تأتيها العبارة الدارجة، هل ترغبين في التعارف؟ كل يستعملها بطريقته، هناك من يلفها بنكهة من يريد أن يعطي فرصة أكبر لقبول عرضه هذا، وهناك من يقول العبارة بقليل من الدراية بالشروط الأولية لبناء علاقة إنسانية مع امرأة. هل ترغبين في التعارف؟ ليست إلا مدخلا لفهم موقع المرأة في الحيّز العام.
هناك حراك مدني وحضري لطرح مسألة العنف المسلط ضدّ النساء. وهو بالمناسبة حراك عالمي يتوزع بين المزيد من التشريعات والمزيد من التشديد على مرتكبي العنف الموجه على النساء والمزيد من التوعية بالمخاطر المجتمعية عندما يكون نصف المجتمع مهددا. وهذا الحراك على أكثر من مستوى مؤشر إيجابي على ديناميكية مجتمع ما ومؤشر على حيويته في التعامل مع هذا الصنف من القضايا.
لم يكن هذا الصنف من القضايا مطروحا على الأنظار بالكثافة التي هو عليها الآن. علينا الانتباه إلى بروز الحركات الاجتماعية الجديدة التي عوضت منذ سبعينيات القرن الماضي الحركات الاجتماعية الكلاسيكية التي كانت حركات سياسية وعمالية وعلى الأغلب مهتمة بالتناقض بين الرأسمال والعمل. نشأ صنف جديد من الحركات الاجتماعية حول اهتمامات مستجدة كالمناخ والسباق النووي والمرأة والأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة والأقليات بأصنافها العديدة، كلها حركات تكشف عن الصراعات الثقافية التي تكتنف المجتمع وهو ينتج نفسه.
لا يمكن فهم العنف الموجه ضد النساء خارج عملية إنتاج هذا العنف وخارج السياقات المختلفة التي تصنعه وخارج الوعي به كعنف يساهم في تأويله وتبريره النساء كما الرجال. من الأكيد أن هذا العنف حصيلة إرث تاريخي ممتدّ عبر قرون. والحضارة الإنسانية بكل مساوئها الآن جادة فعلا في نضالها من أجل أنسنة العلاقات بين البشر وهي ناجحة في ذلك رغم أن ما تحقق لا يفي بالغرض. أن يدرج التحرش الجنسي كعنف مسلط على النساء، هو في حدّ ذاته تقدم مهم في سبيل حماية المرأة، وأن يقع إدراج العنف الاقتصادي كأحد عناوين مشاق المرأة في حياتها اليومية هو أيضا تقدم ذو قيمة في رفع الأذى عنها.
لا يمكن فهم العنف الموجه ضد النساء دون النظر إلى ما يسميه «بيار بورديو» بالهيمنة الذكورية. وهي علاقة هيمنة رمزية تبنى على البداهة والبديهي. والبديهي هو إنتاج تعرضه البنى الاجتماعية والثقافية المتفقة على أن وضعية المرأة وضعية لها ملامح دونية دون أدنى مسّ أو دون الشك في مقبولية هذه البداهة. وتصبح الهيمنة الذكورية المبنية على بداهة دونية المرأة أمرا مفروغا منه ذهنية وسلوكا في سائر الأيام. وهو ما يجيز التصرف مع النساء على قاعدة هذه البداهة المصنوعة اجتماعيا.
ولكن هذه الهيمنة الذكورية لا يصنعها الرجال دون سواهم، النساء أيضا جزء من هذه الهيمنة وجزء من صناعة البداهة التي بمقتضاها تكون المرأة عرضة للعنف وللإقصاء. وتكمن العملية في تمرير المرأة لهذه البداهة عند التنشئة الاجتماعية وعند تبجيل الذكور على حساب الإناث وعند الدخول في تبرير العنف الذكوري ماديا كان أو رمزيا على الإناث إلى الحدّ الذي يدفع بجزء من النساء إلى الموافقة على هذه الهيمنة ودعمها بل بالتواطؤ لتركيزها.
ولكن الحراك المجتمعي الذي تقوده النساء من أجل إنهاء كل اشكال العنف الموجه ضد المرأة، هذا الحراك نابع من أن جزءا من النساء لم يعد يقبل بهذه البداهة. وهذا في حدّ ذاته أمر مهم للغاية، فتوسيع المجالات التي تكون فيها المرأة عرضة للعنف بكل انواعه وكشفها للعموم والتنديد بها بداية الوعي بخطورة الأمر. التفاوض مع الذكورية يأتي من خلال هذا التنديد الواسع، ويأتي من خلال المزيد من إدماج النساء في الحياة العامة دون ان ننسى التطبيق الفعلي للتشريعات الوطنية والدولية في المجال. ويأتي التفاوض مع الذكورية عبر تدعيم الوعي بالمساواة بين الجنسين في المدارس والجامعات وفضاءات العمل وهو ما يعني تكسير كل آليات تكيف المرأة والرجل مع أنظمة الهيمنة الذكورية الماثلة بيننا.