لهذه الأزمة كحالة التشرذم التي تميز المشهد السياسي والضعف الكبير لأغلب الأحزاب السياسية وانصراف الناس عن العمل السياسي بعد الفورة التي عشناها في السنوات الأولى للثورة . كما أكد العديدون على تراجع ثقة الناس في الأحزاب والتنظيمات السياسية والتي أصبحت كالدكاكين الفارغة. وأشار آخرون إلى مظاهر أخرى لهذه الأزمة كالخلافات الكبرى التي تشق البرلمان والتي جعلت من عدم الاستقرار الحكومي السمة البارزة للمشهد السياسي. ويؤكد آخرون على الخلافات والصراعات التي تميز العلاقة بين أهم مؤسسات الدولة والنظام السياسي ونخص بالذكر الأزمة بين رأسي السلطة التنفيذية والتشريعية والتجاذبات والتي زادت من عدم استقرار الوضع السياسي .
وكل هذه التحاليل كانت وراء إجابات ومحاولات إيجاد حلول من طرف الفاعلين السياسيين من منظمات وأحزاب ومحللين .فالبعض يرى ضرورة تغيير النظام الانتخابي وضرورة المرور إلى نظام يمكننا من تكوين أغلبيات حكم . وينادي البعض الأخر بضرورة المرور إلى نظام سياسي واضح المعالم يمكننا من الخروج من النظام الهجين الذي أتى به دستور 2014 والذي كان وراء التذبذب وعدم وضوح الأدوار بين كل أطراف ومؤسسات السلطة .بينما يرى البعض الآخر أن الخروج من هذه الأزمة السياسية يمر حتما عبر الجمع بين الإصلاحين أي النظام الانتخابي والنظام السياسي.
كل هذه القراءات للازمة السياسية هامة وتطرح أبعاد مهمة لتردي الوضع السياسي في بلادنا . كما أن الحلول المطروحة كذلك هي من الأهمية بمكان وتعمل على تجاوز بعض المعيقات والمظاهر الحادة لهذه الأزمة .
إلا أن هذه التحاليل والقراءات على أهميتها تركت جانبا - في رأيي - بعض جوانب هذه الأزمة وأساسها ألا وهي دخولنا مرحلة عجز الفعل السياسي وأنظمة التغيير الاجتماعي .وفي رأيي فإن الأسباب التي طرحتها أغلب التحاليل في قراءة الأزمة السياسية هي أسباب آنية أعمق وأشمل تهم الفعل السياسي والتغيير الاجتماعي .
وهذه الأزمة العميقة لا تقف عند بلادنا بل هي أزمة كونية تهم وتنخرط في ديناميكية أغلب بلدان العالم وأغلب القوى السياسية التقليدية .
ولفهم الأسباب العميقة لهذه الأزمة لابد من العودة إلى بدايات العمل السياسي الحديث والمنظم . وقد اقترن ظهور العمل السياسي والأحزاب السياسية الحديثة والمنظمات الاجتماعية بظهور فلسفة الحداثة والأنوار والثورات في أوروبا في نهاية القرن الثامن عشر. وقد دافعت هذه النظريات على قدرة الإنسان على التغيير والفعل الاجتماعي وتحسين الواقع نحو الأفضل . وستشكل هذه النظريات الأساس الفكري والإطار الفلسفي للعمل السياسي المنظم خلال القرنين التاسع عشر والعشرين . وبالرغم من الصعوبات التي عرفتها بداية الديمقراطية في البلدان الرأسمالية المتقدمة لفرض هيمنة الطبقات الصاعدة وبصفة خاصة البورجوازية على المجتمعات فإن النضالات السياسية والاجتماعية ستفرض تدريجيا حرية التنظم وتكوين الأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية والتي تشكل تدريجيا المجتمع المدني والذي سيشكل قوة ضغط وتأثير لإيقاف التوجه التسلطي للدولة ولمؤسساتها .
شكلت هذه الآراء والنظريات ثورة فكرية وقطيعة ابستمولوجية كبرى في تاريخ المجتمعات الإنسانية . فقد خرجنا من المجتمعات التي تؤمن بأن التغيير يقع في مجال القوى الماورائية والخارقة ودخلنا عالما جديدا يؤمن بان الفعل الإنساني والتغيير الاجتماعي يقع في مجال الإنسان وقدرته على تحسين أوضاعه وتغييرها إلى الأفضل .
