تتحوّل التفاهة إلى نظام عالمي، لا ميزة تونسية فحسب، وعندما يقتنع التافه أنه يقدّم الإفادة فعلا من خلال التعرّف على شخصٍ تافه آخر، أو مجموعة من التافهين، وعندما يساند التافهون بعضهم البعض بشراسة واستماتة، تقع السلطة لا محالة بيد جماعة تافهة يتوسّع نفوذها باستمرار، فيصبح بذلك الغباء العملة الدارجة وكلمة العبور، لأنّ هذا الغباء يتحصّن بالسّلطة، فيحتكر التافه بذلك الحقيقة والمعنى.. نعم إنّ هذا الغباء وهذه التفاهة أخطر على البشر من أي حرب دامية عبر التاريخ.. وحتى نكون أكثر دقّة فالتفاهة تعني أيضا الضحالة ونقص الأصالة والإبداع، والحقارة والخسّة، كما تعني الدناءة..
لذلك اضرب بكتبك المعقّدة عرض الحائط، «خفّف من شَغفِك، لأنه مُخيف. وقبل كل شيء، لا تُقدّم لنا فكرة جيّدة من فضلك، ثم لا تنسى هذه النّظرة الثّاقبة في عينيك، إنها مُقلقِة، وعندما تَتَحدّث عن نفسك، اقتل إحساسِكَ بذاتك إلى شيء لا معنى له كي نكون قادرين على تصنيفك.. لقد تغيّر الزمان»، لم تتعرّض الأرض إلى هجوم خارجي من الفضاء، ولا حتى إلى هجوم نووي، ومع ذلك فـ«التافهون حسموا المعركة لصالحهم، وباتوا يمسكون الآن بمواقع مهمة في العالم، عليك أن تكون قابلا للتعليب، لقد تغير الزمن، فالتافهون أمسكوا بالسلطة».. ورد هذا في مقدمة كتاب «نظام التفاهة» La médiocratie، بتصرّف، للمفكر والفيلسوف الكندي في جامعة الكيباك ألان دونو Alain Deneault، وتمّت ترجمة الكتاب إلى اللغة العربية عن دار سؤال اللبنانية لعام 2020.
حسب ألان دونو يُعتبر لفظ التفاهة بالفرنسية médiocrité هو الاسم الذي يشير إلى ما هو متوسّط، هذا المتوسّط لا يصل إلى الذكاء والفكر والتفوّق والنبوغ والقيمة.. تماما مثلما تشير كلمات supériorité و infériorité ، أي إلى ما هو أعلى وما هو أدنى، بالطبع ليس هنالك لفظٌ moyenneté بالفرنسية. و لكن مصطلح «نظام التفاهة» la médiocratie يعني أساسا بلوغ مستوى متوسّط أو درجة وسطى إلى مصاف السلطة، وهنا مربط الفرس.. كيف ذلك؟
فللتفاهة أو للضحالة لغة تميّزها، لا تقوم على الإقناع أو الحجة أو على المنطق، لغة خشبية تتنفّس الشعبوية والعاطفة، والمغالطات المنطقية، وتتزيّن بالاستعارات والبيان.. لغة تحشد وتبحث عن مناصرين وتسطّح القضايا وتردم كل نقاش فكري تحت أقدام الجماهير..
كما أنّ التفاهة تقتات من مجال الثقافة بشكل جعل المثقّف العضوي يتراجع ويتآكل على حساب أشباه المثقفين، من صنّاع الابتذال..في أي مجال ثقافي كان، فالثقافة اليوم يتمّ تصويرها كترفيه، صنّاعها مهرجون يمسكون الكتب ولا يفتحونها أبدا، وإن فتحوا بعضها، فإنهم لا يفتحون أمّهات الكتب ولا يعرفون أي شيء عن القضايا الفكرية التي تجعل الإنسان مدركا لمحدوديته وجهله وضعفه.. لتبقى بذلك المعرفة التي يكتسبها التافه معرفة سطحية لا ترفع جهلا ولا تنمّي فكرا ولا أخلاقا.. وكأنّ مقولة ديكارت «أنا أفكّر إذن أنا موجود» أصبحت أنا تافه إذن أنا موجود.
