منبر: المرأة في فقه القضاء الإداري التونسي (1)

بقلم: عبد الرزاق الزنوني 

من المعلوم أن المرأة التونسية حظيت ولا تزال باهتمام تشريعي كبير في بلادنا انطلق منذ السنوات الأولى للإستقلال وتجسّم ذلك في إصدار العديد

من القوانين المؤطرة لحقوقها وحرياتها بما ساهم في تدعيم مكانتها داخل المجتمع وتفعيل دورها الإقتصادي والإجتماعي والسياسي والثقافي وغيره. وقد كانت الثورة التونسية لسنة 2011 مناسبة لتدعيم تلك المكانة التي ناضل من أجلها الكثير، وهو ما تجسم في العديد من الأحكام التي كرّسها الدستور التونسي الجديد لسنة 2014 ومن أبرزها على الإطلاق ما ورد بالفصل 46 منه من أنه « تلتزم الدولة بحماية الحقوق المكتسبة للمرأة وتعمل على دعمها وتطويرها. تضمن الدولة تكافؤ الفرص بين الرجل والمرأة في تحمل مختلف المسؤوليات وفي جميع المجالات. تسعى الدولة إلى تحقيق التناصف بين المرأة والرجل في المجالس المنتخبة. تتخذ الدولة التدابير الكفيلة بالقضاء على العنف ضد المرأة». ولعل هذا الفصل وغيره مما يصب في ذات الإتجاه خير دليل على انتصار المؤسسين لحقوق المرأة وقضاياها في بلادنا وإفصاح عن توجههم نحو مزيد تدعيم الحقوق الخصوصية المتعلقة بها، وتنزيلها حيز الواقع والتطبيق.

ولا غرابة في ذلك لأن «المرأة هي أم الإنسان ... وهي نصف المجتمع وشطر الأمة نوعا وعددا وقوة في الإنتاج من عامة وجوهه...» . ولئن كان لا خلاف في هذا التدقيق الذي أورده المصلح التونسي الكبير الطاهر الحداد في مقدمة كتابه المعروف امرأتنا في الشريعة والمجتمع، فإنه من الجائز التساؤل اليوم وبعد مضي أكثر من ستة عقود من الزمان على الإستقلال عن المكانة التي صارت تحظى بها المرأة التونسية حقيقة داخل الدولة والمجتمع في علاقة بالترسانة الهائلة من القوانين التي صيغت لحماية حقوقها وصون مكانتها.

ومما لا شك فيه أن تلمس مكانة المرأة في واقعنا الحاضر يقتضي فيما يقتضيه سبر أغوار فقه القضاء باعتباره أحد المقاييس الدالة على مدى الالتزام بتطبيق النصوص وتكريسها في الممارسة اليومية . ولئن يظل القاضي العدلي أحد أهم الساهرين على حقوق المرأة في بلادنا اعتبارا لعديد المجالات التي يختص بالنظر فيها ولا سيما مادة الأحوال الشخصية وقضاء الأسرة عموما وغيرها من الفروع ذات العلاقة، فإن الدور الذي من الممكن أن يضطلع به القاضي الإداري في هذا المجال لا يخلو من أهمية ، ناهيك وأن الهدف الأساسي من بعث المحكمة الإدارية في بلادنا في فكر الآباء المؤسسين لدستور 1959 كان يتعلق بحفظ حقوق المتساكنين في البلاد بصفة فعّالة ، وأن القاضي الإداري نصّب نفسه منذ السنوات الأولى لعمله كحام للحقوق والحريات .

ولئن تتزاحم الأفكار عند التعرض إلى مفهوم القضاء الإداري باعتبار ما يحمله من معان ، فإنه يظل من الجائز القول عموما أن عمل القضاء الإداري يتصل بوجود نزاعات إدارية أوكل النظر فيها إلى المحكمة الإدارية بجميع هيئاتها القضائية المختلفة بغاية فضّها وإصدار أحكام أو اتخاذ قرارات في شأنها من جهة، ومن جهة أخرى بغاية إنارة سبيل الحكومة عبر الوظيفة الإستشارية المخولة لها قانونا.

