انتصارا للدستور ودفاعا عن الديمقراطية التشاركية

بقلم: الأستاذ سالم السحيمي
المحامي لدى التعقيب

«La démocratie délibérative est la démocratie participative sont des idées extrêmement on vogue aujourd’hui ;en France aussi bien qu’au Canada ; au Etat unis aussi bien qu’au Brésil »

هذه الحقيقة الفكرية الفلسفية تميز مجال الدراسات في علم الاجتماع السياسي وفلسفة العلوم السياسية والقانون الدستوري لان أبحاث المشاغل الفكرية لما يعرف بـ«ما بعد الديمقراطية» فتح أفاقا جديدا لعدة مفاهيم وأهمها مفهوم مؤسسة الديمقراطية التشاركية.
فصل تمهيدي :

• أولا : تاريخية مؤسسة الديمقراطية التشاركية
تزامن الحديث عن الديمقراطية التشاركية (كمفهوم حديث لكن بمضامين قديمة) تاريخيا ، مع بدء الحديث عن الديمقراطية عموما من ذلك أن كل المفكرين الذين تحدثوا عن الديمقراطية ورد في أفكارهم عديد ملامح وخصائص ما يعرف اليوم بالديمقراطية التشاركية. هذه الديمقراطية التي كانت تعرف باسم الديمقراطية المباشرة او شبه المباشرة أو «ديمقراطية أثينا» حيث كان كل الشعب يمارس سلطته و»يصنع قوانينه».
وعرف هذا المفهوم أو مصطلح الديمقراطية التشاركية كمفهوم مختلف عن الديمقراطية النيابية بشكل بارز وجلي في فكر وتقنين مفكري الثورة الفرنسية. فرجال الثورة الفرنسية (1) وفي صياغة الدستور قد اختاروا (النظام النيابي ) عوض الديمقراطية التشاركية حتى أنهم كانوا يميزون بين النظام النيابي وبين الديمقراطية لأن الديمقراطية في مفهومهم هي دائما على شاكلة «ديمقراطية أثينا» وانه بالإمكان أن يوجد نظام حكم سياسي يختلف عما كان يوجد في أثينا ويختلف كذلك عن نظام الاستبداد الفردي وهو نظام «جمهورية النظام النيابي». (2)

• ثانيا: فكرة الديمقراطية التشاركية
مع بداية الستينات وفي اطار ديناميكية نضالات المجتمع المدني الأمريكي(حركات المساواة السوداء, الحركات الشبابية، الحركات النسوية، حركات السلم، الحركات النقابية...) بدأ الحديث عن عجز الديمقراطية النيابية رغم حرية الاعلام والانتخابات على تمثيل قطاعات عريضة من الشعب الأمريكي وعلى التعبير عن ارائه وتطلعاته الحقيقية . وبدأ التفكير في البحث عن بدائل تكرس المفهوم الأصيل للديمقراطية ( حكم الشعب ) وترجع «للمواطن العادي» حقه في تسيير شؤونه العامة وحقه في «صناعة القوانين»
ومع نهاية القرن العشرين صار من المألوف :

1 - نقد الديمقراطية التمثيلية التي وبعد عقود طويلة من ممارستها صار من الشائع اثبات أنها:
- نخبوية Elitiste (حتى ان بعض المفكرين صاروا يسمونها بالارستقراطية الجديدة أو الارستقراطية الانتخابية ( لتمييزها عن الارستقراطية الوراثية) ووصل الأمر ببعض المفكرين الآخرين الى حــد اعتبارهـــا أوليغارشية Oligarchies.) (3)
- ديمقراطية بنسبة مشاركة ضئيلة جدا في الانتخابات بدرجة أنه تكون هنالك ديمقراطية انتخابية بدون ناخبين او تكاد.
- وجود هوة بين الناخبين و المنتخبين و غياب أي انتصال او تواصل بينهما وأنه لا تكاد تكون هنالك أية مشاورات او تبادل وجهات نظر أو مساهمة في القرار بعد عملية الاقتراع إلى درجة أن البعض صار يعتبر ذلك « عملا مواطنيا غبيا» و صار البعض الآخر يعتبـــر أن الناخب هو مجرد « figurant Occasionnel » .
- وجود نوع من الاحتراف والاشتغال على التمثيل الديمقراطي لدى بعض المشتغلين في العمل السياسي مع تدخل متعاظم لعالم الاعمال و الاعلام في العملية الديمقراطية.(4)
كل هذه السلبيات المسجلة اليوم في سجل الديمقراطية النيابية جعلت الحديث يعود بقوة الى الديمقراطية التشاركية.

