هذه الأزمات دورا أساسيا في تراجع مخزون الثقة في قدرتها على إنجاح تجربتنا الديمقراطية.
وهذه الأزمات فيها السياسي مع التشرذم الكبير الذي تعرفه الساحة والتراجع الكبير لثقة الناس في الأحزاب السياسية .ولعل من مظاهر هذه الأزمة الصراعات التي يعرفها البرلمان منذ بداية العهدة البرلمانية الجديدة اثر انتخابات 2019. كما يشكل عدم الاستقرار الحكومي منذ نهاية هذه الانتخابات احد مظاهر هذه الأزمة.
أصبحت هذه الأزمة السياسية العميقة محل اهتمام المتابعين للوضع السياسي والناشطين في الأحزاب السياسية والمجتمع المدني ليؤكد الجميع على ضرورة إعادة النظر في النظام الانتخابي والنظام السياسي.
ولم تقف الأزمات عند حدود السياسة بل تجاوزتها لتمس الاقتصاد ولتعرف بلادنا احد اخطر الأزمات منذ الاستقلال .وقد امتدت هذه الأزمة الاقتصادية الى الجوانب الهيكلية لتطرح ضرورة تغيير نمط التنمية منذ بداية الألفية . ثم امتدت هذه الأزمة إلى التوازنات الكلية منذ بداية الثورة والتي نجحنا في المحافظة عليها طيلة السنوات الأخيرة .إلا أن سنوات ما بعد الثورة عرفت تدهورا كبيرا في المالية مع التنامي الكبير لمصاريف الدولة مما نتج عنه ارتفاع كبير في العجز.كما عرفت التوازنات الخارجية نفس الاتجاه لتعرف بلادنا عجزا تاريخيا في ميزان الدفوعات نتج عنه نمو صاروخي ومخيف لمديونية بلادنا .
وجاء ت جائحة الكورونا لتزيد من تعميق جراح اقتصادنا وليصبح شبح الإفلاس مهيمنا باعتراف كبار مسؤولي الدولة .
ولم تقتصر هذه الأزمات على الجوانب السياسية والاقتصادية بل امتدت الى الجوانب الاجتماعية مع النمو الكبير للبطالة والتهميش .وكانت هذه الأوضاع الاجتماعية وراء اندلاع الثورات العربية في 2011.وعوض أن تساهم سياسات واختيارات ما بعد الثورة في الإجابة على هذه التحديات والتقليص من الأزمة الاجتماعية فإن الأزمة الاقتصادية وتراجع النمو لعبتا دورا كبيرا في صعود البطالة لتصل مستويات تاريخية لم نعرفها من قبل .
إلى جانب هذه الأزمات الواضحة للعيان من خلال الأرقام والمؤشرات فان بلادنا تعرف أزمة خانقة على مستوى الثقة والتي تشكل احد ركائز النظام الديمقراطي. أزمة الثقة تبرز في عديد المستويات لعل أولها بين المواطنين ومؤسسات الدولة .فقد غابت القناعة بعدالة الدولة ومؤسساتها في الدفاع عن الصالح العام. كما نجد مع هذه الأزمة تراجعا كبيرا للثقة بين المواطنين والنخبة السياسية والأحزاب والتي عرفت تراجعا كبيرا في إشعاعها وعزوفا من المواطنين عن العمل السياسي .
يمكن كذلك أن نشير إلى تراجع مخزون الثقة بين المؤسسات الخاصة ورجال الأعمال والدولة والمواطنين .وقد ساهمت الإشاعات حول القوائم التي تعدها بعض الأطراف في السلطة لمحاسبة ومعاقبة بعض رجال الأعمال في اهتزاز الثقة بين القطاع الخاص والدولة مما نتج عنه تراجع كبير في الاستثمار والمخاطرة .
كما امتدت أزمة الثقة الى رؤية المواطنين للقطاع الخاص ودوره في عملية التنمية.يمكن كذلك أن نشير إلى أزمة الثقة التي تهيمن على علاقة القطاع الخاص بالإدارة وتبادل النقد وحتى التهم في بعض الأحيان بين الجانبين حول البيروقراطية المشطة وغياب النجاعة من جانب رجال الأعمال ومحاولة تجاوز القوانين والتهرب من التزاماتهم تجاه الدولة حسب الإدارة تجاه القطاع الخاص .
وكان لأزمة الثقة بين الفاعلين الاقتصاديين ومؤسسات الدولة والإدارة تأثير كبير على الوضع الاقتصادي وساهمت بصفة فعالة في تراجع الاستثمار والنمو .