ولعل المتفحص لفقه القضاء الإداري لا يسعه إلا أن يلاحظ أن القاضي الإداري طوّر كلما سنحت له الفرصة فقه قضاء منصبّ على تكريس وحماية حقوق المرأة. وعليه، فإن دراسة تعاطي القاضي الإداري مع المرأة تقتضي في مرحلة أولى التوقف عند تكريس مبدأ المساواة بوصفه عماد العلاقة بين المرأة والرجل داخل كل مجتمع، ثم التوقف في مرحلة لاحقة عند تكريس العديد من الحقوق الخصوصية الأخرى الخاصة بها والمرتبطة بطبيعتها وكيانها.

• أولا: المرأة ومبدأ المساواة.
قد يبدو من قبيل التزيد التذكير هنا بأن مبدأ المساواة يظل من المبادئ الراسخة في فقه القضاء الإداري، وقد درج عمل المحكمة على اعتبار أنّ مبدأ المساواة يعدّ مبدأ دستوريّا تلزم جميع السّلط العمومية باحترامه وتطبيقه، وأنّ من مقتضياته التزام الإدارة بتطبيق القانون دون تمييز بين الأفراد كلما تماثلت وضعيتهم القانونية والنظاميّة ، مع الأخذ بعين الاعتبار لقاعدتين أساسيتين قوامهما تكريس المساواة الفئوية من ناحية وضرورة وجود الأشخاص المعنيين بالأمر في نفس الوضعية القانونية من ناحية أخرى .

ومما لا شك فيه أن بلوغ المساواة الحقيقية بين الرجل والمرأة يشكل العلامة الدالة على درجة التحضر الإنساني، ويساهم بشكل فعّال في تدعيم القوى الفكرية للجنس البشري عموما . وفي هذا الإطار وفيما يتعلق بالمساواة بين الرجل والمرأة درج عمل القضاء الإداري على تكريس مبدإ عدم الميز بين الجنسين في إسناد الوظائف العمومية، ومن ذلك أن فقه القضاء الإستشاري في مرجع النظر الوجوبي استقر في مجال إبداء الرأي بخصوص مشاريع الأوامر المتعلقة بضبط الأنظمة الأساسية الخاصة بأعوان المنشآت والمؤسسات العمومية التي لا تكتسي صبغة إدارية على الإشارة إلى أن التنصيص بمشروع النظّام الأساسي الخاصّ المعروض على عدم التمييز بين الجنسين بإستثناء الأحكام الخاصّة التي تحتّمها طبيعة الوظائف، دون بيان تلك الوظائف على وجه التّحديد، لا يتماشى مع مقتضيات الفصل 4 من القانون عدد 78 لسنة 1985 المؤرخ في 5 أوت 1985 المتعلق بضبط النظام الأساسي العام لأعوان الدواوين والمؤسسات العمومية ذات الصبغة الصناعيّة والتّجاريّة والشّركات التي تمتلك الدولة أو الجماعات العموميّة في رأس مالها بصفة مباشرة وكليا والّذي اقتضى أنّه: «لا ميز بين الجنسين في تطبيق هذا القانون بإستثناء الأحكام الخاصّة التي تحتّمها طبيعة الوظائف والتي يمكن اتخاذها بمقتضى الأنظمة الأساسيّة الخاصة». وانتهى في كل مرة عرضت عليه فيها تلك المسألة إلى المطالبة بإتمام مقتضيات المشروع المعروض بتحديد الوظائف التي تحتّم طبيعتها استثناء مبدأ عدم التمييز بين الجنسين بكل دقة ووضوح .

وقد طرحت مسألة المساواة بين الجنسين على المحكمة بأكثر وضوح في إطار استشارة اختيارية تعلق موضوعها بالوقوف على مدى الإمكانية المتاحة لوزارة الشؤون الدينية من عدمها في تحديد جنس المترشح لمناظرة انتداب وعّاظ للعمل بمنطقة بعينها بالنظر لخصوصيتها وطبيعة أهاليها ومدى إمكانية قصر المشاركة في مناظرة ما على جنس دون الآخر كمدى إمكانية تعميم تلك المقاربة على سائر المناظرات متى اقتضت الضرورة ذلك ، فاعتبرت في معرض ردّها على الإستشارة المعروضة أن حجر الزاوية في الإجابة يكمن في أحكام الفصل 21 من الدستور الذي ينص على أنّ «المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات وهم سواء أمام القانون من غير تمييز»، ملاحظة أن إطلاق