2 - إعادة الاحتفاء بفكرة الديمقراطية التشاركية
سهلت أوجه السلبية المسجلة في سجل الديمقراطية التمثيلية على فلاسفة ومفكري العلوم السياسية مهمة البحث عن بدائل تجاوز هاته السلبيات و مواطن القصور وذلك بالرجوع إلى النصوص الأصلية (أرسطو, مونتيسكيو, روسو...(5) ) و بعض النقاشات التي دارت أثناء صياغة الدستورالأمريكي (وخاصة أفكار حسب الشعب الأمريكي حينها) إلى إعادة احياء فكرة الديمقراطية التشاركية وخلق عدد من «اللآليات و الإجراءات والوسائل» لترجع للناخب حقه في مراقبة و توجيه و»معاقبة» ممثليه و تمكينه من أكبر هامش ممكن للمشاركة في صياغة القرارات السياسية و القوانين.
فالديمقراطية التشاركية اليوم هي على راس قائمة حركات المطالبة و الاحتجاج التي تجتاح العالم و هي كذالك على راس المتطلبات الفكرية و الفلسفية لإصلاح الخلل البارز اليوم في صدقية التمثيل و النيابة الذي لم يعد من العسر اثباب أنها ديمقراطية قاصرة و محدودة وأنها في ازمة كبيرة وحتى انها ديمقراطية ضد الديمقراطية Une démocratie contre elle-même.

المبحث الاول :خصائص الديمقراطية التشاركية :
«La démocratie participative désigne dans sa définition la plus simple... l’ensemble des démarches et des procédures qui visent à associer les citoyens «ordinaires» avec processus de décision politique, ce qui permet de renforcer le caractère démocratique du régime politique ».
اذن تعرف الديمقراطية التشاركية أولا من خلال مقارنتها مع بقية أصناف الديمقراطية (مثل الديمقراطية النيابية التمثيلية و الديمقراطية الشعبية
و الديمقراطية التشاورية Deliberative
و كذلك من خلال جملة من الاجراءات و الآليات التي تتصل بها و تميزها علما و أن القوانين المقارنة عادة لا تستعمل عبارة «الديمقراطية التشاركية» بل عبارة «آليات الديمقراطية التشاركية», لأن الديمقراطية التشاركية هي في النهاية جملة من الآليات توجد بوجودها وتنتفي بانتفائها. و أجمع الدارسون وفلاسفة العلوم السياسية و الفقه الدستوري على أن آليات الديمقراطية التشاركية هي:

• أولا: المبادرة الشعبية Initiative populaire:
وهي حق دستوري اسندته بعض الدساتير للشعب (بعض القوانين تخص بهذا الحق الناخبين فقط(7) لتمكنهم من القيام بمبادرة تشريعية ( اقتراح قانون جديد أو طلب تنقيح قانون موجود...) أو برنامج تنموي لبلدية معينة.
و لئن اختلفت التشاريع المقارنة في نصوص المبادرة التشريعية في عدة عناصر ( العدد اللازم لتقديم مبادرة, شروط الأشخاص القائمين بالمبادرة، الجهة التي توجه لها المبادرة كأن توجه مباشرة للجنة التشريع أو مباشرة للجلسة العامة وتجدول للنقاش و المصادقة...) فأنها كلها تجمع على اعتبارها آلية من آليات الديمقراطية التشاركية و ارجاع للشعب «حقه في صناعة القوانين بنفسه»

• ثانيا: الفيتو الشعبي Véto Populaire:
في نفس روحية وفلسفة المبادرة التشريعية الشعبية وقع اعتبار و اقرار الفيتو الشعبي كآلية من آليات الديمقراطية التشاركية وذلك غير تمكين الشعب وبشروط قانونية (أصليّة / اجرائيّة/ شكليّة) معينة من حقه في رفض نص تشريعي وقعت المصادقة عليه من قبل الجهة المخولة لذلك (البرلمان) ولكن يمكن للشعب (الناخبين) من الاعتراض على القانون و»عدم المصادقة عليه شعبيّا» غير تقنية الاستفتاء الشعبي
باستعمال الاستفتاء يمكن للشعب و باعتباره صاحب «السلطة التشريعية الأصلية» أن يقبل أو يرفض قانونا معينا ويسترد سلطاته الأصلية ( الممنوحة له بالدستور) (8).

