من حيث تمايز أنساقها وانسيابيتها، فاختطلت «العولمة» «بالكونية»، و»الحوكمة الذكية» «بالحكومة الالكترونية»، و»الترقيم» Conversion numérique أمسى بقدرة قادر في المعجم التونسى «رقمنة « Digitalisation و»الرقمنة» أضحت أيضا رديفا «للتحوّل الرقمي» Transition digitale ...
بالفعل لا يكاد يمضى يوم واحد دون ان تنسد أذاننا بطنين قسم واسع من ساستنا حول أهمية الرقمنة وما أدراك ما الرقمنة وكأننا حيال قصة « علاء الدين والمصباح السحرى» في نسختها الرقمية ، فيكفي ان تضغط على المصباح حتى يظهر مارد «وادى السيلكون» مسرعا لتلبية رغباتك في «الرقمنة» و»التحول الرقمي» السريع !
بمنأى تماما عن استراتيجيات «تسويق الاوهام الرقمية» التي تخصصت فيها جزء من الطبقة السياسية، نجد أنفسنا ملزمين باثارة سلسلة من الأسئلة الكبرى المحرجة والمسكوت عنها علّها تساهم ولو بقسط يسير في إسقاط هذا الخطاب الشعاراتى المخادع الذى انحرف بمسار الرقمنة في بلادنا le processus de digitalisation من حيز الفعل المجتمعى الشامل الى حالة من حالات التوهم والتوظيف السياسوى- الانتخابي للمسالة الرقمية...
1 - أسئلة في علا قة بالمصطلحات
تجدر الملاحظة، إلى أن اثارتنا للاشكال الاصطلاحي لم تأت من فراغ أو من قبيل «الترف الفكرى» أو»التنظير المفرط» بل على العكس تماما باعتبار أن عملية التدقيق في المصطلحات والمفاهيم ستحدد موقعنا الحقيقى من الدينامية الرقمية التي تعتمل داخل مجتمعنا، دونها سنقع مجددا في فخاخ التموقع والاستشراف الخطإ.
- بداية، أليس هناك خيط رفيع فاصل بين «الترقيم» و»الرقمنة» و»التحوّل الرقمي» ؟
- ألم تقدم الأدبيات والبحوث اللسانية المتخصصة في هذا الشأن اجابات ضافية عن ذلك؟
- ألا تتمثل عملية «الترقيم» في «تحويل وإعادة عرض المعلومات التناظرية analogique مثل المستندات الورقية والأصوات والصور إلى صيغة رقمية numérique التي يمكن استخدامها من خلال أنظمة الحاسب الآلي بطرق متعددة، أما «الرقمنة « فهي مسار تقني معقد يشتغل على تطوير أو تحويل « نماذج الأعمال» أو «إجراءات العمل» اعتماداً على التكنولوجيا الرقمية، في حين أن «التحوّل الرقمي» يعتبر ثورة ثقافية رقمية عميقة واسعة النطاق تغطى كافة جوانب المجتمع حيث تستخدم العمليات والتقنيات الرقمية المتقدمة لإنشاء تطبيقات واستخدامات جديدة من شأنها احداث تغيير جوهرى في العلاقات الانتاجية وفي العقد الاجتماعى الذي يحتكم اليه الافراد» ؟
- كيف يمكن وضع هذه المصطلحات المتباينة في سلّة واحدة ؟
- أين نحن بالتحديد داخل هذه المنظومة الرقمية الثلاثية la trilogie numérique المترابطة فيما بينها؟
- أيمكن اعتبار مجتمعنا الفايسبوكي بامتياز قد حقق عملية «التحوّل الرقمي» المنشود دون أن ندرى ؟
- ألا تٌشكل التصريحات المحذرة والمتكررة من تردى وضعنا الرقمي للعديد من الوزراء والخبراء اعترافا صريحا بتأخرنا في هذا المجال بالرغم من غزواتنا الفايسبوكية الكبرى ؟
- ما الفرق بين «التحوّل الفايسبوكي» و»التحوّل الرقمي» ؟ أم أنهما وجهان لعملة واحدة ؟
- ألا يٌشكّل «التحوّل الفايسبوكى» عامل إعاقة وخطرا حقيقيا في تأمين الطريق «لتحوّل رقمي» شامل، آمن ومستدام؟
2 - أسئلة في علاقة «بالمٌنجز» الرقمي ببلادنا
مما لا يدع مجالا للشك، فإن مخرجات الدراسة الميدانية التي أجريت سنة 2016 من قبل «المعهد العربي لرؤساء المؤسسات» حول مستوى النضج الرقمي لدى المؤسسات التونسية شكلّت نقطة استنفار للعديد من الأطراف المتداخلة في الشأن الرقمي، حيث شددت الدراسة حينها على نقطتين في غاية من الأهمية :
أولا : بأن التعجيل برقمنة كل المؤسسات التونسية في أفق 2020 قد يساهم في تطوير متوسط النمو السنوى من 1,75 ٪ الى 2,31 ٪ .