عبارات النص الدستوري في ظاهرها يجعلها تأبى التضييق في نطاقها مبدئيا، لأن القانون كقاعدة منظّمة للحياة الاجتماعية يقوم على تنظيم الوضعيات على أساس عدم التمييز بين جنسي الذكور والإناث، مؤكدة في ذات السياق أنّ فقه القضاء الإداري والدستوري الوطني والمقارن أشارا في المقابل إلى أنّ هذا الإطلاق لا يحول دون إمكانيّة مخالفة المبدأ المذكور لتنظيم وضعيات متباينة بصفة مختلفة أو من أجل أسباب تتعلق بالمصلحة العامّة ولكن بشرط أن تكون الاستثناءات المعنيّة في حدود موضوع القانون الذي يكرّس المعاملة المتباينة المذكورة.

كما بينت المحكمة في إطار الإستشارة المشار إليها أن كل من القانون المتعلق بضبط النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية والأمر المتعلق بضبط النظام الأساسي الخاص بسلك الوعاظ لم يتعرّضا صراحة لمسألة المساواة في إطار الوظيفة المذكورة وأن الصمت عن الإشارة إلى مبدإ المساواة لا يحول دون ضرورة احترام الإدارة للمبدأ الدستوري المتعلق بالمساواة في الحقوق، ضرورة أن المساواة في الحقوق تتأتى من العديد من فصول الدستور ومن بينها الفصول 40 و46 و49 منه.

وعليه انتهت المحكمة إلى حدود القول بأنه لا يمكن للإدارة قانونا تحديد جنس المترشّح لسدّ شغور خطّة واعظ في منطقة بذاتها سواء تعلّق الأمر بانتداب عن طريق مناظرة أو غيرها أو تعيين في نطاق تعويض أو نقلة دوريّة، و أنه لا يجوز عند إجراء مناظرة الانتداب تولّي لجنة المناظرة التصريح بالنجاح على أساس جنس المترشّحين كما يمنع على الإدارة انتداب مترشّح نجح على أساس جنسه. وأشارت إلى أن حالة الضرورة الواقعية المتمسّك بها والتي تتطلّب إجراءات تمييزيّة بين الأجناس تشترط لكي تكون قانونية أن يتم التنصيص عليها صراحة صلب قانون الوظيفة العموميّة أو النظام الأساسي المعني مع الإشارة إلى طبيعة بعض الوظائف وبشكل يتناسب مع الضرورة المتعلل بها.
هذا وتجدر الإشارة إلى أن القاضي الإداري يسعى إلى تأطير مبدأ المساواة بين الجنسين تفاديا لأي حيف في اتجاه أو في آخر، ومن ذلك أنه اعتبر في إحدى القضايا أن السبب الحقيقي لمنع العارض من مواصلة فتح الروضة هو إصرار الجهة المدعى عليها على أن تكون إدارتها معهودة إلى عنصر نسائي وهو تضييق مخالف للشروط المستوجبة لبعث مؤسسات رياض الأطفال المنصوص عليها بالإطار القانوني المنظم لها، بما يجعله مفتقدا لأي سند قانوني ومنطويا على خرق مبدإ المساواة، ومتجه الإلغاء على ذلك الأساس.

• ثانيا: المرأة وحرية اللباس:
يتفق الكثير من الباحثين في مختلف العلوم الإنسانية ولا سيما علم النفس وعلم الإجتماع على أن اللباس شكل من أشكال الحرية الفردية، وأن اختياره يتجاوز حدود العلاقة الضيقة مع الجسد إلى مجال أرحب ذي دلالات دينية وحضارية وثقافية وايديولوجية وغيرها.
ولقد شكل موضوع اللباس أحد أهم المواضيع الخلافية على مرّ العصور ولا سيّما في العصر الحديث والتي اقتضت إعمال التفكير وإنجاز الدراسات القانونية المعمقة ، حيث صار يطرح في علاقة بالمنع والإباحة من ناحية ومحاذير الممارسة في علاقة بالضوابط التي يقتضيها واجب التحفظ وخصوصية الوظيف ومقتضيات النظام العام وغيرها من المسائل ذات الصلة من ناحية أخرى.