• ثالثا: الاستفتاء الشعبي Referendum Populaire:
أكدت عديد الدساتير على أهمية الاستفتاء الشعبي باعتباره إحدى أهم أركان ومظاهر الديمقراطية عامة والديمقراطية التشاركية على وجه التخصص.
فإذا كان بامكان الشعب أن يتخذ القرارات التي تهم تسيير أموره العامة والمهمة باستعمال الاستفتاء فهذا يعني قانونيّا وسياسيّا أن هذا الشعب «سيّد نفسه» (حسب عبارة مونتسكيو)، و أنه يمارس فعليّا «حكم الشعب» demos-kratos.
فبقدر ما توسع مجال تدخل الاستفتاء توسع مجال الديمقراطية التشاركية وبقدر ما نضيق مجال التدخل واللجوء للاستفتاء فإننا نبقى أسرى الديمقراطية النيابية النخبوية ولما لا الاولغرشية الحديثة

• رابعا : الميزانية الشرعية le budget populaire
تكريسا لمبدإ الديمقراطية التشاركية و تجاوزا لقصور وسلبيات الديمقراطية التمثيلية /النيابية فإن عديد التشاريع وخاصة في مستوى التشاريع التي تنضم السلطة المحلية قد قننت مبدأ «وجوب استعمال الميزانية الشعبية» بمعنى يعني أن المجلس البلدي ولئن كان منتخبا انتخابا ديمقراطيا فانه ملزم بصياغة الميزانية عبر استشارات عامة و شاملة لجميع متساكني المنطقة البلدية وذلك باللجوء لكل وسائل الاتصال والتواصل العادية ( جلسات عمل مفتوحة...) أو عبر وسائل التواصل الحديثة ووسائط التواصل الاجتماعي و الانترنات ....
أن الهدف من هذه الآلية الانتخابية هو تكريس مبدا قانون/ سياسي تهدف اليه الديمقراطية التشاركية وهو تحويل كل الهياكل و الهيئات المنتخبة إلى «سلطة تنفيذ» على أن تبقى كامل «سلطة القرار» بيد الشعب/الناخب يمارسها عبر كل الوسائل و الوسائط التقليدية و الحديثة و خاصة الرقمية منها وهو ما يعرف اليوم باسم الديمقراطية الرقمية داخل الجمهورية الالكترونيةdémocratie digitale E.republic

• خامسا: الاعفاء/ العزل الشعبي Révocation Populaire :
من أهمية مميزات الديمقراطية التشاركية حسب أبحاث فلسفة العلوم السياسية وعلم الاجتماع السياسي وفقه القانون الدستوري مقارنة بالديمقراطية النيابية خاصة هي اقرارها بحق قانوني يعطي للناخب électeur الذي اختار شخصا أو أشخاصا معيين لتمثيله على المستوى المحلي أو الجهوي أو المركزي أو في هيئة سياسية أو نقابية معينة أن يحافظ على إمكانية «إعفاء الشخص أو الأشخاص المنتخبين قبل نهاية المدّة» وهو ما يعرف بحق الإعفاء أو العزل و يعرف قانونا بما يلي :
La révocation populaire (ou rappel des élus) est un processus qui permet aux citoyens d'un pays de mettre un terme au mandat d'un élu avant son terme légal.
فهذا الحق هو إحدى الخصائص المميزة للديمقراطية التشاركية و يشمل كل منتخب élu مثل رئيس المجلس البلدي أو عضو أو رئيس المجلس الجهوي أو عضو مجلس نواب الشعب أو حتّى رئيس الجمهورية كما يمكن أن يكون نائبا ممثلا في هيئة سياسية أو نقابية معينة. فالديمقراطية التشاركية و ارتكازا على أسانيد فلسفية و قانونية ترفض مبدأ حرمان الناخب من أن يبقى سيّد الموقف ( وصاحب القرار في اختيار الوكيل/ النائب (وكذلك مبدأ حرمانه من حقه في إعفاء الوكيل المنتخب le mandataire بشكل خطير على موضوع وحدود الوكالة أو التفويض التي أعطيت له Délégation .
فالديمقراطية التشاركية لا تقبل قاعدة «دور الناخب يبدأ مع الانتخابات وينتهي مع نهايتها « figurant occasionnel او دور الذي ينحصر دوره في الحضور في «الحفل الانتخابي» و يبقى بعدها متفرجا على المشهد بل تؤسس على مبدأ المواطنة النشيطة Citoyenneté Active التي بمقتضاها يكون الناخب من يختار ومن يراقب و من يوجه ومن يقرر ومن يعاقب سياسيا عند الاقتضاء لأن « العقاب السياسي» Sanction Politique هي حق الناخب في اعفاء و انهاء وكالة المكلف متى ثبت أن هذا الوكيل قد تجاوز حدود الاتفاق بينهما. و تجسيما لهذا المبدأ فإن العديد من الدساتير و القوانين قد كرّست هذه القاعدة واعتبرتها رافعة أساسية من رافعات الديمقراطية لأنه كما هنالك حق وواجب الانتخابات فإن هناك حق و واجب» اعفاء» المنتخب قبل نهاية العهدة بسبب مخالفة شروط العهد و الاتفاق مع الناخبين (9)
المبحث الثاني : الديمقراطية التشاركية في القانون التونسي :
يعد مفهوم الديمقراطية التشاركية مفهوما حديثا في المصطلح القانوني التونسي وهذا أمر طبيعي لأنه عموما من المفاهيم الجديدة على المستوى الفكري والنصوص القانونيّة و يمكن أن نرصد استعمال التشريع التونسي لعبارة الديمقراطية التشاركية بشكل بارز في نصين اثنين وهما نص دستور 2014 و نص قانون الجمعات المحلية.

