كلّهم بشر ولهم جميعا الحقّ في الأمن، في الرفاه، في العيش السعيد. أنا إنسان وكلّ إنسان هو أخي في الإنسانية. أنا إنسان وكلّ إنسان هو ثراء لي وللبشريّة. أنا إنسان من العالم والعولمة عندي مصير مشترك. أنا لست تونسيّا. أنا إنسان من العالم. وطني هو العالم. انتهى، يا سادتي، زمن الأوطان والقوميّة. تونس في العالم والعالم في تونس. يعيش التونسيّون في كلّ أرض وكلّ البشر لهم حقّ العيش في "وطني". عفوا، تونس ليست وطني. هي أرض كلّ البشر... مثل هذا النظر، لا يقبله الكثير من التونسيين. بعضهم يؤكّد دوما على ما نحمله من أصالة، من دين، من خصوصيّة. بعضهم يدعو إلى الغلق، إلى دعم السيادة الوطنيّة والكلّ يعلم أنّ حياة الناس تشابكت ومصالحهم اختلطت وأنّ السيادة الوطنيّة خرافة قديمة، انتهت، لا تصلح...
كلّ منغلق على نفسه، كلّ منكمش على ذاته، هو إلى الموت يمشي بخطى ثابتة. لا حياة لمن غلّقت قلوبهم. لا نظر ولا مستقبل لمن أوصدت عقولهم. اليوم والغد هما من نصيب من تفتّح عقله... تونس بلد متخلّف لأنّه بلد منغلق. التونسيّون متخلّفون لأنّهم يعتقدون أنّهم خير أمّة أخرجت للناس وأنّهم، في الدنيا، هم الأبقى وهم الأفضل. الكثير منّا يرى أنّنا سرّة العالم وأنّ الكلّ يحسدنا على ما نحن فيه من تميّز، من تفوّق. نحن شعب قتلتنا النرجسيّة. أهلكنا الغرور. ولأنّنا نعتقد أنّنا أفضل الناس، ترانا نغلّق الأبواب وندّعي أنّ تونس هي أرضنا لوحدنا ولن يشاركنا فيها أحد. ألم يرفع الزين بن عليّ مقولته البائسة: "تونس للتونسيين"؟
مثل هذا النظر القوميّ هو خور. مثل هذا التصوّر الضيّق هو فساد وسوء. تونس ليست للتونسيين. تونس هي ملك للنّاس أجمعين مهما كانت دياناتهم وأجناسهم، مهما كانت ألوانهم وأصولهم. لا فرق بين التونسيّ وغيره. لا فرق بين المسلم واليهوديّ. كلّهم إخوة. كلّهم بشر ولهم جميعا الحقّ في العيش في تونس والشغل والأمن والتملّك... انتهى زمن القبيلة والجهة والوطن. التصقت الأوطان بعضها ببعض واتصلت الأرض بالأرض وهذا البشر كلّه اليوم يحيا مع البشر. لا مكان للأوطان. كلّ وطن مدعوّ إلى فسخ ذاته، إلى فتح أبوابه، إلى الذوبان في العالم. لا مكان للقوميّة. كلّ الأقوام مدعوّة إلى التعايش مع بعضها البعض، إلى التعاضد. تونس ليست للتونسيين ولسوف تسمو وتزدهر إن هي تفتّحت وفتحت ذراعيها للآخرين جميعا. إن هي احتضنت الناس كلّهم. من كلّ الأديان والأجناس، من كلّ الملل والنحل...
