في كلّ أرض، هناك معاناة وعيش عصيب. كلّ إنسان في الأرض يحيا له شدائد وهموم. الحياة عسيرة، عصيبة... رغم العسر وما كان في الحياة من شدائد وهموم، يجب أن نحيا، أن نحبّ الوجود. يجب أن نعضّ على الحياة الدنيا بالنواجذ، بكلّ ما لنا من قوّة. الحياة الدنيا، يا سيّدي، هي حسن وبهاء ونعيم. هي الفردوس. فيها فاكهة مرفوعة وحور بكر وبحار وقمر ونجوم.
قد تشتدّ الحياة وتقسو. قد نكبو ونطرح أرضا. قد تسكننا مع الأيّام الهموم. كلّ هذا في الحياة ممكن. كلّ هذا جائز. في الحياة، كلّنا عرضة للعسر، للعصب الشديد. لكن، ليس هذا بمانع للعيش، لحبّ الوجود. رغم الصعاب والعراقيل، سوف نسعى ونتدبّر. سوف ننظر ونلقى الحلول ونجدّد العزم ونحيا من جديد. قد يعمّ الظلام وتنسدّ السبل ويعمّ البؤس في الأرض والسوء. هذا ممكن. هذا قد يكون. لكن، هذا ليس بعائق لنحيا ونمشي في سبل الحياة كما نريد. مع كلّ شدّة، سوف ندفع بالجهد. سوف نغالب الوحل ونهزم السوء. سوف نلقى مصباحا أو عود ثقاب ونعيد الضياء ونرى النور. كلّ في موقعه، كلّ حسب خياله وجهده سوف يكدح لكسب الأفق المضيء. في سبيل الحياة الدنيا، لن نلقي بالسلاح أرضا. أبدا. لن تأخذ من عزمنا عوائق
أو كروب. بعد كلّ كبوة، سوف ننهض، نقاوم ثم نعود لنغنم من الدنيا لذّاتها ونقطف ما فيها من زهر ووعود... ذاك هو قدر الإنسان. كتب على الإنسان أن يمشي في الأرض بهيّ المحيّى، مرفوع الجبين...
° ° °
الكثير من الناس لا يرى ما أرى. من حولي، يخاف الناس الدنيا. يعرضون عنها. يخشون ما تحمله الحياة من عسر ومن كروب. في الضمير الجمعيّ، الدنيا، أصلها غدر ومكر وهموم. هي خديعة ومكر وسراب محموم. لا أمن ولا أمان في الدنيا ولا عيش محمود. كذلك ترى الناس في شكوى. يتذمّرون. يبكون حظّهم المنكود. أعينهم إلى السماء منقلبة. دوما يتضرّعون. يرجون غفرانا ورحمة...
أمشي إلى المساجد فأرى المصلّين في خوف، في ضيق. ها هو الإمام فوق المنبر يصرخ، ينفث النار الجحيم. يذكّرهم بما كان في الآخرة من عذاب عظيم. أمشي إلى الدنيا فألقى المسلمين يتحسّرون على ما كان لهم من أوتاد وشأن عظيم. كلّ يشتكي زمنه المنحوس. يبكي ظلم الأيّام وعسر الوجود. في المجتمعات العربيّة، تلقى الناس تبكي في الأتراح وفي الأفراح، في يوم الجمعة وفي يوم العيد. في القنوات التلفزيّة، في المقاهي، في الأسواق وحيث تدير وجهك ترى الناس في غمّ كثير. يشتكون الحياة وما فيها من عصب والدهر وما فيه من غدر. أحيانا، تراهم يتلذّذون بما هم فيه من نكد وغصّة. يتباهون بما يلقونه من سوء حال وشدّة. أحيانا، تراهم يتفاخرون... كلّ المصائب هي ابتلاء من الله وفي الصبر عن البلاء ثواب مشكور. مع الابتلاء «تظهر معادن الناس وحقائقهم.» ترى في الناس من كان دينه قويّا ومن كان دينه هزيلا...
° ° °
نحن شعب يحبّ البكاء ويجلّ البكّائين. في بلاد العرب، كان البكاء ومازال سمة مميّزة. هو ركن أصليّ في ما انتشر من قيم وفي ما كان من ثقافة شعبيّة. أنظر في كتب الأوّلين، في ما حبّر من نثر وشعر. اقرأ ما كان لنا من تراث ونصوص، سوف ترى كم نحن نحبّ البكاء والنحيب. يبكي العرب عند كلّ كبيرة وصغيرة. يبكون في ذكرى الصحابة والرسول وفي مقتل الحسن والحسين وأيّام هارون الرشيد. يبكون على ما فات من الزمن التليد وعلى هجر الحبيب ولمّا نلقاه من جديد. أمّا الأدب، وأصل الأدب حياة وشعور طريف، فقد فاض، هو الآخر، حرقة ونحيبا. كلّ أدبنا هجاء ورثاء ومديح. كل الشعراء وقفوا على الأطلال وبكوا غدر الأيّام وهجر الحبيب. كلّهم ذرفوا الدموع طولا وعرضا واشتكوا من الزمن العصيب. جلّ الأدباء وقفوا بين أيدي السلاطين، في تذلّل، في تسوّل مشين. ما كان الأدب العربيّ ملهما للعزم، منهضا للهمم، دافعا للوجود. جاء الأدب العربيّ جلّه بين زهد بائس ومديح وضيع. كلّ الأدب العربي ، سمته نواح وأنين. حتّى الغناء عندنا جاء مشحونا مرارة ونديبا. تلاوة القرآن، هي الأخرى، بكاء ونحيب. المرتّل الحسن من يحمل صوته حزنا ثقيلا...