1 / الديمقراطيّة التشاركية والدستور

• أولا/ تكريس على مستوى المفهوم:
وردت عبارة الديمقراطية التشاركية في توطئة دستور 2014،بل أكثر من ذلك فإن هذه العبارة وردت في إطار وصف النظام السياسي التونسي الذي عرّف باعتباره نظاما جمهوريّا ديمقراطيا تشاركيا أي أن الدولةَ التونسية قد اختارت كهويّة لها «جمهورية ديمقراطية تشاركية» (الدستور الجزائري يعرف الدولة باعتبارها جمهورية ديمقراطية شعبيّة في حين أن الدستور المغربي يعرف الدولة باعتبارها مملكة دستورية ديمقراطية و اجتماعية (10)...) و يعتبر هذا الاختيار موفقا ضرورة أن الاتجاه العام اليوم في التشاريع المقارنة هو تجاوز المفهوم التقليدي للديمقراطية (الديمقراطية النيابية/التمثيلية) لصالح مفاهيم جديدة مثل الديمقراطية التشاركية والديمقراطية التشاورية Délibérative (لا يمكن اتخاذ اي قرار إلا بعد استشارة عامة و شاملة لكل أصحاب الشأن بذلك القرار، لأن أصحاب الشأن بذلك القرار هم في الحقيقة أصحاب السلطة الأصليّة لاتخاذ القرار و تفويض هذه السلطة لا يعني التخلي عنها) و الديمقراطية الاجتماعية ...
إذن فإن التشريع (الدستور) اختار أن تكون الديموقراطية المعتمدة و الممارسة في الجمهورية التونسية هي الديمقراطية التشاركية. ولكن ما يمكن ملاحظته و بسهولة من خلال رصد هذا المفهوم في أحكام الدستور(خارج التوطئة) فإن النظام السياسي التونسي( تشريعية/ تنفيذيّة/رئاسة الجمهورية) مازال يرتكز على آليات الديمقراطية النيابيّة / التمثيليّة و ليس على آليات الديمقراطية التشاركية.

• ثانيا : غياب اقرار آليات الديمقراطية التشاركية :
كما ذكر سابقا فإن الديمقراطية التشاركية تعرف وتعرّف خاصة من خلال جملة الآليات، فإذا توفرت هذه الآليات و الاجراءات، وُلدت الديمقراطية التشاركية و متى غابت هذه الآليات، غابت الديمقراطية التشاركية.
وما يمكن التأكيد عليه منذ البداية أن أحكام الدستور التي تنظم النظام السياسي التونسي لم تنص على آليات الديمقراطية التشاركية و يسهل رصد ذلك في جملة من المستويات .