وفي تونس كانت مقتضيات المناشير المتعلقة بمظهر المدرسين والأعوان الإداريين والتلاميذ وما ترتب عنها من تضييقات وعقوبات مناسبة لإثارة نقاش قانوني حول حرية اللباس لم يكن محل إجماع بين دوائر المحكمة ولو كان الأمر على الأقل من جهة أسسه ومنطلقاته القانونية. وعلى أي حال، من الممكن الإشارة هنا إلى ما ورد بالحكم الصادر في القضية عدد 26255 بتاريخ 28 جانفي 2011 من أن «حرية اختيار اللباس وحرية المعتقد تمارسان من قبل العون العمومي عند أداء الوظيف بالقدر الذي لا يتنافى مع واجب التحفظ المفروض عليه ومع مبدأ حياد المرفق العمومي المفروض على الإدارة. وأن المنطق يفرض أن تزداد التضييقات على مثل هذه الحريات الفردية كلما ازداد عدم التكافؤ بين العون ومنظوره وزادت قدرته على التأثير عليه، على أن ترجع مبدئيا ممارسته لتلك الحريات إلى مداها الجاري به العمل في البلاد بمجرد مغادرة مقر الوظيف . كما يظل من المفيد الإشارة أيضا وفي نفس السياق إلى ما ذهبت إليه إحدى الدوائر الإستئنافية الأخرى بالمحكمة من أن « الفولارة التونسية تعد لباسا تونسيا مألوفا لا يتعارض مع نواميس

المؤسسات التربوية ولا ينال من حيادها كما أنه لا يعكس مغالاة أيا كان اتجاهها من شأنها أن توحي بصورة بارزة انتماء طائفيا أو دينيا أو سياسيا أو عرقيا أو غير ذلك بل هو لباس من التقاليد التونسية الذي يسمح للتلميذة بكشف الوجه ويمكن بالتالي من التعرف عليها من قبل أعوان الإدارة والإطار التربوي ومن التواصل البيداغوجي مع أساتذتها» .
والحاصل من كل هذا أن فقه القضاء سعى إلى البحث عن نوع من التوازن بين حرية اختيار اللباس وحسن سير المرافق العمومية، وتلك مسألة تبدو جلية حتى في القرارات الصادرة في مادة توقيف تنفيذ القرارات الإدارية، إذ ورد بالقرار الصادر في القضيّة عدد 413983 بتاريخ 28 ديسمبر 2011 أن ممارسة حرية إختيار اللباس، شأنها شأن كافّـة الحريات والحقوق الأساسية الفردية والعامة، تقتضي مراعاة تنظيم المرافق العامّة وحسن سيرهـا، وأن قيام العون المكلّف من إدارة المؤسّسة الجامعية بالتثبّت في هوية الطالبة عند إجراء الترسيم من خلال التّأكّد من مدى تطابق الأوراق الثبوتيّة المقدّمة مع شخصها إنّما يندرج، في ظلّ التراتيب الجاري بها العمل، في نطاق الضوابط الّتـي يقتضيهـا حسن

سير المرفق العمومـي للتعليم والحفاظ على مصالح الطلبة أنفسهم. كما ورد في قرار آخر أن الحضور إلى كامل الفضاء الجامعي، من أماكن تأطير ودرس وامتحان ومراجعة بلباس يتلاءم مع الدراسة مع ضرورة كشف الوجه، إنّما يندرج في ظلّ النظام العامّ والتراتيب الجاري بها العمل، وفي نطاق الضوابط التي يقتضيها حسن سير المرفق العمومي للتــعليم والحفاظ على مصالح الطلبة أنفسهم .