لا مرح ولا ضحك ولا لهو في أرض المسلمين. الحياة عندنا صبر وتعبّد وقنوط. الضحك عيب. المرح عيب. من هزّه الزهو فقد أغواه الشيطان وغرّر به. من ضحك في الدنيا سوف يلقاه غدا بؤسا ونحيبا... لمّا كنت صبيّا، كانت أمّي تريدني أن أكون رجلا صنديدا. كانت تقول لي جهرا وسرّا: «انتبه يا فتى. في الحياة الدنيا، اسمع كلاما يبكيك ولا تسمع كلاما يزهّيك. في الزهو ضياع وإبليس وفي البكاء حرص وتمكين»...
مرّة، في الحجّ، في عرفة، دعاني الإمام إلى أن أنظر في الأفق، أن أطلب من السماء رحمة وغفرانا ولوالديّ جنّة النعيم. فعلت وكنت في لحظة صدق، في خشوع. رفعت كفّيّ إلى السماء، أتشفّع، أتضرّع علّ السماء ترحم أمّي ومن مات من أهلي وذويّ. نظر الإمام فيّ ولم يعجبه تضرّعي ودعائي. قال: «ليس هكذا. يجب أن تبكي بحرقة حتّى تسمع السماء دعاءك وترحمك وذويك.» اجتهدت. انقبضت. أبت عيناي أن تقطرا دمعا. أعاد الإمام قوله مؤكّدا: «يجب البكاء بحرقة في يوم عرفة» وانصرف عنّي بعيدا...
° ° °
نحن شعب بكّاء لأنّنا شعب خوّاف. نخاف السماء خوفا شديدا ويوم الحساب وما سوف يكون من حشر ومن عذاب عظيم. دين المسلمين سيف على الرقاب مسلول. فيه إفزاع وترهيب شديد. الكثير من آيات الكتاب تحمل وعيدا غليظا. نحن لا نحبّ الله لذاته. نحن نحبّه خوفا أو طمعا. نخشاه لما له من بطش ونار جحيم. نحبّه لما كان في جنان الفردوس من فاكهة وغلمان وحور. يرى المسلمون السماء عفريتا شرّيرا. يراقب الناس. يتابع عن كثب ما يأتون من كبيرة وصغيرة. يوثّق كلّ ذرّة خير وشرّ. لا سهو في الكتاب ولا نسيء. فاعلموا يا مسلمين واحذروا، إنّ في السماء، لمن «آثر الحياة الدنيا»، ملكا جبّارا، حريصا سوف يصلى بناره من آثر الدنيا وهم في جهنّم خالدين...
من شدّة الوعيد وما كان من نار جحيم، أصاب المسلمين هلع بليغ. أربكهم الوعيد. الكلّ يخشى جهنّم وبؤس المصير. لا حياة ولا اطمئنان لمن سكنه فزع عظيم. لمن تملّكه الخوف وشدّه الوعيد. رأسه مشوّش. قلبه مرتجف. سكنه إحباط شديد. كلّ سعي في الدنيا هو زيف وغرور. كلّ شغف بالدنيا لا يجوز. كلّ اغتنام لما فيها من لذّات ونعيم هو جرم وعقابه عند الله
شديد. كلّ حبّ للحياة لا ينفع، بل هو محظور. كذلك، يحيا المسلمون، جلّهم، في قطيعة مع الحياة. منزوون. يخافون كلّ مختلف، كلّ إبداع، كلّ جديد... خوفا من سوء المصير، أعرض العرب المسلمون عن الدنيا. بغضوها. عيّروها. الدنيا مضيّعة للعمر. مفسدة للأخلاق. محرّضة على المعصيّة. و»من آثر الحياة الدنيا فإنّ الجحيم هي المأوى» يقول القرآن الكريم. فويل للدنيويين الذين آثروا الدنيا ونسوا يوم الدين.
عاش العرب في بغضاء مع الدنيا، معرضين عن لذّاتها ونعيمها. لا يعرفون فرحا ولا زهوا. كلّ مرح أو زهو، كلّ انشراح أو طرب هو مكروه. كلّ حياة في أرض الإسلام لا تجوز. كلّ لذّات الدنيا محظورة، ممنوعة. حياة العرب اليوم وفي ماضي الزمان هي بلوى ونكد متّصل. عيشهم شظف. دوما، في شدّة، في نكد، في قنوط...