° ° °
كانت تونس أفضل لمّا كان فيها اليهود والإيطاليون والفرنسيون. كانت تونس باقة ورد فوّاحة بفضل ما ضمّت من تنوّع بشريّ. يومها، ارتقت تونس وتطوّرت. يومها، كان فيها بهاء وحركيّة. أيّام الاستعمار، كانت تونس تتغيّر، تتوثّب، تتطلّع. بفضل ما تجمّع من بشر ألوان مختلفة، كان هناك ثراء في الفنون وتعدّد في النظر وتنافس في الصناعة وفي الفلاحة. يومها في تونس، كان الحال أفضل ممّا نراه اليوم في ظلّ "توحّد" متكلّس. مع الاستقلال، حصل في تونس غلق اشتدّ مع السنين. ازداد في البلاد التصحّر لمّا فرّ منها اليهود وتركها الفرنسيون والايطاليون. لمّا هجّ هؤلاء البلاد، حصلت لتونس خسارة فادحة. تقلّص الاختلاف بين الناس. جمد الفكر. تراجعت الفنون. أصاب السوق كساد... نعم، تونس خسرت يوم استقلّت. تراجعت حركيّتها لمّا غادرها الغربيون واليهود. ها نحن اليوم لوحدنا، عرب مع عرب. نلوك ما يحمله السلف ونعيد ما قاله الجدود. نجترّ نفس الفكر. نمشي في نفس الصراط. ها نحن اليوم لوحدنا نتخبّط...
كانت الجامعة أفضل لمّا كان فيها مدرّسون من الغرب وقد جاؤوا ومعهم معارفهم ومناهجهم. خذلت الجامعة لمّا "تونست" وهجرها الأساتذة الغربيّون. "خرّبت الجامعة لمّا عرّبت". تراجع فيها التعدّد المنير وأكلها الغيب والخرافة. كانت الفلاحة أفضل لمّا كان الفلاحون خليطا من التونسيين والإيطاليين والفرنسيين. كان الإنتاج أوفر. خرّبت الفلاحة لمّا
انتزعت الأراضي وأمّمت ووزّعت على الثوّار والعامّة. كانت السوق التونسيّة أكثر نموّا وحركيّة لمّا كان فيها متدخّلون يهود وعرب وفرنسيّون. في السوق أيّامها كان هناك تنافس بين التجّار وهذه سلع تأتي من كلّ أرض وهذا تصدير ناهض. كسدت السوق لمّا غادرها التجّار اليهود... ذاك ما حصل في الفنون، في المعارف، في الحياة اليوميّة، في السكك الحديديّة، في فسفاط قفصة، في الشرطة، في الشوارع في كلّ شأن وعيش ومشترك. كلّها شدّها قحط وجمود...
لا يغترنّ القارئ ممّا كتبت. ما كان الاستعمار وما لفّه رحمة للناس ونعمة. أعلم وكلّ الناس أنّ في الاستعمار بغضاء ومنكرا. لكن، في ما أعتقد، كان للاستعمار بعض الفضائل. أيّامها، في ظلّ الاستعمار، كان في البلاد تنوّع بشريّ، وهذا كلّه منافع. أعتقد أنه لو بقي اليهود والفرنسيّون بيننا لكانت تونس اليوم أفضل. مع الاختلاط بالآخر المختلف، تحصل المقارنة ويكون التدافع. يقوى التنافس بين الناس وترى الكلّ يتبارى، يتسابق. كلّ ملّة تظهر ما لها من مهارة، من تميّز. كلّ خلق ينظر في الآخر، يقلّده، يقتبس منه نحوه وسبله. مع الآخر المختلف، تتطوّر المعارف وتنشط الحياة ويتحقّق العيش الأفضل. هذا ما نراه اليوم في الغرب وفي بعض بلدان الخليج ولدى الأمم المتقدّمة. أمّا في بلاد العرب وفي تونس بعد الثورة، ها هي القوميّة تعود متحفّزة، تهدّد. ها هي السلطات وأهل الحلّ والعقد يدعون إلى مزيد الغلق، إلى القطع مع الغرب، مع الآخر المختلف...