ولا تفوتنا الإشارة في هذا السياق إلى ما ورد بالإستشارة الخاصة المتعلقة بإمكانية تنظيم حمل النقاب داخل الحرم الجامعي بمقتضى تدابير وتراتيب داخلية والتي ورد بها أن تنظيم ارتداء النقاب داخل الحرم الجامعي يدخل ضمن صلاحيات عمداء ومديري تلك المؤسسات بوصفهم رؤساء المصالح الإدارية للمؤسسات المذكورة وأن تدخلهم «يجب أن يقتصر على اتخاذ التدابير العامة أو الفردية الضرورية لضمان حسن سير المرفق العمومي وتلافي كل ما من شأنه الإخلال بالنظام العام داخل فضاءاته وإعاقة نشاطه البيداغوجي والعلمي أو الإخلال بنزاهة الإمتحانات، وعلى أن ترتكز المقررات الصادرة في هذا الشأن على مبدأ أن لا حق لأحد في الإنتفاع بالخدمات التي يسديها المرفق العمومي بمقراته المفتوحة للعموم وهو مغطى الوجه وذلك كلما اقتضى حسن سير المرفق الكشف عن الوجه للتمتع بتلك الخدمات وأن حدود ذلك المنع يجب أن يقتصر على حظر تغطية الوجه بصفة كاملة أو جزئية داخل مكونات الفضاء الجامعي، فحسب ودون أن يمتدّ إلى أي إجراء إضافي من شأنه المس من حرية المعتقد واللباس الراجعة لمستعملي المرفق

العمومي» .

• ثالثا. المرأة وضمان الحقوق ذات الصلة بممارسة الوظيف.
يتعلق الأمر في هذا الإطار بالتوقف عند خصوصية بعض الحقوق المخولة للمرأة حال مباشرتها لمهامها في مجال الوظيفة العمومية على غرار مسألة العطل أو منح الأعداد المهنية، فقد اعتبرت المحكمة في إطار مرجع نظرها الإستشاري أنه لا تأثير لعطلة الأمومة، التي تخصص للعناية بالوليد وتربيته خلال الأشهر الأولى التي تلي تاريخ الوضع والتي يكون فيها الرضيع في حاجة ماسة إلى حضور الأم، على أساس احتساب الرصيد اللازم لإستحقاق عطلة الإستراحة السنوية المنصوص عليها بالفصل 37 من القانون المتعلق بالوظيفة العمومية، وأن القول بخلاف ذلك يتعارض مع المقتضيات القانونية والمقاصد التشريعية ويؤول إلى التقليص من الحق الكامل في التمتع بتلك العطلة.
كما اعتبرت المحكمة أيضا في إطار مرجع نظرها القضائي وفي ذات الموضوع أنه يتبين باستقراء الفصل 48 من القانون المتعلق بالوظيفة العمومية أن المشرع أقر حق الأمهات في المطالبة بعطلة الأمومة دون تحديد أجل يسقط بانقضائه ذلك الحق، وأن عدم ترتيب أي جزاء عن عدم تقديم مطلب عطلة الأمومة قبل انقضاء عطلة الولادة يجعل الأجل

المقرر بالأمر عدد 266 لسنة 1985 المؤرخ في 15 فيفري 1985 والمتعلق بعطلة الأمومة من قبيل الآجال الإستنهاضية، مؤكدة على أن تمتع الإدارة بسلطة تقديرية في مجال منح عطل الأمومة لا يحول دون إخضاعها لرقابة القاضي الإداري والتصريح بالإلغاء كلما ثبت اتسام القرار بالخطأ الفاحش في التقدير والذي من مقاصده تقدير الموازنة بين حسن سير المرفق العمومي من جهة وما تقتضيه مصلحة المولود والأم من جهة أخرى . وفي نفس التوجه، اعتبر القاضي الإداري أن استدعاء العارضة للحضور بالإدارة العامة للصحة العسكرية يوم 5 أوت 2015 لمتابعة التكوين العسكري، والحال أنه ثابت من أوراق الملف أنّها أنجبت طفلة بتاريخ 19 ماي 2015، يعد مخالفا لحقها في الانتفاع بعطلة الأمومة المضمون بموجب الفصل 48 من القانون الأساسي العام للوظيفة العمومية الذي تخضع له، وخاصة في ظل ثبوت حاجة الرّضيعة المتأكّدة لرعاية أمها بسبب تعرّضها لحساسيّة تمنعها من تناول الحليب الاصطناعي .

