الكورونا فيروس: ثلُثٌ للعدوى، والباقي لفهم ما يحدث حولنا

ما الذي يمكن أن تقوله لنا الكورونا فيروس؟ ماهي أول الدروس المستخلصة من هذه الحُمّى التي فتكت بالعالم في ظرف وجيز؟

هل تدعونا الكورونا فيروس إلى شكل جديد من التضامنات العالمية؟ أم أنها لا تعدو أن تكون جائحة حلّت بالبشرية كغيرها من الجوائح وسريعا ما يعود البشر إلى نرجسيتهم المفرطة؟ وماذا عرّت هذه الجائحة فينا لتجعلنا وجها لوجه مع تناقضاتنا القاتلة؟ وهل انتقلنا من وباء الكورونا إلى وباء الخوف من الكورونا؟ 

الكورونا فيروس وباء غامض، لا نراه بالعين المجردة وعلاماته متأخرة الظهور والعدوى فيه سريعة وعابرة للجغرافيات. هو وباء يتحرك جيدا في دوائر اللايقين. وهي الدوائر التي تصيب البشرية بما يشبه الهوس وهي التي تفاخر دوما بأن أعتى الظواهر تحت السيطرة. فكل التاريخ البشري هو تاريخ السيطرة على اللايقين مستعينا في ذلك بالعلم وبالدين ومشتقاته إذا استعصى عليه الأمر. إن وباء الكورونا ليس فقط وباء صحيا إنه إلى ذلك مسلك نحو طرح التساؤلات الكبرى التي تؤرقنا.
تنتعش الكورونا فيروس في فضاء اتصالي عابر للحدود، فتعيد بذلك رسم الحدود التي لن تكون هذه المرّة حدودا جغرافية فقط. جاء الوباء ليؤكد محدودية الضوابط الجغرافية وسيادة الدول وإجراءات المطارات والموانئ. يتسلل الوباء دون نظام التاشيرات الصارم ودون التضييقات المفروضة على حركة البشر، إنه يهاجر من مكان إلى آخر ويجعلنا ننتبه إلى أن بعض الجنسيات غير مرغوب في التواصل معها.


تفيد بعض التقارير الدولية أن صراعا محموما يجري الآن بين الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا حول براءة اكتشاف تلقيح مضاد للكورونا فيروس. مُختبر الدواء ألماني ولكن مغريات الدّفع أمريكية، وباقي البشرية تنتظر الفرج. هذا هو الوجه الأول لكل جائحة تصيب البشرية، ثمة دوما مُنقذ، وثمة آلهة للأوبئة تُستدعى لدرء الألم والمخاوف في الثقافات الأسيوية، وثمة معتقدات في أشياء يتخيلها الناس مهربا لهم من العدوى. ولكن توجد مع هذا كله نخبة من العلماء في شركات عالمية للأدوية، الكثير منها يُخضع براءة اختراعه لمتطلبات السوق ليس إلاّ.
الكورونا فيروس ليست عدوى فقط، إنها أيضا ديناميكية جيوسياسية، تُعيد تحديد براديقم الأخرية وتعيد ترتيب الشعوب والدول وعلاقاتها المعقدة وتعيد أيضا رسم الحدود الرمزية بين الثقافات. لقد وضعت الكورونا فيروس المنطقة الأسيوية والصين على وجه الخصوص على لائحة أهم دول مصدر الجوائح والأوبئة، وهي مسألة كلاسيكية، وحتى الفيلم الأمريكي العالمي « عدوى» الذي ظهر في الشاشات في 2011 يتجه إلى تأكيد ذلك. وتتجه معه كل مخيلات أدبيات المؤامرة.
ووُصمت أوروبا كقارة تعيش على الخوف الدائم ولم تمنحها قوتها الاقتصادية المناعة الكافية. وداخل الفضاء الأوروبي نفسه يبقى جنوبه الإيطالي والإسباني العبء التقليدي الثقيل. ويُتّهم الإيطاليون بالاستهتار وبضعف العقلانية لديهم إلى جانب منظومة صحية مهترئة. ويكاد يُنظر للإيطاليين دون سواهم كمسؤولين على انتشار الوباء في الفضاء الأوروبي. وأوروبا نفسها لم تسلم من إهانة أمريكية واضحة عندما قرّر «ترامب» غلق الحدود أمام الوافدين من أوروبا. أما بقية الدول فإنها تحافظ على موقعها مترقبة حلولا من مراكز النفوذ لصناعة الأدوية.
هل يمكن الحديث عن الفوبياكورونا؟ بالتأكيد نعم، فالعالم انتقل إلى رسم مشاعره ووضعها أمام الجميع دون خجل. الرأسمال العاطفي يضاهي الآن أي رأسمال آخر وقد تمّ إخضاعه هو الآخر لأدوات السوق ولرهانات وسائل التواصل الاجتماعي. المخاوف من الوباء كبيرة ليس فقط من عدواه ومن استتباعات ذلك صحيا. هناك خوف ديجيتالي يدفع بهذه المخاوف إلى أقصاها. فالجميع يشارك بأي طريقة في جعل هذا الوباء حاضرا بيننا. لا ننسى أنه مع تجربة المخاوف الديجيتالية التي يعيشها الأفراد أمام حواسيبهم تقفز لنا كل الدعوات الممكنة لمزيد الاستهلاك.
لقد أحيت الكورونا فيروس التفكير في المعنى. في معنى التعايش المشترك في هذا الكون وكيف نحقق التضامن العالمي برغم الاختلافات والرهانات بكل أنواعها. وضعتنا الكورونا فيروس امام علاقة التقنية بالطبيعة وبالإحساس بأننا نتجنى عليها بأقسى ما لدينا من نهم. هذه فرصة الإيكولوجيا كي تظهر للعالم أنها ثقافة جديدة وجديرة بأن تكون إحدى تحدياتنا بالرغم من رفض الدول الكبرى الانخراط في سياسة دولية للمناخ وللطاقة ولتكنولوجيا التحكم الجيني.
قد تعيدنا الكورونا فيروس إلى المعنى، معنى أن تكون إنسانا بكل بساطة، وقد ننجح في القضاء عليها باختراع لقاح جديد بعد أن مللنا إحصاء الضحايا، و لكن من الصعب بعد أن ينقشع رعب الكورونا فيروس أن نتخلص من نرجسيتنا القاتلة....

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115