التي عرفها العالم جراء الجائحة.وقد كان للحجر الشامل الذي عرفه الاقتصاد العالمي في أغلب البلدان انعكاسات اقتصادية واجتماعية خطيرة على المؤسسات الاقتصادية وعلى أغلب الفئات الاجتماعية وبصفة خاصة الفئات الضعيفة.فقد كان لغلق الحدود وإيقاف التجارة الدولية من توريد وإصدار وغلق المؤسسات الاقتصادية لمدة طويلة تأثير سلبي على الاقتصاد العالمي الذي سيعرف في السنة الحالية 2020 أهم فترة انكماش في الاقتصاد الدولي منذ الحرب العالمية الثانية.
ومع تراجع الفيروس في نهاية الثلاثي الثاني لهذه السنة رجعت الحركة الاقتصادية بصفة تدريجية مما نتج عنه عودة مستويات النمو في الاقتصاد العالمي وأغلب البلدان في العالم خلال الثلاثي الثالث لهذه السنة . إلا أن عودة النمو ولو بصفة محتشمة في هذين الثلاثين ، الثاني والثالث ، لن يمكننا من استعادة الخسائر التي عرفها الاقتصادي العالمي خلال هذه السنة والتي ستبقى من أحلك السنوات في تاريخ الاقتصاد العالمي .
ولئن عادت الجائجة في موجة ثانية في الكثير من البلدان ومن ضمنها بلادنا ، فإن التوجه السائد اليوم هو التعايش مع الفيروس من خلال بروتوكولات صحية صارمة دون العودة إلى الحجر الشامل إلا في حالات محدودة وعند الضرورة القصوى.
ومن هنا جاء العمل والتفكير حول المسارات التي ستعرفها الاقتصاديات ومحاولة التأثير فيها من أجل عودة النمو من خلال السياسات العمومية .
وسنحاول من خلال هذه الدراسة الأولية الخوض في مختلف المسارات التي تتم مناقشتها اليوم في أغلب المؤسسات الدولية والتي يمكن للاقتصاد أن يأخذها بعد الحجر في هذه الفترة المعقدة للتعايش مع الجائحة في انتظار الوصول إلى اللقاح الضروري للقضاء على الفيروس .
كما سنحاول في هذه الدراسة الأولية إعطاء بعض النتائج للمسارات التي يمكن أن يعرفها اقتصادنا في الأشهر والسنوات القادمة .
ولعل النتيجة الأساسية لمختلف هذه الدراسات هي قدرة السياسات العمومية على التأثير في مستقبل الاقتصاديات الوطنية والعالمية . فبالرغم من الوهن وفي بعض الأحيان الشلل الذي أصاب المؤسسات العمومية فأن قدرة الدول تبقى قائمة لحماية المجتمعات وإعادة بناء الاقتصاد وتأسيس جديد للثقة بين المواطنين.
• المسارات الاقتصادية لما بعد الجائحة:
تتناقش أغلب المنظمات الدولية وأهم مؤسسات البحث على المستوى العالمي المسارات التي سيعرفها الاقتصاد في ما بعد الجائحة .
ويقع التركيز على أربع سيناريوات كبرى .
- السيناريو الأول وهو الذي يمكن إن يأخذ فيه مستقبل الاقتصاد شكر حرف L في اللغة الفرنسية . وهذا المسار يعني أن الاقتصاد سيعرف كما نشهده اليوم تراجعا كبيرا في هذه السنة. لكن الاقتصاد لن يتمكن من استعادة الانتعاش الذي عرفه قبل الأزمة والجائحة. وبالتالي سيواصل الاقتصاد في نسق نمو ضعيف ولن يتمكن من تعويض الخسائر الحاصلة في الإنتاج والتشغيل .
وهذا السيناريو يبدو الأقرب للتحقق حسب الكثير من المؤسسات الدولية ومراكز البحث هو الأكثر تشاؤما .
