بل هو شخص من داخل العمق الإداري للدولة التونسية، هو سليل المصعد الاجتماعي للمدرسة التونسية وذو خبرة بدواليب الدولة. وهو إلى ذلك كله يختلف عن سابقيه من رؤساء حكومات بعد الانتخابات عدا السيد الحبيب الصيد وهو الآخر سليل الإدارة التونسية ولكنه من جيل آخر غير جيل الرئيس الحالي المُكلّف.
في التجارب السياسية يتشكل مسار الفاعل السياسي من المحلي صعودا إلى الوطني. يجرّب السياسي فعل السياسة في محيطه القريب، في دائرته البلدية وفي جمعيات المجتمع المدني وفي دواوين الوزارات، يختبر قدرته ويتعلم من أخطائه ويخوض انتخابات محلية ينجح في بعضها ويخيب في بعضها الآخر إلى أن تتاح له فرصة سياسية للصعود إلى المستوى الوطني ولكنه يبقى دوما مرتبطا بأفقه المحلي الذي يأخذ منه دوما الشرعية والوجاهة السياسية. وهذا حال أغلب السياسيين في الديموقراطيات العريقة الذين يصلون إلى أعلى هرم السلطة وقد خبروا السياسة في نطاقاتهم الضيقة.
نعطي في الغالب أهمية للشخص المكلّف دون النظر إلى خطاب التكليف. وفي خطاب التكليف يكمن كل شيء. خطاب التكليف هو الفكرة الأولى لما سيكون عليه الرئيس المكلف. في خطاب التكليف هناك رسائل لكامل الطيف السياسي في الداخل وفي الخارج. خطاب التكليف هو عنوان مرحلة وهو مسار ما تبقى من العهدة. وفي خطاب التكليف نقرأ فكرة إعادة النظر في الشرعية والمقصود هنا شرعية البرلمان الذي ساء صيته في الأشهر الأخيرة وتحولت الشرعية من المؤسسة النيابية إلى مؤسسة الرئاسة التي بيدها الآن مقاليد السلطة التنفيذية.
لقد أصبح - الآن- من الواضح أن النظام السياسي الذي صاغه دستور 2014 يعيش حالة إعادة نظر بالكامل. وهذا مؤشر على أن الواقع يمكن في كثير من الأحيان أن يتجاوز النصوص وأن يتجه بها إلى اتجاه معاكس لما تريده هذه النصوص وهذه إحدى علامات الديناميكية السياسية التي يعيشها أي نظام سياسي في واقع ديموقراطي. ولكن يمكن لهذه الوضعية أن تؤدي إلى استفحال الآزمة السياسية بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية وقد تدفع إلى اتخاذ قرار بحل البرلمان.
نحن إذن أمام فرصة أخيرة قبل الوقوع في المجهول. وتعني هذه الفرصة قبولا بالتكليف وبحثا مشتركا من اجل إنجاح الحكومة القادمة وإسنادها سياسيا. هنا يصبح التفكير في الآزمة وفي إيجاد حلول لها أهم بكثير من الاعتبارات الحزبية الضيقة ومن اعتبارات التعيين. وهذا قد يعطي للفاعلين السياسيين إمكانية أكبر للتدارك السياسي. إذ لا يخفى على أحد أن هذا التكليف هو عملية وضع الأحزاب السياسية في الزاوية وعملية إبطال لدورها المحوري في تشكيل الحياة السياسية في تونس. وقد يكون ذلك دعوة ضمنية لهذه الأحزاب لتراجع نفسها وتعيد بناء قدراتها بأكثر ديموقراطية.
نحن أمام مفترق طرق صعب وليس لنا إلا إنجاح العملية السياسية حتى نتجاوز الآزمة الشاملة. والوقت لا ينتظر والمانحون يريدون حكومة مستقرة كي يتعاملوا مع طلبات الحكومة. وفي هذا المعترك تتفاقم الأزمة الاقتصادية ويزداد هروب الشباب إلى الضفة الشمالية من المتوسط بحثا عن أفق أفضل. الأفق الأفضل هو أن تنحني الأحزاب والكتل البرلمانية للأزمة وتنخرط في عملية إنقاذ وطني وتضع في الاعتبار أن رفضها إسناد شكيل حكومة مستقرة هو الدفع بالبلاد إلى المجهول. والمجهول ليس فقط إمكانية إجراء انتخابات برلمانية سابقة لأوانها. المجهول هو خسارة مسار ديموقراطي بأكمله.
من المؤكد أن هذا التكليف يحمل في داخله معاني عديدة، والمعنى الأبرز هو أننا بصدد دخول مرحلة سياسية جديدة عنوانها «جمهورية الفصل 89».
برج بابل: جمهورية الفصل 89
- بقلم محمد جويلي
- 09:48 28/07/2020
- 1125 عدد المشاهدات
وقع التكليف أخيرا وفي التكليف هناك الشخص وهناك خطاب التكليف. المُكلف بتشكيل الحكومة شخص لا ينتمي إلى فئة «الفتية الذهبيين»