• ثالثا : غياب آلية المبادرة والاستفتاء الشعبيين :
لم يعط دستور2014 للمواطنين التونسيين الحق في المبادرة التشريعية خلافا للدستور الفرنسي مثلا في الفصل 72فقرة واحد في تنقيح 2003 و كذلك لدستور المغرب في الفصل 139 فقرة ثانية (تنقيح 2011) و خلافا كذلك الدستور الليبي لسنة 2016 الذي نصّ صراحة في الفصل 51 بأنه «يحق للمواطنين في المشاركة الديمقراطية بتقديم مقترحات و التماسات تشريعية وفق قانون تنظيمي يصدر في الخصوص». كذلك فإن دستور فنلندا مثلا قد أعطى منذ 2012 لكل200.000 مواطن الحق في صياغة مبادرة تشريعية و يقع عرضها و التداول حولها في البرلمان وجوبا. كما أن بعض الدساتير الأخرى أعطت للمواطن نفس الحق (المبادرة التشريعية) والحق في عرضها مباشرة على الاستفتاء في حين أن دستور 2014 حصر في الفصل 62 المبادرة التشريعية في» 10نواب على الأقل أو في مشاريع قوانين من رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة» كذلك فإن الفصل 82 قد قلّص مجال الاستفتاء إلى مجرد إجراء «استفتائي» (حسب عبارة الفصل) بممارسة رئيس الجمهورية (11).حتى ان البعض يؤكد على عدم التجانس بين الاستفتاء والنظام النيابي و يمكن بسهولة ملاحظة أن الفصول 62 و82 وكذلك عموم القواعد التي تنظم النظام السياسي التونسي تتعارض مع:

• توطئة الدستور و اعتبار أن تونس جمهورية ديمقراطية تشاركية على عكس ما ذهب إليه دستور ليبيا مثلا الذي اعتبر أن أحد أوجه «المشاركة الديموقراطية» في التمتع بحق المبادرة التشريعية.

• مع الفصل 50 من الدستور الذي نصّ صراحة على أنه «يمارس السلطة التشريعية عبر ممثليه بمجلس نواب الشعب أو عن طريق الاستفتاء» أي أن الشعب صاحب السلطة التشريعية الأصلي وفي قراءة معينة الوحيد ليس له الحق في المبادرة التشريعية و ليس له الحق في اللجوء مباشرة للاستفتاء لممارسة سلطة التشريعية التي أسندها له الفصل 50 من الدستور.
إلى جانب هذه النقيصة يمكن أن نشير إلى أن دستور 2014و على عكس بعض الدساتير لم يعط للشعب الحق في الاعتراض على صدور قانون معين عبر آليّة الفيتو الشعبي. وهو الحق الذي كرسته بعض الدساتير والقوانين بأن مكّنت الشعب عبر «العرائض» و»الدعوة للاستفتاء» (المنظمة بدقة وبتفاصيل واجراءات محددة) من نقض (الفيتو) قانون أو ترتيب معين صدر عن جهة منتخبة ( مجلس نيابي/مجلس بلدي/مجلس جهوي...) عبر الاستفتاء الشعبي.

• رابعا/ غياب آلية العزل/ الاعفاء الشعبي:
نظرا لأهمية هذا الموضوع فإنه سيكون موضوع ورقة مستقلّة و مفصلة ولكن مع ذلك سنذكر الملاحظات التالية

• إن الدستور التونسي (وكذلك قانون الجماعات المحليّة) لم يعط للناخب الحق في عزل/ إعفاء من انتخب كما هو الحال في عديد الدساتير و القوانين المقارنة وهو مطلب العديد من الدارسين للعلوم السياسية وفقهاء القانون الدستوري وله أسانيده الفلسفية (الرجوع للمفهوم الأصلي للديموقراطية) والسياسية (الأزمة البنيويّة structurelle للديمقراطية النيابية ...) والقانونية وحتّى الأخلاقية.

• إن العزل/ الاعفاء المنصوص عليه في الدستور وخاصة الفصل 88 منه هو عزل مؤسساتي institutionnel بممارسة «أعضاء مجلس نواب الشعب» (تكريسا للديموقراطية النيابية) وليس عزلا شعبيّا (كما تختص بذلك الديموقراطية التشاركية)علما و أن رئيس الجمهورية المنتخب انتخابا مباشرا (حسب صريح الفصل 75) لا يعزله منطقيا إلا «من انتخبه» وبشكل مباشر عبر الاستفتاء كما هو الحال بالنسبة لدستور رومانيا و فينزويلا و غيرهما...
اذا إن ما يجب التأكيد عليه في هذا المستوى هو أن دستور 2014 تبنّى مفهوم «الديمقراطية التشاركية» ولكنه كرّس في قواعد نظام الحكم آليات و اجراءات «الديمقراطية النيابية».