وقد اعتبرت المحكمة أيضا، في الحكم الصادر في القضية عدد 120443 بتاريخ 2 أفريل 2011 والذي تعلق موضوعها بالطعن بالإلغاء في القرار القاضي برفض مراجعة العدد المهني المسند إلى العارضة بعنوان سنة 2008 بناء على عدم صحة سنده الواقعي والقانوني لتولي الإدارة الحطّ منه لنقص كمية العمل والحال أن المعنية بالأمر تمتّعت بعطلة ولادة وأمومة حسب القانون الجاري به العمل، أن عملها دأب على اعتبار أنّ الإدارة تتمتّع بسلطة تقديرية في تقييم مردود الأعوان الراجعين إليها بالنظر، وأنّ الأعداد المهنية التي تُسندها لهم لا تخضع إلاّ لرقابة دُنيا تُجريها المحكمة وذلك في صورة استناد الإدارة في هذا التقييم على وقائع غير صحيحة أو انحرافها بالسلطة أو ارتكابها لخطأ بيّن في التقدير. وانتهت إلى التصريح بعدم شرعية القرار المطعون فيه بالنظر إلى أنه لا شيء يمنع من سحب مقتضيات الفصل 5 من الأمر عدد 1706 لسنة 1994 المؤرخ في 15 أوت 1994 على وضعية المدّعية باعتبار أنّ مدّة التقييم التي تمّ على أساسها الحطّ من العدد المتعلق بكمية العمل قاربت 139 يوما باحتساب أيام الغياب المقدرة بـ226 يوما والتي تحصّلت خلالها المدّعية على عطلة ولادة بلغت شهرين وعلى عطلة أمومة مدّتها أربعة أشهر، بالإضافة إلى عطل المرض الأخرى والإستراحة، وهو ما كان يوجب على الإدارة تمكينها من الإحتفاظ بآخر عدد مهني أسند إليها.

• رابعا: المرأة واحترام الحرمة الجسدية والنفسية.
تشكل الحرمة الجسدية والسلامة النفسية للمرأة أحد المواضيع التي تعرض لها القضاء الإداري، ولو في إطار عرضي، وأفصح عن موقفه حيالها، ومن ذلك أنه اعتبر في إطار الحكم الصادر في القضية عدد 14213/1 بتاريخ 7 جويلية 2010 أن عدم حصول الإدارة مسبقا على موافقة صريحة من العارضة بوصفها صاحبة الصور الواقع عرضها للعموم في إطار الحملة التحسيسية المنظمة بمختلف المؤسسات الصحية التابعة لوزارة الصحة العمومية يعدّ تعديا منها على الحق المقرّر لفائدتها بهذا العنوان، خاصّة وأنّ تلك الصور عرضت المدّعية وهي على فراش المرض أثناء الحمل أو بعد الولادة وفي أوضاع تخدش الحياء وتعرض حميميتها إلى فضول العامة مما يجعل الضرر المشتكى منه ثابت في حقها وتنعقد بموجبه مسؤولية الإدارة وتكون ملزمة بالتعويض وبسحب الصور المتضرّر منها من جميع المصالح والمؤسّسات الإدارية . كما اعتبرت المحكمة في موضع آخر أن العنف المسلط من العارض على زوجته يشكل خرقا للواجبات المحمولة على العون العمومي ومن أهممها واجب التحفظ مؤكدة أن ما تمسك به العارض من انعدام

الصبغة المهنية للخطأ موضوع التتبع التأديبي يغدو غير معيب للقرار المنتقد بالنظر خصوصا إلى ما ثبت في حقه من اعتداء بالعنف الشديد على زوجته والذي تجاوز صداه أسوار محل الزوجية وأضحى محل نظر من المحاكم الجزائية . كما أقر القضاء الإداري في موضع آخر وفي ذات السياق، أنه ولئن لم يثبت تورط مدعي الضرر في القضية الجزائية التي رفعت ضده، فإن ما حام حول ما علق به من ملابسات واقعية يكون كفيلا بتخفيف نسبة المسؤولية الملقاة على عاتق الجهة الإدارية وجعلها في حدود الثلثين وتحميل العارض جزء من المسؤولية في حدود الثلث طالما تبّين سبق تورطه قبل سنة من حصول الواقعة محل التتبع في قضية الحال، في قضية أخلاقية مماثلة تمثلت في الإعتداء الثابت على إحدى الفتيات آل إلى إلزامه بالزواج منها قضائيا . ولئن بدا واضحا أن الحالات المشار إليها إنما تتعلق بمجال التتبعات التأديبية في مجال الوظيفة العمومية، فإنها لا تخلو في نهاية المطاف من بيان مدى حرص القاضي الإداري على احترام السلامة الجسدية للمرأة ورفضه لكل أشكال الإعتداء التي من الممكن أن تطالها وترتيبه للنتائج القانونية على ذلك.