غلّق المسلمون أبواب الدنيا. أوصدوا بالأقفال القلوب. انتهى عندهم الأمل والغد. عيونهم إلى الماضي منقلبة. الكلّ ينظر في أخبار السلف ويتّبع حريصا سنن الرسول. الكلّ يحيا في رحم الماضي السحيق. لا حاضر للعرب ولا غد قريب. «الغد» مفهوم مبهم، ليس له دلالة ولا وجود. الغد من مشيئة عالم قدير. الأنبياء والكهنة وحدهم يتنبئون ويتكهّنون. السلف وحده هو الصالح، المبين. حتّى لا نتيه في الأرض، يجب أن نحيا تحت جناح السلف الظليل. أن نمشي في صراطه المستقيم.
° ° °
قتل الخوف المسلمين. عطّل فيهم كلّ فكر وكلّ سعي. مع الخوف، يسوء الإدراك ويتبعثر السير وتختلط السبل. لا حياة مع الخوف ولا نظر ولا وجود. لا إنماء ولا تعلّم ولا تغيير... لنحيا، يجب أوّلا أن نقتلع من القلوب هذا الخوف المحبط، المقيت. أن ننزع عن الناس ما سكنهم من ريبة، من هلوسة، من ظنون. يجب أن نعيد الحياة للمسلمين. أن نملأ قلوبهم عزما وحبّا وطمأنينة. يجب أن نغيّر النظر إلى أنفسنا، إلى السماء، إلى الدنيا والدين. يجب أن لا نخاف السماء ولا الدنيا ولا الآخرة. ما كانت الحياة غدرا وشوائب وهموما. ما كانت السماء بظلّامة للعباد، همّها الترهيب. ما كانت الدنيا مكرا وخدعة ولا هي ظلمات وسوء. خلافا لما يقوله الأوّلون، الحياة الدنيا حلوة، بهيّة، جميلة. هي جنّات الفردوس، فيها ضياء ونعيم...
القرآن كغيره من النصوص هو كلام يحمله المتكلّمون، يحمّلونه من المدلول ما يشتهون. القرآن، كما هو الحال في الكتب الدينيّة، هو مغازة كبرى. فيه شؤون كثيرة وفكر عديد. «ما فرطنا في الكتاب من شيء.» كذلك، جاءت عديد الآيات لتؤكّد أنّ الله غفور، رحيم وأخرى تؤكّد أنّ عذابه شديد. في ما أرى، وهذا هو الأمر العجيب، فضّل الأيمّة في خطبهم الترهيب والوعيد ونسوا الترغيب والوعود. أخاف رجال الدين المسلمين. أرهبوهم. أفسدوا عيشهم. حرّموا عليهم كلّ حياة ونعيم.
° ° °
يجب أن ننتهي من خطب الترهيب والتجريم. يجب أن نعيد الأمل للقلوب. يجب أن تصبح السور والآيات جميعا بردا وأمنا ونورا. يجب أن نرى في القرآن قولا دافعا، نافعا، جميلا. ما جاء في الآيات والسور محفّزا، مرغّبا، منهضا للحياة، نجلّه، نرفع من شأنه، نعيده ونذكره في القيام وفي السجود وما جاء في الآيات والسور من ترهيب ووعيد، نؤوّله، ننساه ونلغيه. نحن من يقرأ النصوص. نحن نتدبّرها، نشرحها، نؤوّلها، نولّدها، نحمّلها ما نريد. حتّى يقبل الناس على الدنيا، حتّى يدخلوها آمنين، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يجب أن ندفعهم إلى حبّ الحياة، إلى العضّ عليها بكلّ عزم وقوّة... لا خوف من الحياة بعد اليوم. لا خوف من السماء بعد اليوم. هي السماء لنا داعمة، مستجيبة. حيث مصلحة العبد تلقى وجه الله وحيث سعادته ثمّة شرع الله قائما، مضيئا. لله ولعباده منافع مشتركة. لهما نفس المقاصد والغايات: تحقيق عيش لكلّ الناس أرقى وأفضل.
بحبّ الحياة تطمئنّ النفوس. يتأسّس العزم. يتمكّن الإنسان من النظر الصائب ومن الفعل السليم. بحبّك للدنيا سوف تحبّ نفسك والناس والآخرين المختلفين. تحبّ العيش في الأرض رغم ما فيها من شوائب وعراقيل. بحبّ للوجود، تنبعث فيك ثقة ناهضة وتحفّز مبين. سوف يشرق في فؤادك الأمل. يتفتّح في عينيك الأفق واسعا، مضيئا. بالحبّ يمسك بك العزم. تنهض، تصارع، تعمّر الدنيا، تغالب الشدّة وتغيّر ما في الأيّام من ظلمات وشأن عصيب. بحبّ الدنيا نحرّر العقول وينطلق كلّ يسعى طليقا. يكدح في الأرض كما يريد. بما في قلبه من فكر وخيال، يتمكّن الإنسان من ذاته ومن أدواته. يرتقي رشده. تخفّ عدوانيّاته. يحيا آمنا، معتدلا، سعيدا...