2/ الديمقراطية التشاركية وقانون الجماعات المحليّة

• أولا: تكريس على مستوى المفهوم
لقد وقع استعمال عبارة الديمقراطية التشاركية في علاقة بتنظيم و تسيير الجماعات المحلية في أكثر من موقع ومنها:

• الفصل 139 من الدستور الذي أكد على أنه «تعتمد الجماعات المحلية آليات الديمقراطية التشاركية و مبادئ الحوكمة المفتوحة» و من الملاحظ في هذا الفصل أنه ربط بين الديمقراطية التشاركية و عبارة «آليات» (في الجمع) ممّا يثبت ما قيل سابقا وأن الديمقراطية التشاركية ليست سوى جملة من الآليات التي لا توجد بدونها.

• نص شرح الأسباب لقانون الجماعات المحلية الذي أكد على أن السلطة المحلية ترتكز على عدّة مبادئ ومنها «مبدأ الديمقراطية التشاركية و الحوكمة المفتوحة».

• جاء القسم الخامس من قانون الجماعات المحلية (الفصول 29-37) تحت عنوان «في الديمقراطية التشاركية و الحوكمة المفتوحة» و أعاد الفصل 29 التأكيد على «آليات الديمقراطية التشاركية».
ثانيا: تكريس جزئي على مستوى الآليات:
كما وقع الإشارة سابقا فإن الديمقراطية التشاركية ليست سوى جملة من الآليات (démarche/ procédure) وهي شرط وجود هذا الصنف من الديمقراطية.
خلافا للدستور الذي «تجاهل» كليّا آليات الديمقراطية التشاركية فإن قانون الجماعات المحلية قد اعتمد بعض هذه الآليات من خلال :

• الفصل 29 الذي أخضع برنامج التنمية و التهيئة الترابية وجوبا إلى آليات الديمقراطية التشاركية و ألزم المجلس البلدي «بمشاركة فعليّة» للمواطنين و المجتمع المدني و اعتبر أن كل قرار يؤخذ مخالفا لهذه القاعدة يعتبر «قابلا للطعن عن طريق دعوى تجاوز السلطة» لدى المحكمة الإدارية.

• الفصل 30 الذي أعطى للمجلس البلدي امكانية القيام باستفتاء للمتساكنين كما أعطى لعشر (1 /10) الناخبين (نلاحظ استعمال عبارة ناخبين وليس «متساكنين» كما في الفقرة الأولى) المبادرة باقتراح تنظيم الاستفتاء الخاص بإعداد برنامج التنمية و التهيئة الترابية البلدي.
و قد أرجع هذا الفصل للديمقراطية التشاركية مضمونها الصحيح بأن مكن الناخبين من «حق المبادرة» و تنظيم الاستفتاء لضبط أولويات برنامج التنمية بشكل شعبي وهي الآلية الغائبة كليا على مستوى قواعد تسيير و تنظيم السلطة المركزية.
كذلك جاء قانون الجماعات المحلية بآلية الحوكمة المفتوحة open gov و اعتمد أسلوب الجلسات العلانية وهي من الوسائل الأساسية في ممارسة الحق في الرقابة و المتابعة و المشاركة في التسيير و أخذ القرار.
هذه الرقابة و المتابعة التي تعطي قانونا في العديد من القوانين المقارنة وعند ملاحظة أي اخلال أو تقصير خطير manquement grave) ( للناخبين أو المواطنين حسب اختلاف القوانين الحق في اعفاء/عزل الشخص أو الأشخاص المنتخبين (مثال صربيا ،لتوانيا، رومانيا، كوريا، كوستاريكا، فينزويلا ،البيرو ،بعض المقاطعات الألمانية و بعض المقاطعات الكندية، ليبيريا ، أوغادا، أثيوبيا، الولايات المتحدة...) وهو حق يعد اليوم جوهريا و مؤسسا للديمقراطية التشاركية فكما أن «الانتخاب حق فإن الاعفاء حق». فكل هذه الدول قد أقرت في تشاريعها و خاصة المتعلقة بالجماعات المحلية الحق للناخب في عزل رئيس البلدية أو عضو المجلس البلدي أو كل المجلس حسب الحالات و الشروط القانونية المضبوطة قبل نهاية المدة النيابية.(12).