وقد يتجلى دور القضاء الإداري في هذا المجال في صور أخرى، ومن بينها مسألة التعويض عن الأضرار التي تلحق بالمرأة سواء في القضايا المتعلّقة بالمسؤوليّة الطبيّة أو بالأضرار المترتبة عن المنشآت العموميّة أوتلك المتعلّقة بالحوادث المدرسيّة أو غيرها. وما يمكن التأكيد عليه في هذا الإطار أنّ فقه القضاء استقر على تقدير الغرامات المستحقّة عن الضرر البدني واحتساب قيمة التعويض بحسب موقع الضرر ونسبته والعضو المستهدف وتأثير السقوط على سائر حياة الـمصاب وسنّ المتضرّر وجنسه، وجسامة الأضرار التّي لحقت به وتعدّدها. كما استقرّ فقه قضاء المحكمة على اعتبار أنّ الضرر الجمالي مستقل بذاته عن الضرر المعنوي وقابل للتعويض على حدة، وتراعي المحكمة عند تقديره موقع التشوه الجمالي ومدى بروزه للعيان وما يخلفه ذلك التشوه من أثر على نفسية وسلوك المتضرر. وإنه لغني عن البيان في هذا الإطار أن التعويضات التي تصرف للنساء المتضررات من أعمال الإدارة تراعي خصوصية المرأة ولا سيما متى تعلق الأمر بتقدير التعويض عن الضرر الجمالي، بشكل يجعله أرفع من التعويضات التي قد تصرف للمتضررين من الرجال.

ولربما جاز القول أيضا أن هذه الفكرة تتدعم أكثر بقبول المحكمة التعويض للأرملة عن الضرر المادي اللاحق بها جراء وفاة زوجها ورفضه في الحالة المعاكسة، إذ ذهب فقه القضاء الإداري إلى أنه يحق للأرملة المطالبة بالتعويض عن الضرر المترتب عن فقدان زوجها طالما أنها دائنة بالنفقة تجاهه ، وأنه لا يسوغ، في المقابل، للأرمل المطالبة بالتعويض عما فاته من مال زوجته الهالكة متى ثبت أنه يعمل وله راتب شهري لكونه مطالب في جميع الحالات بحكم القانون بالإنفاق على زوجته الهالكة وليس له أن ينتفع بمالها لغاية نفسه . مع الإشارة إلى هذا التوجه لا يتنافي، في الإعتقاد، مع دور الزوجة في الإنفاق على الأسرة وقد اعتبرت المحكمة في المادة الجبائية، وعلى سبيل المثال، أنه طالما أن مساهمة الزوجة في الإنفاق على الأسرة يعد واجبا قانونيا قائما في حقها بحكم ثبوت تحقيقها لمداخيل قارة، فإن ذلك يغني عن الإدلاء بما يثبت مساهمتها في مصاريف المعيشة .