والى جانب هذه المستويات السياسية والاقتصادية في تراجع الثقة يمكن أن نشير إلى مستويات أخرى عامة في ارتباط بالوضع التاريخي الذي تمر به بلادنا . فلئن كانت السنوات الأولى للثورة حبلى بالأمل حول قدرتنا على إنجاح تجربتنا الديمقراطية فان هذه الثقة تراجعت في السنوات الأخيرة ليحل محلها الإحباط والعجز .
تشير هذه الملاحظات إلى الاهتزاز الكبير والأزمة الخانقة للثقة التي يعرفها مجتمعنا منذ سنوات والتي تساهم بصفة كبيرة في انسداد الأفق السياسي.
ولئن عرفت كل الأزمات الأخرى السياسية والاقتصادية والاجتماعية تحاليل ضافية ودراسات مهمة فإن أزمة الثقة لم تعرف نفس الاهتمام بالدراسة والبحث بالرغم من أهميتها وانعكاساتها الكبرى على الاستقرار السياسي والاقتصادي .
سنحاول في هذا المقال تقديم بعض الملاحظات الأولية حول مسألة الثقة وانعكاساتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية .
المسألة الأولى تخص تحديد مفهوم الثقة والذي ولئن تداولته بكثرة الكتابات والقراءات فإننا لا نجد تحديد واضحا لهذا المفهوم .والثقة حسب العديد من القراءات والتحاليل هي الأمل الذي نضعه في موثوقية (fiabilité) التصرفات الإنسانية .إذن يكمن الجانب الأول للثقة في المستوى الشخصي وهي تختلف عن الإيمان والمعتقد.
إلا أن الثقة لا تقتصر على الجانب الشخصي بل تمتد كذلك إلى المستوى الجماعي لتمس العلاقات الاجتماعية .وهنا تمر الثقة من الأمل والقناعة الشخصية إلى المؤسسات التي تسعى إلى بناء الثقة الجماعية والخروج بالثقة من المستوى الشخصي والذاتي إلى المستوى الجماعي . وهذا البناء يتم عبر المؤسسات السياسية البرلمان والحكومات وغيرها من مؤسسات الدولة والمؤسسات الاقتصادية. كما تشمل هذه المؤسسات كذلك القوانين والعقود التي تضبط العلاقات الاجتماعية وتحدد مجالاتها وأسسها .
هكذا تلعب الثقة دورا محوريا في المجتمعات الإنسانية وبصفة خاصة في المجتمعات الديمقراطية حيث تشكل الركيزة الأساسية التي تبنى عليها العلاقات الاجتماعية .
هذه الأهمية التي تخص بها مسألة الثقة تفسر كذلك دورها المركزي في الاقتصاد .وقد أولى علماء الاقتصاد أهمية كبرى لمسألة الثقة وتأثيرها على النظام الاقتصادي . وقد أكد الاقتصادي الانقليزي جون كينز (Jean Keynes) على هذه المسألة ليجعل من الثقة المحدد الأساسي للاستثمار وللمخاطرة في المجال الاقتصادي .
كما أكدت الدراسات على الانعكاسات المباشرة للثقة في المجال الاقتصادي. فوجود مؤسسات قوية فاعلة له تأثير مباشر على الاستثمار والتنمية . كما أن القوانين والقواعد الواضحة العادلة تساهم مساهمة كبيرة في تحسين مناخ الأعمال وتساهم في دفع الاستثمار والنمو.
وتلعب المؤسسات النقدية والمالية دورا كبيرا في بناء الثقة في النظام الاقتصادي والمجتمعي بصفة عامة.فأي أزمة ثقة تكون نتيجتها المباشرة انصراف الناس عن المؤسسات النقدية والمالية وتراجع ثقتهم في العملة الوطنية والالتجاء إلى كبرى العملات الأجنبية لتخزينها .ويمكن أن تقود هذه الأزمات وتراجع الثقة في المؤسسات النقدية والمالية إلى أزمة خانقة قد تقود إلى إفلاس النظام البنكي حيث تهرع الجماهير الواسعة إلى سحب مدخراتها من البنوك .
تشير هذه الملاحظات إلى الدور الأساسي الذي تلعبه الثقة في استقرار النظام السياسي وفي مستوى النمو والتطور الاقتصادي الذي تعرفه البلدان .وتراجع مستوى الثقة والازمة العامة التي نعيشها في هذا المجال في جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية كان له تأثير مباشر في هبوط مستوى الاستثمار والنمو.
وللخروج من هذه الأزمات المتعددة لابد لنا من إعادة بناء الثقة. وفي رأيي فإن هذا المسار والى جانب دور المؤسسات والقوانين ودعم فعاليتها فانه يتطلب كذلك بناء مشروع جمعيا ومشتركا يمر عبر إعادة بناء عقد اجتماعي جديد للجمهورية الثانية .