أثرت في نفسي هذه الرواية تأثيرا كبيرا حتى خلت نفسي في مقام هذا القاضي الصغير والذي يحاول في أصقاع الصعيد المصري تغليب منطق الدولة والقانون الوضعي على منطق العشيرة والقبيلة .حتى ولئن لم افهم المعاني العميقة لهذه الرواية في تلك السن،فقد ملكت عقلي ودفعتني إلى اكتشاف المزيد من روايات ومسرحيات وكل نصوص الكاتب الكبير .
عدت من جديد إلى المكتبة العمومية والتهمت بكل نهم كل الكتابات الموجودة هناك.فقرات «أهل الكهف» و»عصفور من الشرق» و»حمار الحكيم» وبعض الكتب التي دوّن فيها سيرته الذاتية مثل «سجن العمر» و»زهرة العمر» و»رحلة بين عصرين» وما شدني في تلك السنوات الأولى من الشباب لتوفيق الحكيم هو العلاقة المعقدة والملتوية التي ربطته بالسلطة وبصفة خاصة بالرئيس جمال عبد الناصر .فتوفيق الحكيم الليبرالي والذي تشبع بمبادئ هذه المدرسة بعد قضائه لثلاث سنوات في فرنسا حيث ذهب تحت طلب والده للحصول على دكتوراه في الحقوق إلا أنه اهتم خاصة بالفن والمسرح ساند مساندة كبيرة الرئيس جمال عبد الناصر والذي كان معارضا كبيرا للمبادئ الليبرالية ومتمسكا بتدخل الدولة وهيمنتها على جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
إلا أن توفيق الحكيم سيعود إلى مراجعة مواقفه بعد رحيل الرئيس عبد الناصر وقد أصدر كتابا سياسيا عرف انتشارا واهتماما كبيرين سنة 1972 اسمه» عودة الوعي» .وقد انتقد بشدة في هذا الكتاب مواقفه السابقة وبصفة خاصة النظام السياسي الناصري والذي اعتبره الحكيم نظاما استبداديا ومعاديا لليبرالية السياسية وللحريات وقد اعتبر العديد من المثقفين والسياسيين هذا الكتاب بمثابة خيانة الثقة الكبيرة التي تمتع بها الحكيم عند عبد الناصر والصداقة الهامة التي حباه بها .
ولعل أهمية توفيق الحكيم ومعاصرة روايته ومسرحياته لقضايانا اليوم تكمن في هذا الجمع بين الجانب السردي مع التفكير العميق في القضايا الإنسانية والفلسفية الكبرى .وقد خلق هذا الأسلوب تمشيا ومعالجة خاصة عند توفيق الحكيم أطلق عليها بعض النقاد الكتابة الذهنية والمسرح الذهني بالنسبة لمسرحياته والتي تخاطب العقل كما تحاكي الأحاسيس .
ولعل من أهم الروايات للحكيم والتي أخذت هذا المنهج وبقيت إلى يومنا هذا حاضرة في ذاكرتي هي رواية «عودة الروح» والتي انتهى من كتابتها سنة 1927 وهو لم يتجاوزن سن الثلاثين .وتدور أحداث الرواية حول مجموعة من الشباب الذين غادروا دمنهور للالتحاق بالقاهرة لمزاولة دراستهم في القاهرة أو للبحث عن الشغل والهروب من حالة الفقر والإحباط في الأرياف .وستمر الأيام بين روتين الأحداث اليومية ولحظات العشق والهيام لهؤلاء الشباب إلى أن تنفجر ثورة 1919 للمطالبة بعودة سعد زغلول الزعيم الوطني ولتكون عودة الروح لهؤلاء الشباب وللشعب المصري ونقطة انطلاق هامة للحركة الوطنية المناهضة للاستعمار .
تذكرت توفيق الحكيم ورواية «عودة الروح» بمناسبة اليوم الدراسي الذي نظمته منظمة «اقتصاديون من أجل تونس» منذ أيام حول واقع الصناعة التونسية وإمكانية عودة الروح لها بعد سنوات من الأزمة والتراجع .فهل نحن نعيش فعلا اليوم انتعاشة جديدة للصناعة التونسية ستمكنها من استرجاع بريقها وإشعاعها كما كان الشأن في السنوات الماضية .