ثانيا : أن العوائق التي تحول دون الرقمنة في تونس تتمثل أولا في وجود أولويات اخرى (24،7 ٪) ثم غياب الكفاءات واستراتيجية شاملة في المجال (22،7 ٪) وكذلك الاشكاليات المتعلقة بالسلامة المعلوماتية (21،3 ٪).
على ضوء هذه الدراسة وغيرها من المسوحات الميدانية يحق لنا طرح حزمة من الاسئلة لأهل العقد والربط :
- ماذا فعلنا منذ تنظيمنا لقمة المعلومات سنة 2005 استعدادا لبناء مجتمع المعرفة ؟
- ماذا حققنا من مشروع «تونس الذكية» 2016 - 2020 ؟
- أين هى تلك الوعود التي تضمنها هذا المشروع بخلق 50 ألف موطن شغل في حدود موفي سنة 2020 وأن تكون تونس رائدة في المجال الرقمي وقطب كفاءات بين أوروبا افريقيا والشرق الأوسط؟
- من المسؤول عن هذا الاخفاق بشكل محدد ودون تعويم ؟
- ألا يعتبر «البرنامج الوطني للإدارة الذكية» وثيقة نموذجية بجميع المقاييس يمكن الاشتغال عليها مستقبلا؟
- لمَ لم يتم الالتزام بتحقيق الأهداف المعلنة التي تعهّد بها هذا البرنامج الطموح في أفق 2020 ؟
- ألم نعي بعد مدى خطورة تدحرجنا في التصنيف الدولى للامن السيبرنى من الرتبة 40 الى 76 دوليا وفق المؤشر العالمى للأمن السيبرانى (جى سى اى) الصادر عن «الاتحاد الدولى للاتصالات» ؟
- متى نفهم أن استراتيجيات الأمن السيبرنى في العالم لا تكتب في خمس صفحات يتيمة ؟
- لمَ لا نسارع باستعاضتها بأخرى بمنأى عن كل تجاذب سياسى أو تدافع مؤسساتى ؟
- متى نكف عن العادة السيئة بإحداث الوكالات الرقمية الواحدة تلوى الأخرى ؟
- ألم يحن الوقت لدمجها جميعا بشكل سلس وتدريجي ( باستثناء «الوكالة التونسية للأنترنت» لخصوصية نشاطها كمزود رئيسى للانترنت في بلادنا) ضمن «الوكالة الوطنية للسلامة المعلوماتية» بعد أن يتم الحاق هذه المؤسسة المغمورة «برئاسة الحكومة» على غرار العديد من التجارب المقارنة الناجحة ؟
- ألم تكشف جائحة «الكورونا» عن عوراتنا الرقمية المتعددة في مجال «الإدارة الاكترونية» على وجه الخصوص؟
- ألم نتخلف كثيرا في مجال «الدفع الألكترونى الدولى» مقارنة بمحيطنا القارى والاقليمي ؟
- لمَ لم يقع اطلاق منظومة الدفع الألكترونى الدولى MPGS المبرمة بين «البريد التونسى» و»ماستر كارد»؟
- الى متى سيتواصل هذا الوضع غير العادى لاقتصاد منفتح ؟
- ألم تبلغ هجرة الادمغة، منها المتخصصة في نظم الحاسوب والمعلوماتية، مستويات مفزعة تهدد بلادنا في المنظور المتوسط بفقدانها لذكائها الرقمي ؟
- ألم تدق الساعة لتطوير منظومتنا الإدارية الرقمية الكبرى بما يستجيب إلى معايير حماية المعطيات الشخصية ؟
- متى نحقق الاكتفاء الذاتى في مجال تصميم المنظومات المعلوماتية الإدارية الكبرى ؟
- متى يتم الانتهاء من إرساء «منصة وطنية متطورة للتبادل البيني للمعطيات» بين مختلف مؤسسات الدولة التي بدونها يصبح قانون «المعرّف الوحيد» دون آليات تنفيذ فعلية ؟
- ألا يحق لنا الاستفادة قبل غيرنا من كفاءاتنا الشبابية في الميدان والتي تختطفها الشركات الرقمية العملاقة في العالم؟