ليت تونس تفتح أبوابها شاسعة. ليتها تتفتّح على الآخر حتّى يأتيها الآخر من كلّ فجّ، نتقاسم وإياه الماء والملح والحياة اليوميّة. يجب أن نقبل بالآخر المختلف، أن نفتح له بيوتنا وعقولنا ونيسّر عيشه ونضمن له الأمن والمساواة. بدون الآخر المختلف، ينكمش النظر. توصد العقول. يشحّ التخيّل. لن يحصل في الناس تغيير أو تطوّر. كيف للفرد أن يتغيّر وهو يحيا في فضاء مغلق؟ كيف للقوم أن يغيّروا ما بأنفسهم وتغيير الأنفس يلزمه قطيعة حادّة مع ما استقرّ من فكر ومع ما دار من تمثيليّة؟ حتّى تحصل القطيعة، يجب أن ننظر في الآخر المختلف، أن نتفحّص ما يأتيه من فعل ومن سعي مغاير. بالمقارنة، بالمقاربة، قد يتمكّن الفرد من التقييم ومن إدراك الفوارق ثمّ من إصلاح نفسه. لن يقدر الإنسان على تغيير نفسه بالعود إلى نفسه. كيف يقدر على التغيير وكذلك عاش وجبل وكذلك شكّلته السنون والسنن. لمّا تتماثل الرؤى وترى عند الناس نفس القواسم المشتركة، تجفّ الينابيع. ينكمش النظر. يتقلّص الممكن. بالأخذ فقط من الموروث وبالتسليم لما دار حولك من فكر ومن قيم، لن يمكن المراجعة ولن يتغيّر الفكر ولا النظر...
° ° °
حصلت في القرن الثامن عشر في أرض العرب حركتان للإصلاح وللتغيير كان لهما شأن وصدى. حصلت الأولى في السعوديّة والثانيّة في مصر. كانت الأولى داخليّة وأدارها محمّد بن عبد الوهّاب، وهو عربيّ من الجزيرة، وكانت الثانيّة خارجيّة وقادها الجنرال نابوليّون وهو غربيّ، من فرنسا.
حلّ الجنرال نابوليّون بمصر سنة 1798 ومعه عتاد ونظام وعسكر. صاحب الحملة مستشرقون وعلماء في اللغة، في الآثار، في التاريخ. رأى المصريّون في حملة نابوليّون ما لم يروه أبدا من قبل. نظروا في عجب في العتاد وفي ما يأتيه العسكر من حرب ومن نظم. تساءلوا. قارنوا. هناك ولا شكّ أسباب عليّة لما كان من اختلاف بينهم وبين الغزاة. حيّرهم ما شاهدوا من قوّة في أمّة الغرب وما كانوا هم فيه من وهن. تساءلت النخبة. انطلقت منذئذ في مصر النهضة. تحرّكت الهمم. اندلع في مصر الإصلاح...
في نحو نصف قرن قبيل حملة نابوليّون، في العربيّة السعوديّة، انتفض محمّد ابن عبد الوهّاب وصحبه. قالوا إن الدين في بلاد الإسلام قد زاغ عن كنهه وأفرغت مقاصده. رأت الجماعة أنّ الزمن أفسد عادات المسلمين وغيّر من سننهم. يجب إصلاح حال الأمّة. يجب العود إلى الدين، إلى صفائه الأوّل. حصلت في أرض المسلمين حروب وفتن. كثر الجدل. تساءل الملوك والأيمّة حول ما أصاب الإيمان والعبادات من زيغ ومن ضلالة... لم تنطل الحيلة. لم يرض الملوك والباي بما أتته الحركة الوهابية. انكسر جناح الحركة. فشلت. لم تغيّر الوهابيّة ما أصاب النفوس من تخلّف ومن وهن. ما كان شأن الحركة الإصلاحية تغيير النفوس أو إعادة النظر في ما عمّ من تخلّف. ما كانت غاية الحركة القطع مع ما انتشر من قيم. كان همّها العود إلى سالف الزمن. هي حركيّة داخليّة لم تدرك ما كان في العصر من نموّ ومن تطوّر. زادت الحركة الوهابيّة المسلمين غلقا وأغرقت الناس في فيافي الزمن. عادت بهم إلى العهد الأوّل. ها هي تدعو إلى تطبيق الشريعة تطبيقا تامّا، شاملا.