وهنِئ المحاور بالا،فلا شكّ أنّ الضيف سيطلق لسانه، وينسرح كلامه، ومنّى النفس بسبْق صحفيّ إكراما له وللقناة،" دارِ ضيافة" الساسة.
كان المحاوِر غاطسا في السواد، من رأسه إلى أخمص قدمه، فحتّى مصدحاه كانا أسودين، شعره أسود، كسوته سوداء أو تكاد، وربطة عنق على لونها، وحذاء أحْدُس أنهّ كذلك، وكان على المحاوِر أن يستقبل ضيفه حافيا تكريما له عملا بتقاليد الضيافة عند العرب، وذاك المعنى الأصليّ للاحتفاء.
محاوِر يلعب في "بيضة كحلة " مع ضيف يلاعبه "زرقا بيضا"، ضعْ مكان السواد الأزرقَ تعرفْ لباس الضيف، لا علم لي بلون حذائه أرجو ألا يكون أسود وإلاّ أفسد عليّ تحليلي. ما شذّ إلاّ مصدحُ الضيف الأسودُ، كان من واجب الضيافة أن يكون أزرق لتكتمل الصورة السيميائيّة معبّرة عن طبيعة الأسئلة وجوهر الأجوبة.
لا مصادح في الأستوديو إلاّ السوداء، ترمز إلى ما تردّى إليه الخطاب السياسيّ من وهن، وتنقل الكلام إلى السواد الأعظم الذي ملّ من هذا الخطاب وإن لاقى عند بعضه هوى. كان الضيف يحرّك يدا واحدة وأمامه مصدح واحد، والمحاوِر يحرّك يدين وقدّامه مصدحان، فكأنّ اليد هي المتكلّمة، فـ"على قدر حديث الأيادي تكون المصادحُ، وتأتي على قدر الوجوه الملامحُ".
كان الضيف يحرّك يده اليمنى في هدوء يناسب سنّه ونبرته، يشكّلها قبضة حينا، يفتحها أخرى في مقابل المحاوِر الذي أطنب في تحريك يديْه ولسانه وشفتيْه وكان يجهد نفسه في إنطاق ضيفه، وحمله على تغيير نبرته دون جدوى.
لا يحرّك الضيف يده اليسرى إلا قليلا، يضعها مقبوضة على فخذه، ونادرا ما يرفعها بتؤدة ليضعها على المكتب، ما هو راغب في تحريكها، ينوي تجميدها نيّته تجميد اليسار (المعارضة) في الحكومة اللاحقة،لا حركة إلاّ ليمناه، يصارع بها يدي المحاوِر، ويشير بها إلى رسمه للخارطةَ السياسية المقبلة، وله فيها مآرب أخرى يعرفها.
وتظهر، خلف الضيف مع هذه الحركة البطيئة في الحوار، صور له ثلاث يبدو هو رابعها، كلّها زرقاء، تتغيّر أحيانا إلى صور من الثورة التونسية في إشارة إلى السياق الثوريّ، وتتلوّن إلى صور من البرلمان تأخذك إلى جلسة يوم 3 جوان 2020 وصياحها ونواحها، فتخال أن اليوم يُعيد نفسه لولا صوت الضيف المتواصل في نبرة رتيبة غير منقطعة، غير متبدّلة.
يكاد المحاوِر يقتلع جسده من مكانه، غيّر الأسئلة، حرّك يديه يمنة فيسرة، فتحهما، قبضهما، عقدهما في بعضهما بعضا، لا تأثير في الضيف، ثابت هو في مكانه لا يأبه به وبحماسه، تتغيّر ملامح المحاوِر على أمل أجوبة لافتة، لكن الأجوبة هي هي.
أخيرا، وضع الضيف في الدقيقة التاسعة عشرة يديه الإثنتين مقبوضتين معقودتين على المكتب، استبشر المحاور خيرا، ظنّ أنه بدأ يتوتّر غير أنّ الضيف إكراما لمضيّفه واحتراما لدارالضيافة ما شاء رفع صوته، وما رغب أن يلمز أو يهمز في الساسة، فحتّى وهو يتحدث عن التنابز بالألقاب كانت نبرته مخالفة للتنابز، فإذا ذُكر تصويت حركة الشعب مع اللائحة اكتفى بالقول بأن "هذا غير طبيعي" في إشارة إلى أنّ العمل السياسيّ ليس بالقول، بل بالفعل الذي لا يظهر في الحوارات.