• خامسا: المرأة والمادة الإنتخابية.
لا يكاد يختلف اثنان في أن مكانة المرأة في المادة الإنتخابية تطورت بشكل ملحوظ منذ سنة 2011 ويكفي للتدليل على ذلك الإشارة إلى ما ورد بالفصل 34 من الدستور من أن «حقوق الإنتخاب والإقتراع والترشح مضمونة طبق ما يضبطه القانون. تعمل الدولة على ضمان تمثيلية المرأة في المجالس المنتخبة»، وأيضا ما اقتضاه الفصل 46 منه من أن الدولة تسعى إلى تحقيق التناصف بين المرأة والرجل في المجالس المنتخبة. كما ورد بالفصل 24 من القانون الأساسي عدد 16 لسنة 2014 المؤرخ في 26 ماي 2014 والمتعلق بالإنتخابات والإستفتاء أنه تقدم الترشحات للإنتخابات التشريعية على أساس مبدإ التناصف بين النساء والرجال وقاعدة التناوب بينهما داخل القائمة، ولا تقبل القائمة التي لا تحترم هذا المبدأ إلا في حدود ما يحتمه العدد الفردي للمقاعد المخصصة لبعض الدوائر، وبدوره أشار الفصل 49 تاسعا من ذات القانون إلى أنه تقدم الترشحات لعضوية المجالس البلدية والجهوية على أساس مبدأ التناصف بين النساء والرجال وقاعدة التناوب بينهم داخل القائمة، كما تقدم الترشحات على أساس مبدإ التناصف بين النساء والرجال في رئاسة القائمات الحزبية والإئتلافية التي تترشح في أكثر من دائرة انتخابية.

واعتبار لتلك التنصيصات بدا القاضي الإداي حريصا على احترام المبادئ المذكورة. ويكفي للتدليل على ذلك الإشارة إلى ما ورد بالحكم الصادر في القضية عدد 201410005 بتاريخ 17 سبتمبر 2014 من أنه يستشف من أحكام القانون الإنتخابي وخاصة من صيغة الوجوب الواردة بالفصلين 21 و24 منه أن القائمة الأصلية والقائمة التكميلية تخضعان إلى نفس النظام القانوني وينطبق على كليهما شرط التناصف والتناوب بين النساء والرجال على أساس وأنه مبدأ عام يكرس بصفة صريحة التساوي بين الجنسين في المادة الإنتخابية ويكون جزاء عدم احترامه عدم قبول القائمة المترشحة للإنتخابات . وتضيف المحكمة في موضع آخر أن الغاية من إقرار مبدأ التناصف بين المرأة والرجل صلب الفصل 46 من الدستور لا تتحقق في ظل نظام اقتراع يعتمد على التمثيل النسبي إلا بإعمال قاعدة التناوب عند ترتيب المترشحين ضمن القائمة المترشحة . وفي إطار مزيد تدقيق مبدأ التناصف أقرت المحكمة أن تضمن القائمة التكميلية المرفقة بمطلب ترشح القائمة المستأنفة ضدها في تاريخ البت عدد 3 من المترشحين وثبوت أن المترشح رقم 2 ورقم 3 من جنس الإناث يكون مخالفا لأحكام القانون الإنتخابي . كما أكدت المحكمة أيضا على أن الإخلال بمبدأ التناصف هو من الإخلالات التي لا يجوز تداركها بعد غلق باب الترشحات .

ختاما لهذا التحليل، يجدر القول أن المجال لا يتسع للإتيان على مختلف التوجهات أو الوقوف عندكل الحالات والأمثلة التي سعى من خلالها القاضي الإداري طيلة زهاء خمسين عاما من الوجود إلى تدعيم مكانة المرأة التونسية، والإنتصار لحقوقها طبق ما يقتضيه القانون، وما يتوصل إليه الدور الإنشائي للقاضي، وأن ما تم التعرض إليه لا يعدو أن يكون سوى شذرات متفرقة من الإجتهادات القضائية المؤمنة بمكانة المرأة في الدولة والمجتمع، وقدرتها على الفعل والإنجاز، وأن استعراض هذه الجوانب من فقه القضاء الإداري لا يخرج في نهاية المطاف عن حدود انتهاز فرصة عيد المرأة لتوجيه تحية لكل النساء في بلادنا، ولا سيما الزميلات القاضيات بالمحكمة الإدارية اللاتي يساهمن من موقعهن وبجهد يومي حثيث في بلورة مثل تلك التوجهات وغيرها إعلاء لقيم الحق والحرية والعدالة، وتزيينا للقضاء الإداري بخصال حميدة وفعال سديدة وتوجهات رشيدة من شأنها تدعيم مكانة القضاء كحارس للشرعية وحام للحقوق والحريات ومساهم في بناء دولة القانون. يتبع

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115