- ألا يٌشكّل تركيز منظومة الشراءات العمومية على الخط المعروفة TUNEPS خطوة حاسمة في مسار اضفاء الشفافية على الصفقات العمومية ؟
- كيف يمكن تطويرها لتغطى مجال الاستشارات واللزمات وغيرها من الشراءات العمومية غير الخاضعة لمجلة الصفقات العمومية ؟
- ألا يحتاج القانون الريادي عدد 20 لسنة 2018 المتعلق بالمؤسسات الناشئة الى بيئة ادراية أكثر تحررا من البيروقراطية ؟
- ماذا اعددنا لانقاذ عدد من مؤسساتنا الناشئة les startups المهددة بالافلاس جراء جائحة الكوفيد-19؟
- هل يمكن اختزال عملية «الرقمنة» في تصميم موقع الكترونى أو فتح صفحة على الفايسبوك ؟
- أين ثقافة التعهد والصيانة الرقمية لهذه المواقع داخل منشآتنا العمومية التي أمست عرضة للتندر من جهة وللاختراقات من جهة ثانية ؟
- هل استفدنا فعلا من جائحة «الكورونا» للدفع بسيرورة الرقمنة والتوجه بها نحو «التحوّل الرقمي» الشامل ؟
- لمَ استسلمنا إلى الضغوط القطاعية وفوتنا على أنفسنا رقمنة منظومتنا التربوية والجامعية في ظل الحجر الصحى العام ؟ ألم تكن المدخل الحقيقى لتأمين تحول رقمي مجتمعى مستدام ؟
- هل قدرنا ان نطلق المراسيم تلو الأخرى تحت ضغط الكوفيد- 19 لتدارك وضعنا الرقمي المتردى ؟
- هل ستجد هذه المراسيم طريقها للتنفيذ في بلد ينبغى فيه «تفعيل» القوانين النافذة ؟
- أخيرا، كيف يمكن القبول بوضعنا الرقمي الراهن في بلد تٌعدّ قاعدته البشرية واللوجستية الرقمية الأفضل في محيطها العربي والأفريقي؟
ختاما، في إجابة مباشرة عن السؤال موضوع عنوان المقال، علينا ان نقر بكل ألم ومرارة باننا لازلنا نحتل موقعا وسيطا بين منطقتى «الترقيم» و»الرقمنة»، بعيدين كل البعد عن «التحوّل الرقمي» المنشود وذلك نتيجة إمعان صناع القرار في الاستمرار في مسلس إهدار الفرص وفي تعميق الفجوة الرقمية بيننا وبين دول كانت بالأمس القريب تتلمذ على مقاعد مؤسساتنا الجامعية...
ولئن كانت البرامج والرؤي والموارد البشرية والبنى التحتية لا تعوز بلادنا على الاطلاق، فإن غياب ثقافة رقمية داخل منظومتنا التربوية منذ السنوات الاولى من التعليم، وضعف التواصل البرامجى بين الوزير المتخلى والوزير المباشر والاجرائى بين مختلف الادارات التي تشتغل كجزر منفصلة عن بعضها البعض في زمن التشابك والتشبيك الرقمي سيجعلنا حتما لا نتقدم قيد أنملة!
فالمطلوب من دوائر القرار ونحن على أبواب حكومة جديدة ان تجيب عن هذه الأسئلة بشجاعة دون مواربة، أن تخفف من نرجيستها المتورمة وأن تقطع مع نهمها «البوليمى» للسلطة.. فالتحول الرقمي عسير جدا عن الهضم !
أين نحـــن من شعــار «التحـوّل الرقمـــي » ؟
- بقلم محجوب لطفي بلهادي
- 10:51 05/09/2020
- 1406 عدد المشاهدات
منذ مطلع الألفية الجديدة شهدت قواميس السياسة والاقتصاد ازدحاما اصطلاحيا خانقا أفرز حالة من الفوضى المرورية في حركة المفاهيم