فخارج صورة الفصل 206 من قانون الجماعات المحلية الذي يعطي للمجلس البلدي الحق في اعفاء عضو بسبب» الامتناع دون عذر شرعي عن أداء المهام» وهي صورة أخرى من صور الاعفاء المؤسساتي فأن هذا القانون لم يعط للناخب أو المتساكن الحق في الاعفاء لنفس السبب.
هذا القانون نفسه الذي لم يقنن على عكس القوانين المقارنة مبدأ الميزانية الشعبية (budget populaire)

وهي التقنية المعتمدة في عديد مدن العالم و حتى بلديات المدن الكبرى منها( باريس مثلا ) حيث يقع تشريك المواطنين في اعداد الميزانية البلدية و ضبط آليات التصرف والاستثمار بصفة جماعية و شعبية. فرغم الإشارة الواردة في الفصل 130 في قانون الجماعات المحلية فأن صيغته العامة وغياب «صيغة الوجوب» تجعلنا نصرح بأن قانون الجماعات المحلية التونسي لم يكرس قاعدة الميزانية الشعبية وهو الأمر المكرس اليوم في عدد كبير من مدن العالم انطلاقا من المدن البرازيلية إلى المدن الهندية مرورا عبر أوروبا و آسيا و خاصة أن مستوى التطور التكنولوجي اليوم في عالم التواصل و الاتصال و الرقمنة جعل هذه المسألة أمرا ممكنا و غير مستحيل.
المبحث الثالث : أفاق الديمقراطية التشاركية:

تقدم اليوم الديمقراطية التشاركية باعتبارها حلا بديلا و متجاوزا لسلبيات و قصور الديمقراطية النيابية خاصة و أنه إلى جانب الترسانة القانونية و اقرار جملة آلياتها تشريعيا فأن الديمقراطية التشاركية مدعومة اليوم بشكل واضح بترسانة من التقنيات التكنولوجية التي تسهّل ممارستها و تجعل منها واقعا ملموسا و عمليا و ممكنا . فالحديث عن امكانية تطبيق الديمقراطية التشـــــاركية باعتبارها حــــالة مثاليـــة (idéale démocratique) يصبح جائزا استنادا لما توفره التكنولوجية و خاصة التكنولوجيا الرقمية من امكانيات وسهولة في الاتصال و التواصل والتخاطب والتشاور واتخاذ القرار رغم المسافات والفواصل. لهذا فأن مخابر الفلسفة السياسية و علم الاجتماع السياسي تنكب اليوم بشكل مكثف وملحوظ على ما يعرف بالديمقراطية الرقمية . démocratie digitale) ) فاستعمال الامكانيات التقنية كوسيلة من وسائل تكثيف أكثر ما يمكن فرص المشاركة في اتخاذ القرار وصناعة القوانين من قبل عموم المواطنين صار مسألة ممكنة لأنه يمكن دون ريب استخدام ما يعرف بـsite web كمنصة للإعلام والنقاش و حتى التصويت لاتخاذ القرارات ديمقراطية تشاركيا .
لقد انطلقت فكرة استخدام التقنية الرقمية في ممارسة المشاركة السياسية في إطار نشاط حراك المجتمع المدني في الولايات المتحدة الأمريكية فيما يعرف بـ civic tech وهي حركة تدفع في اتجاه الاستعانة بالتقنية الرقمية لتسيير الشأن العام و تمكين المواطنين باتخاذ القرارات جماعيا ومباشرة وبدون واسطة.
ومتابعة هذه الفكرة على المستوى العملي يمكن أن نقف عند عديد التجارب الرائدة في هذا المجال من ذلك أن عديد البلديات اليوم في بعض الدول تسيّر ديمقراطيا تشاركيا من قبل مجالسها البلدية باستعمال التكنولوجيا الرقمية وتعقد الاجتماعات و تتخذ القرارات مباشرة من قبل كل المتساكنين عبر الاقتراع باتستعمال الحواسيب و الهواتف الذكية حيث تعقد جلسة

مقتوحة ومباشرة بين رئيس المجلس البلدي والمتساكنين و تتم المناقشات والحوارات وتتخذ القارارت عند بعد وهو ما يعرف ب»ديمقراطية القرب عن بعد» ( la démocratie de proximité à distance ) اي الديمقراطية التي تكون فيها الهيئة المنتخبة قريبة أكثر ما يمكن من الناخبين بطريقة افتراضية ولكن عند بعد عبر تقنيات وسائط التواصل الرقمية. فلم يعد من الضروري اليوم جمع المواطنين في قاعة وتبادل النقاش معهم بل إن كل هذا صار ممكنا بدون أن يتنقل أي كان من مكان وجوده فقط عليه استعمال هاتفه الذكي.

