتماعية .
- الثانية سياسية وتهم تنظيم مؤتمر أو حوار وطني بين كل الأطراف السياسية لتبني مدونة السلوك السياسي ورفض العنف والفساد والوصول إلى توافق لإكمال الهيئات الدستورية .
- الثالثة تهم القانون الانتخابي وضرورة تكوين لجنة خبراء في هذا المجال في اقرب الآجال لوضع مشروع انتخابي جديد يقع طرحه على مجلس نواب الشعب للنظر فيه ثم اعتماده .
- الرابعة تهم تكوين لجنة من الخبراء في القانون الدستوري والفاعلين السياسيين لتقييم تجربة النظام السياسي واقتراح الحلول لتقويمها .
- الخامسة والأخيرة تهم الجانب الاقتصادي ويتطلب ذلك تكوين فريق من أحسن خبرائنا يضبط برنامج إنقاذ وتنشيط اقتصادي لثلاث سنوات بأهداف واضحة وآليات مدققة للخروج من هذه الأزمة الاقتصادية .
تشكل هذه الأفكار مبادرة للحوار والنقاش للإنقاذ الوطني .وتنضاف إلى بعض الآراء الأخرى في هذا المقال همها الوحيد الخروج من هذه الأزمات وفتح تجربة جديدة لبلادنا .