كلام الضيف متواصل في لغة عربيّة مكسوّة بالعاميّة، لا حركات إعرابيّة لا تناسب المقام، ولا كلمات تحتاج فيها إلى معجم، غير أنّها لغة خلت من منارات الكلام عدا بيتَ شعر ومقطعا من أغنية لطفي بوشناق، فحتّى المجازُ، ما رأينا لافتا فيه إلاّ حديثه في نهاية الحوار عن "الرياح التي تريد أن تضرب الشعلة التونسيّة".
يعود المحاور للسؤال، ما فاده تحريك يديْه وعقد حاجبيْه، صار يضرب بأطراف أصابعه على المكتب نقرات تسمعها ولا إيقاع فيها غير حماسة لا طائل منها، ما سمع إلا المنتظر، في هدوء مستتر، (التوافق ومصلحة تونس...)، فكأنّ الضيف يقول له : " لو خرجت من جلدك ما غيّرت نبرتي ولا خرجت من وتيرتي".
شعر المحاور بانتكاسة، فما نفع أسلوب الإنطاق وحمل الضيف على الغضب والتوتّر، فافتعل ابتسامة بعد مرور أربع وعشرين دقيقة وهو يسأله عن علاقته بالسيد قيس سعيد رئيس الجمهوريّة التونسيّة في نيّة لإثارته، غير أن الإجابة هي هي،(نحن في ديمقراطية ناشئة وتداخل السلط وارد...)، كل بميزان لا خروج عن الطريق، تماما كما ساعته الصفراء في معصمه الأيسر متدلّلة في غنج، متدلدلة تدلدل القيم السياسية الآيلة إلى السقوط.
كان الضيف في بيت القناة، مرتاحا قرير العين، لم ينفعل حتّى أنّه شرب رشفة ماء وحيدة بعد مضيّ إحدى وأربعين دقيقة وقد مضى على الحوار أكثره، كان ذلك عندما سئل عن الذكرى التاسعة والثلاثين لتأسيس حركة النهضة، أخذتْه الرشفةُ بالحنين، كانت مجرّد رشفة شبيهة بارتشاف قهوة سوداء تُستكمل بها لعبة السواد.
وبقدر هدوء الضيف، كانت تظهر شرائط عملاقة، لونها أحمر قانٍ، وجذعها ثابت أسفل الشاشة، وخطّها أبيض غليظ يدوّن كلام الضيف للفت انتباه المتغافل وجلب أنظار غير المكترث في محاولة لتدارك ما فات من النبرة الرتيبة، لون أحمر للإنباء عن الوضع الخطِر الذي تعيشه البلاد، ولاستكمال لعبة "حمرا كحلا" مع سواد الأستوديو تعبيرا عمّا يجري في البلاد.
ليس السواد في هذا الحوار إلاّ تعبيرا عن حاجة البلاد إلى قلب تونس، القلب الأبيض الوحيد المستعدّ بأياديه البيضاء إلى التفاعل مع " القلوب البِيضا ". لقد كان الحوار حميميّا عائليّا في قناة العائلة، حوار انقلبت فيه الأدوار، إذ صار فيه الضيف مضيِّفا، يقترح على مضيِّفه أن يكون ضيفا في حكومته، وأن يحزم حقائب السفر سريعا إلى دار الضيافة.
في نسائم الحــوار
- بقلم المغرب
- 11:27 10/06/2020
- 1218 عدد المشاهدات
بقلم: توفيق العلوي
كلية الآداب والفنون والإنسانيّات بمنوبة
ظهر السيّد راشد الغنوشي، ضيفُ الحوار في قناة نسمة يوم 8 جوان 2020، دون كمامة في إشارة إلى انفراج الوضع،