- السيناريو الثاني يأخذ شكل V في اللغة الفرنسية والذي يعتبره الكثيرون الأكثر تفاؤلا. وهذا السيناريو يشير إلى أن الاقتصاد سيستعيد عافيته بسرعة كبيرة .
فبعد التراجع الكبير في النمو إثر هذه الجائحة سيتمكن الاقتصاد بسبب سياسات الإنقاذ والتنشيط الاقتصادي التي وضعتها اغلب الحكومات من العودة إلى سالف عهده من مستويات النمو والتشغيل .
إلا أن هذا السيناريو إلى جانب تفاؤله الكبير لا يأخذ بعين الاعتبار التحولات الكبرى والتغييرات الكبرى والتي تتطلب إصلاحات ستأخذ وقتا طويلا ولا يمكن أن يقع تجاوز أثار هذه الجائحة على المستويات الاقاصادية والاجتماعية بالسرعة التي يدافع عنها هذا السيناريو وبشكل عام يعتبر هذا السيناريو ان الجائحة وانعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية بمثابة سحابة صيف سرعان ما تزول .
- السيناريو الثالث والذي تشتغل عليه المؤسسات الدولية ومراكز البحث يأخذ شكل حرف W باللغة الفرنسية .
وهذا السيناريو يشير إلى أن بعد مرحلة الهبوط الكبير والانكماش الذي يعيشه الاقتصاد اثر الجائحة ستعرف السنة القادمة عودة كبيرة للنمو .وعودة النمو عملية ميكانيكية باعتبار أن الاستعادة مرتبطة بعودة الآليات الاقتصادية ومرتكزات النمو للعمل. إلا أن هذه العودة للنمو ستكون كثيرة الهشاشة وبالتالي لن تتواصل طويلا . وستعقبها فترة جديدة من التراجع الاقتصادي ثم من جديد عودة قوية للنمو .وبالتالي يدخل الاقتصاد في هذا السيناريو مرحلة من عدم الاستقرار والتقلبات الكبيرة والتي لا تشجع على الاستثمار والنمو .
- السيناريو الرابع الذي تشتغل عليه المؤسسات الكبرى ومراكز البحث العالمية يأخذ شكل الحرف الفرنسي U .وهذا السيناريو يعني أنه اثر الهبوط الكبير للنشاط الاقتصادي في هذه السنة اثر الجائحة ستعرف اغلب اقتصاديات العالم فترة نمو ضعيفة وستستغل الحكومات هذه الفترة لإدخال الإصلاحات الضرورية على عديد المستويات التكنولوجية والمناخية والاجتماعية .
وإدخال هذه الإصلاحات سيمكن الاقتصاد من استعادة عافيته ليدخل من جديد في فترة نمو اقتصادي جديد.
السيناريوهات لمستقبل الاقتصاد اثر أزمة الكورونا والتي تدرسها المؤسسات الدولية ومراكز البحث والاقتصاد كثيرة ومتعددة. وتحاول هذه المؤسسات استشراف المستقبل و- خاصة - تحديد السياسات العمومية والإصلاحات التي يجب تطبيقها من اجل تجاوز هذه الأزمات والدخول في مرحلة جديدة من النمو المستديم والعادل .
• مسارات الاقتصاد التونسي بعد الحجر:
لقد سعينا في هذه الدراسة ومن خلال استعمال آخر الأدوات (modèles d’équilibres général calculables) فهم المسارات الممكنة لاقتصادنا بعد الحجر .وسنتوقف في هذا المقال على تقديم سيناريووين : سيناريو V أو ما سميناه بسيناريو العودة من الباب الكبير وسيناريو المواصلة في عنق الزجاجة أو سيناريو L.
لن نتوقف مطولا عند الفرضيات التقنية لهذه الدراسة . ولكنها ترتبط بمسائل هامة تهم السياسات الاقتصادية الكبرى والتوجهات الكبرى للدولة .وهذه المسائل تهم القضايا التالية :
- مستوى التنشيط الذي ستقوم به الدولة واستعداداها للاضطلاع بدور إرادي (volontaire) قوي في هذا المجال وعدم التوقف عند تحسين الإطار العام .