فللتفاهة ثقافة تيوقراطية، ميزوجينية تسوّق للانغلاق والتشدّد ورفض النقاش أو الحجاج.. ثقافة تستند إلى تسميات مؤثرة وهالات لامعة ترتكز على الابتذال والبهرجة لا غير، كما أنّ هذه الثقافة تساهم في جعل المرأة هدفا للجماعات الراديكالية من خلال الحط من قيمتها من خلال تسويق خطاب منحط يحتمي بحجة حرية التعبير ويجعل المرأة في مرمى التمييز والعنف.. خطاب يعتبر المرأة أداة جنسية.. فالمثقف اليوم ينتقد المرأة على أساس أعضائها التناسلية لا على أساس أرائها أو فكرها أو مواقفها..
الفن اليوم يتّسم بالانحطاط إلى أبعد الحدود الممكنة، فحتى الفنان الذي يمكن أن نصفه بالمثقف يتمّ إستغلاله من قبل الشركات التي وجدت في التفاهة فائضا من الربح، هذا الربح الذي أصبح القيمة العليا التي لا تضاهيها أيّ قيمة.. فالمال لم يعد وسيلة في هذا النظام الجديد إنما أصبح الهدف والغاية. ما جعل الناس عبيدا للمادة وعبيدا لمن يملك أكثر..
فالدين والثقافة والعلوم أصبحت في خدمة رأس المال.. كما أفرغت السياسة من معناها، فالسياسة التي هي أصلها مرتبطة بالعدل والحق والواجب والالتزام للصالح العام صارت تدور حول خلق الثروة والربح والمزيد منه.. السياسي اليوم أصبح مديرا لشركة.. والوطن أصبح مؤسسة والمواطن صار مجرّد رقم في هذا النظام.
ولا ننسى الصحافة التي تتصدّرها عناوين إنفعالية عاطفية غايتها المزيد من الجماهير المذهولة، هذه الصحافة التي غدت تختار من بين كل الأخبار الموجودة، تلك التي تخدم توجّهاتها وأهداف رأس المال الذي يقف وراءها من مؤسسات وشركات.. دون أن نتحدّث عن الصحافة التي تقوم أساسا على ملاحقة المشاهير من فنانين وسياسيين ولاعبي الكرة ونقل خصوماتهم كقضايا يهتز لها الرأي العام والتسويق حتى لما يحدث داخل غرف نومهم.. وكل ذلك طبعا باسم الحرية..
أما عن مواقع التواصل الإجتماعي فإنها لم تعد وسيلة للتعارف أو تبادل الأراء بل أصبحت تشكّل واقعنا الجمعي.. وجعلت من التافهين رموزا من أصحاب الثروات.. فمجتمع التافهين غيّر من صورة النجاح الذي اختصره في الشهرة والمال.
ومع ذلك ينوّه الفيلسوف الكندي ألان دونو إلى إن التافهين يعملون بجدّ، ويبذلون مجهودا كبيرا في عملهم ويقول «الأمر يتطلّب مجهودا للخروج ببرنامجٍ تلفزيوني ضخم، أو لتعبئة طلب منحة بحثية مموّلة من وكالة حكوميّة، أو لصياغة المُحتوى الخاص باجتماعٍ وزاريّ. ولا يمتلك الجميع الوسائل للوصول إلى هذه الغايات، فالجودة التقنيّة لازمةٌ لإخفاء الكَسَل الفكريّ العميق الذي تنطوي عليه العديد من المِهن..»
يعتبر ألان دونو أنّ «معركة العصر» تتمثّل في إعلان الحرب على نظام التفاهة التي تشجّع على الكسل والجمود بدل التفكير، والتي تصوّر المكروه كأمر ضروري، وتعتبر غير المقبول كأمر حتمي.. فطوفان التفاهة يخاطب الغرائز والرغبات ويجرف معها ضحايا من أكاديميين وفنانين ورجال أعمال ينافسون الحمقى أينما كانوا.. وهنا تختفي المضامين ويصبح الهامش متنا، وتصبح التفاهة شمسا ميّتة تضيء بسوادها كل شيء، دولا ومجتمعات، من خلال فيروسات الرداءة والتخلف والفساد، وقتل الكفاءات والمتميّزين، وزرع الكراهية والتباغض والتناحر..
عن معركة العصر: وباء التفاهة
- بقلم سيماء المزوغي
- 10:38 12/08/2020
- 2357 عدد المشاهدات
عندما يتصيّد التافهون المجتمع والفضاء العام ومجالات الثقافة والصحافة والسياسة وعندما تصبح التفاهة عملة للمعنى وطريقا للخلاص،