في أهمية الصناعة في بلادنا
للصناعة تاريخ طويل في بلادنا يعود الى القرن التاسع عشر حيث عرفت ظهور بعض النواتات الأولى لبعض الأنشطة الصناعية بصفة خاصة في ميدان النسيج .
وعرفت هذه النواتات تطورا كبيرا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لتصبح بلادنا من اكبر المصدرين للنسيج لفرنسا من ميناء مرسيليا .وقد انخرط هذا التطور الاقتصادي في الإصلاحات الكبرى التي عرفتها بلادنا في هذه الفترة والتي قامت بها الدولة لتحديث الاقتصاد وتطويره .
إلا أن مشروع بناء الصناعة الوطنية سيعرف تراجعا كبيرا مع هزيمة المشروع الإصلاحي ودخول الاستعمار وستعرف بلادنا مع الاستعمار ظهور اقتصاد تابع ومرتبط بالدورة الاستعمارية يعمل على توفير المواد الأساسية للمؤسسات الصناعية الفرنسية .
وستتواصل هذه الاختيارات التابعة والاستعمارية في الاقتصاد إلى نهاية المرحلة الاستعمارية وإحرازنا على الاستقلال .وستعمل دولة الاستقلال على القطع مع النظام الاقتصادي التابع وبناء اقتصاد وطني يدعم ويشكل القاعدة الأساسية للاستقلال السياسي .
ومنذ تلك الفترة ستلعب الصناعة دورا أساسيا في الديناميكية الاقتصادية في بلادنا وستشكل قاعدة نمط التنمية الجديد الذي ستعمل دولة الاستقلال على بنائه وهيكلته .
وسترتكز الاختيارات الصناعية لدولة الاستقلال على بعض التوجهات الكبرى وأولها تعويض الواردات والاعتماد على الصناعة الداخلية لتلبية الحاجيات الاستهلاكية ومطالب السوق الداخلية.وستدعم هذه الاختيارات الأولية بتوجهات جديدة في بداية السبعينات بتطور صناعات موجهة نحو التصدير ترتكز أساسا على ميزتنا التنافسية في قطاعات الصناعية ذات الكثافة العمالية العالية.كما ستعرف هذه المرحلة تطورا مهما للقطاع الخاص في الميدان الصناعي ليصبح نقطة الارتكاز الثانية لنمط التنمية السائد الى جانب القطاع العمومي .
وستكون هذه الاختيارات التنموية والدور المركزي للقطاع الصناعي وراء النمو الكبير والتحديث الهام الذي سيعرفه اقتصادنا الوطني منذ الستينات إلى نهاية تسعينات القرن الماضي .فالي جانب نسب النمو الكبيرة ستعرف بلادنا تطورا كبيرا لنسق الاستثمار ومستويات التصدير والتشغيل.
ستجعل هذه الاختيارات الاقتصادية الكبرى من القطاع الصناعي قاطرة النمو والقاعدة الأساسية لنمط التنمية الجديد والذي سيساهم في فك ارتباطنا بالاقتصاد الاستعماري وسيلعب دورا مهما في بناء الاقتصاد الوطني ودعم استقلالنا السياسي .
في أزمة صناعتنا الوطنية
لئن ساهمت هذه الاختيارات الكبرى في النمو السريع الذي عرفته بلادنا خلال سنوات طويلة فإنها ستشهد تراجعا كبيرا منذ مدة وسيكون احد الأسباب الأساسية لازمة نمط التنمية فستعرف بلادنا تراجعا في الاستثمار الصناعي منذ بداية الألفية واستقرارا في نسب التشغيل ومستويات النمو والتصدير للأسواق الخارجية .
وتعود أزمة التصنيع في بلادنا إلى عديد الأسباب – السبب الأول هو تراجع ميزتنا التنافسية والتي ارتبطت بتكلفة اليد العاملة الرخيصة.فلم تتمكن بلادنا من المرور إلى ميزة تنافسية جديدة تعتمد على التكنولوجيات الحديثة والبحث العلمي .