- مستوى الاستثمار العمومي الذي ستقوم به الدولة بالرغم من الصعوبات الكبيرة للمالية العمومية
- مستوى عودة القطاعات التي تضررت بصفة كبيرة من هذه الأزمة للنشاط وهي قطاعا السياحة والنقل.
- مستوى العودة التدريجية لمختلف القطاعات الاقتصادية الأخرى للنشاط .
- مدى السرعة في تطبيق برنامج وقرارات إنقاذ المؤسسات التي وقع سنها في الموجة الأولى للجائحة .
- إعادة بناء برنامج تنشيط اقتصادي جدي لا يقتصر على الإجراءات الجبائية على مدى ثلاث سنوات.
- قدرة الدولة على تعبئة الموارد المالية الضرورية لتمويل جملة من الإجراءات والسياسات التي يجب تطبيقها .
• النتائج:
حاولنا تلخيص النتائج الأولية لهذه الدراسة وللسيناريوهات في الجدولين .
وتشير النتائج في مجال النمو إلى أن نسبة السيناريو الأول ستكون ضعيفة . حتى وإن تجاوزت بلادنا الانكماش الاقتصادي في السنوات القادمة فإننا لا نقطع مع النمو الهش . أما السيناريو الثاني فسيمكننا من تحقيق نسب نمو والخروج من مستنقع النمو الهش .
- المسألة الثانية والمهمة تهم مستوى البطالة ولئن ستواصل بلادنا في مستوى بطالة عال في السيناريو الأول فإنها ستتمكن تدريجيا من الخروج من البطالة في
السيناريو الثاني .
- المسألة الثانية تخص قاطرة النمو ويبدو من خلال هذه السيناريو أن الاستثمار وبصفة خاصة الاستثمار الخاص سيشكل الآلية الأساسية التي سيتركز عليها النمو .
لكن وإن يبدو السيناريو الثاني هو الأفضل على عديد المستويات فانه يتطلب مستوى من التمويل يتجاوز السيناريو الأول ويتطلب بالتالي من الدولة القدرة على توفير هذه التمويلات.
بعض الملاحظات الختامية :
حاولنا في هذه الدراسة التواصل مع ما يذهب اليه التفكير والبحث في المؤسسات الدولية ومراكز البحث حول مستقبل الاقتصاد ما بعد الحجر .
وقد حاولنا تطبيق هذه المنهجيات والفرضيات لدراسة مستقبل تطور اقتصادنا في السنوات المقبلة .
وتبقى هذه النتائج أولية وتتطلب المزيد من البحث والتدقيق والتمحيص .
ولكننا نريد التأكيد في نهاية هذا المقال على خمس مسائل أساسية :
1 - ضرورة أن تقوم مؤسسات البحث في بلادنا وخاصة التابعة لأجهزة الدولة بعمل جاد وأساسي في هذا النقاشات لترتكز على مسائل علمية لا على نقاش نظري بعيد عن الدراسات العلمية .
2 - أثبتت هذه الدراسة ان القدرة على الابتكار الخروج من القوالب النمطية والإجابات التقليدية التي تجاوزها الزمن والتفكير الاقتصادي هي الحلول الأساسية للخروج من هذه الأزمات .
3 - إن الدور النشيط والإرادي للدولة يبقى عاملا أساسيا للخروج من هذه الأزمات.
4 - لا يمكن أن ننسى القطاع الخاص ومساهمته الأساسية في هذا المجال مما يتطلب إعادة بناء علاقات الثقة والشراكة.
5 - ولكن النتيجة الأساسية في النهاية هي أن مستقبل اقتصادنا ما بعد الحجر بين أيدينا ويرتبط شديد الارتباط بالسياسات والاختيارات والسياسات العمومية التي ستقوم بتطبيقها .