في هذا الإطار يمكن الإشارة إلى تجربة «برلمان ومواطنون» Parlement et citoyens plateforme) وهي منصة رقمية فرنسية يمكن للمواطنين من خلالها النقاش والتصويت واقتراح تعديلات للقوانين وتسجل الدراسات أن عديد التعديلات قد أدخلت على قوانين أو مشاريع قوانين من خلال هذه المنصة.
بلا شكّ إن التكنولوجيا الرقمية قد خلقت أفقا جديدا وقربت المسافات وجعلت من العالم قرية رقمية وبالتالي فإن تسيير هذه القرية بشكل جماعي و تشاركي (participative et collégiale ) صار ممكنا أكثر من أي وقت مضى حتى أن بعض الدراسات تؤكد أن المدن اليوم على كبر حجمها و بواسطة التكنولوجيا الرقمية هي أصغر من مدينة أثينا حيث كان الجميع يجتمع في الساحة العامة ويتخذ القرارات ، فالساحة العامة اليوم هي في حجم الهاتف النقّال الذكي ويمكن للجميع أن يجتمع ويناقش و يصوّت وهو في مكانه (sur place) وبالتالي لم يعد هنالك من حجة للتحجج بعدم امكانية استخدام في كل مستويات التسيير والحكم والقرار مبادئ وآليات الحكومة المفتوحة open gov والديمقراطية المفتوحةopen democracy وقد لخصها بشكل بليغ أحدى المفكرين الفرنسيين أخيرا في دراسة منشورة في الصحافة الفرنسية حين قال».
L’argument d’une impossible mise en œuvre d’un point de vue pratique de la participation directe des citoyens à la chose publique est mis à mal par l’émergence des nouvelles technologies ».

---------

(1) مبادئ الديمقراطية النيابة : الباحث برنار مانان ( سنة 1995)
« La démocratie représentative est issue d’une forme de gouvernement que ses fondateurs opposaient à la notion même de démocratie …. »

(2) ورد في خطاب شهير لأحد قيادات و مفكري الثورة الفرنسية بتاريخ 7 سبتمبر 1789
ما يلي : Le peuple dans un pays qui n’est pas une démocratie ( et la France ne saurait l’être ) le peuple ne peut parler ,ne peut agir que par ses représentants…. » (Sieyès )

(3) وقد لاحظ ذالك احد الباحثين المغاربة في بحث بعنوان «الاليغارشية في ثوب الديمقراطية « بان قال « ان الديمقراطية التمثيلية هي .... حكم الأقلية بمباركة الأغلبية «...... ( السنون عبد الفتاح جامعة فاس 2017 ).

«ce n’est plus désormais le politique que contrôle les acteurs (4 )
économique mais les le milieux d’affaires qui tentent de controler le politique …. » ( le monde )
la souriante ne peut être représentée pour la même raison qu’elle ne peut être aliénée…… la volonté ne se représente point….
Les députés du peuple ne sont pas donc ni ne peuvent être ses représentants, ils ne sont que ses commissaires.. » j.j. Rousseau

(6) ورد في خطاب الرئيس الفرنسي في اليوم الوطني الفرنسي
« Nous vivons une crise démocratique profonde »
و قد فتحت هذه القولة مجالا واسعا للنقاش العميق حول ازمة الديمقراطية و لحظت ذالك الباحثة Duley و ان الازمة هي ازمة التمثيل في الديمقراطية النيابية خاصة و ان هذا الامر اصبح متاحا بفعل التكنولوجيا الحديثة «
(2020 /07 16 le figaro )

(7) الفعل 51 من دستور ليبيا 2016 « من حق المواطنين المشاركة في الديمقراطية بتقديم مقترحات او التماسات تشريعية وفق قانون تنظيمي يصدر بالخصوص «..... و كذالك الفعل 72 فقرة 1 من الدستورالفرنسي (تنقيح 2003 )

(8) نص الفعل 50 من دستور تونس (2014) على ان «يمارس الشعب السلطة التشريعية عبر ممثليه لمجلس نواب الشعب او غير طريق الاستفتاء «

Une telle disposition permet aux citoyens de garder un moyen de contrôle (9)
sur le pouvoir qu ils ont délégué ….. Elle permettrait aussi de sanctionner celles et ceux que ne tiennent pas leurs promesses…. »
( وردت بدراسة جماعية لمدارسي فرنسيين تحت عنوان Le droit de révoquer un élu)
الفصل 3 من دستور الجزائر و الفعل 1 من دستور المغرب .(10)

(11) « le référendum, si séduisant de point de vue démocratique a tant de mal à faire sa place dans un régime représentatif »

(12) « La révocation populaire de maires et élus locaux » la commission de Venise (20 juin 2019)

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115