كما يمكن لنا كذلك أن نشير إلى التحولات الكبرى التي عرفها القطاع الصناعي مع الثورة التكنولوجية وظهور ما نسميه الصناعة 4.0-وقد بقيت بلادنا بعيدة عن هذه التطورات والتحولات الكبرى ليبقى اقتصادنا مرتبطا بصفة أساسية بالقطاعات الصناعية التقليدية وعاجزا على المواكبة والانخراط في التحولات الكبرى التي عرفتها الصناعة العالمية.
كما يمكن لنا كذلك أن نشير إلى أزمة النظام السياسي التي عرفتها بلادنا مع تطور الاستبداد وخنق الحريات وتلجيم المبادرة الفردية.وكان من نتائج هذه الأزمة السياسية فقدان الثقة في النظام السياسي عند الفاعلين الاقتصاديين مع تنامي المحسوبية والفساد.ولعبت هذه الأزمة السياسية دورا أساسيا في تراجع المبادرة الفردية والاستثمار والمخاطرة في المجالات الصناعية الجديدة.
في شروط عودة الروح للصناعة في بلادنا
لعبت هذه العوامل السياسية والاقتصادية دورا أساسيا في أزمة الصناعة في بلادنا وتراجعها في السنوات الأخيرة .وقد ازدادت هذه الأزمة حدة في سنوات ما بعد الثورة فتراجع الاستثمار في الميدان الصناعي مما نتج عنه تطور كبير في البطالة .ولم تقتصر هذه الأزمة على المظاهر المباشرة بل امتدت كذلك إلى المظاهر الهيكلية حيث عرفت ميزتنا التنافسية تراجعا كبيرا جعلنا نفقد أسواقنا ونتقهقر أمام القوى الصناعية الجديدة والبلدان الصاعدة .
إلا انه وبالرغم من هذه الأزمة الخانقة فقد عرفت بلادنا تطورات مهمة في السنوات الأخيرة تجعلنا لا نفقد الأمل في استعادة مكانتنا في المجال الصناعي .وهنا يمكن الإشارة إلى ظهور بعض القطاعات الصناعية الجديدة في ما سميناه بصناعات الجيل الجديد أو صناعة 4.0 كميدان التكنولوجيات وصناعة الطائرات والصناعة الميكانيكية وغيرها .
أما التطور الثاني والمهم فيخص محاولة بعض القطاعات الصناعية التقليدية كالنسيج الخروج من أزمتها من خلال ضبط برامج ورؤى جديدة ترتكز على الدخول في مجالات القيمة المضافة والتركيز على اختصاصات جديدة في هذه الصناعة تعتمد على التكنولوجيا والخلق والابتكار والإبداع .
والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو معرفة مدى قدرة هذه التطورات على «عودة الروح» في القطاع الصناعي ؟
وفي رأيي - وعلى أهميتها - فإن هذه التطورات غير كافية للخروج من الأزمة العامة التي يعرفها القطاع البنكي وبناء نمط تنمية جديد.
وتتطلب «عودة الروح» للقطاع الصناعي على رأي توفيق الحكيم ثورة جديدة ترتكز على ثلاثة أسس هامة .
الأول هو الخروج من الأزمة السياسية التي تعيشها بلادنا وإعادة بناء الثقة في المستقبل لدفع الاستثمار .المسألة الثانية تهم ضبط إستراتيجية جديدة للتنمية الصناعية وضبط القطاعات الإستراتيجية التي سيتركز عليها نمط التنمية الجديد .والمسألة الثالثة تهم المؤسسات الجديدة التي يجب بعثها لدعم التوجه الجديد للتنمية في بلادنا ولتطوير القطاع الصناعي .
لقد لعب القطاع الصناعي دورا أساسيا في بناء اقتصادنا الوطني وتحديثه.وفي رأيي فإن الخروج من الأزمة الاقتصادية يمر عبر ضبط إستراتيجية جديدة قادرة على إعادة الروح لصناعتنا وجعلها أساسا التحول الاقتصادي الضروري لنجاح الانتقال الديمقراطي .
قهوة الأحد: الصناعة التونسية وإمكانية عودة الروح
- بقلم حكيم بن حمودة
- 10:57 24/02/2020
- 1918 عدد المشاهدات
اعتبر الكاتب المصري الكبير توفيق الحكيم من أقرب الكتّاب إلى نفسي – اكتشفته صغيرا في مكتبة المدينة عندما قرأت رواية «نائب في الأرياف» .