وقد عبرت أفكار «التقدم» (le progrès) عن هذه الآراء وطبعت المجتمعات الإنسانية بفكرة الأمل وقدرة هذه المجتمعات على التطور (l’évolution), نحو مستوى أعلى من الحضارة .وقد فقدت هذه النظريات الفكرة الميتافيزيقية للمجتمعات الفاضلة الماورائية ودعت إلى تحسين المجتمعات التي تعيش فيها وجعلها أكثر حماية للإنسان .
ستشكل هذه النظريات والأفكار الحداثية الأساس للأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية في المجتمعات الديمقراطية .وسيكون التغيير الاجتماعي جوهر عمل وبرامج أغلب الأحزاب السياسية الديمقراطية والعائلات الفكرية .
وستشهد الساحة السياسية في أغلب البلدان الديمقراطية وفي المشهد السياسي العالمي تنوعا كبيرا في الأفكار والآراء والقراءات . وستؤثث ثلاثة اتجاهات كبرى هذا المشهد السياسي . القوة الأولى هي التيار الليبرالي والذي دافع على ضرورة الحد من تغول الدولة وجعل القطاع الخاص والحركات المدنية قاطرة التغيير المجتمعي .إلا أن انحراف النظام الرأسمالي وحالة الاستغلال الجشع الذي كانت تتعرض له الطبقة العاملة كانت وراء ظهور الحركة الشيوعية والتي نادت بتأميم وسائل الإنتاج وفرض تأميم الاقتصاد وجعل البروليتاريا والدولة أداة للتغيير الاجتماعي والتقدم .إلا أن الطابع الكلي لهذه النظرة كان وراء ظهور قوة سياسية ثالثة وهي الاشتراكية الديمقراطية والتي نادت بجعل التوازن الاجتماعي والتدخل الإصلاحي للدولة أدوات للتغيير .
وبالرغم من الاختلافات الفكرية الجذرية بين هاته القوى السياسية فإنها تلتقي في إيمانها بقدرة المجتمعات على التغيير نحو الأفضل من خلال العمل المنظم للحركات السياسية والمنظمات الاجتماعية .
وقد نجحت هذه الرؤى في تجسيم قناعاتها على الأرض وبالتالي الحصول على ثقة الجمهور العريض .
فقد عرفت المجتمعات الرأسمالية تطورا كبيرا ونجحت إلى حد كبير في إدماج الطبقات العاملة والشعبية وتحسين ظروف معيشتها .ولعل دولة الرفاه التي عرفتها اغلب المجتمعات الرأسمالية اثر الحرب العالمية الثانية كانت أحسن مثال على قدرة السياسة على الفعل والتغيير .
إلا أن هذه الفترة الذهبية للسياسة ستنتهي في سبعينات القرن الماضي حيث ستعرف الدول والأحزاب السياسية تراجع قدرتها على الفعل والتغيير .
ولهذا التراجع أسباب عديدة لعل أهمها التغييرات الكبيرة التي أدخلتها العولمة على الدولة الكونية وتراجع مكانها في العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.وفي نفس الوقت عجزت الأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية عن تطوير برامجها ورؤاها السياسية والأخذ بعين الاعتبار التحولات الكبرى التي عرفتها المجتمعات الإنسانية مع تنامي العولمة والثورة التكنولوجية .
هذه الثورات المتعددة والمتزامنة كانت وراء العجز والوهن الذي أصاب نظريات الحداثة وإيمانها الراسخ بقدرة الإنسان على تغيير واقعه نحو الأفضل .
وقد انعكست هذه الأزمات على الواقع السياسي ليصيب نفس الوهن الأحزاب السياسية التقليدية وإرادتها على التغيير من خلال السياسات العمومية للدول .
وقد حاولت نظريات ما بعد الحداثة ملء هذا الفراغ الرهيب الذي تركته الحداثة . فحاولت بناء مشروعية نهاية العمل السياسي ودخول ما بعد السياسة .
إلا أن هذه النظريات عجزت عن فتح آفاق جديدة للعمل السياسي وللتجربة السياسية .وبما أن الطبيعة تخشى الفراغ فقد فتح هذا الفراغ الباب واسعا أمام القوى الشعبوية التي ضربت عرض الحائط بالنخب الحداثية وبرامجها السياسية لندخل مرحلة جديدة من الضبابية والخوف وعدم الاطمئنان على مستقبل العالم .
سنعود لهذه الأزمة وخاصة على انعكاساتها على بلادنا في مقالنا القادم.