لحظتها دفعني الفضول لسؤاله عن الأوضاع في رواندا في ذلك الوقت، فوجدت مخاطبي في حالة اندهاش بين رواندا الأمس الغارقة في أنهار من الدماء والأحقاد ورواندا اليوم «سنغافورة افريقيا» بامتياز ! فكيف يمكن التصديق للحظة أن تتجاوز رواندا كوابيس الماضي الرهيبة فى غضون عقدين من الزمن ؟ وكيف تمكنت عاصمتها «كيغالى» Kigali الذي أكّد لي أن مرافقها الأساسية في ذلك الوقت لا تتعدى شارعا رئيسيا وملعب لكرة القدم من الصنف المتوسط ونٌزلا واحدا أن تتحوّل الى أجمل وأذكى العواصم العالمية على الإطلاق وفق التصنيفات الدولية ؟
من بين مفاتيح تفكيك اللغز الرواندي الكبير نجد في المقدمة الرقمنة غير المسقطة، المتماهية مع واقع وطموحات الشعب الرواندي التي اعتمدتها مختلف الحكومات بقيادة الرئيس الحالي «بول كاغامى» Paul kagame المٌتربّع على سٌدة الحكم منذ سنة 2000 فى بلد لا تتجاوز مساحته 26338 كلم مربع بعدد جملي من السكان يناهز 12 مليون نسمة أى بمعدلات كثافة سكانية مرتفعة للكلم المربع الواحد، وبتركيبة ديمغرافية متنوّعة تتوزع على العديد من الاثنيات أهمها أثنية الهوتو Hutu (80 بالمائة من السكان) واثنية «التوتسي» Tutsu(فى حدود 10 بالمائة).
رواندا بلد صغير دون منفذ بحري يتنفس منه، تشقّه تضاريس وعرة تغمرها التلال والهضاب من كل جانب مما حدا بالعديد من الجغرافيين بتسميتها ببلد «1000 هضبة».. نجح في تحقيق الريادة الرقمية قبل غيره من الأفارقة في حين أنّ رائحة الموت لازلت تنبعث من ثنايا غاباته الاستوائية الكثيفة لتكون شاهدة على أبشع حرب إبادة عرقية على الإطلاق عرفها التاريخ البشري الحديث والثانية فى عدد الضحايا (قرابة المليون) بعد المجازر الفظيعة الى ارتكبها نظام «بول بوت» فى كمبوديا فى سنوات السبعينات من القرن الماضي...
فقصّة الرقمنة في رواندا عبارة عن دينامية مجتمعية لا تعرف التوقف، طقس يومي لا يحتمل المزايدة كما هو الشأن عندنا ولا الإسقاطات مهما كان مصدرها.. انطلقت على أرضية كنس مخلفات الأمس القريب المضرجة بالدماء عبر سنّ قانون مصالحة بين ألدّ أعداء الأمس في مرحلة أولى ثم إقرار دستورا جديدا للبلاد (سنة 2003) يٌجرّم الغلو والتفرقة العرقية لا مكان فيه إلا لمفهوم المواطنة ببعدها الرقمي المتطور ِcyber citoyenneté رافقها ثورة تربوية عميقة وشاملة اخترقت الدواخل قبل الحواضر، الأرياف قبل المدن بمقاربات بيداغوجية رقمية متطورة ومستحدثة أٌسوة بالتجارب الفنلندية والأستونية في هذا المجال، فكانت الحصيلة اعتلاء «رواندا» مركز الريادة الرقمية القارية فى المستويات الخمس التالية ونحن لازلنا نغطّ في سبات عميق :
• أولا - إرساء منظومة حكومة الكترونية 2.0 فاعلة انطلق الإعداد لها عمليا سنة 2014.. هدفها رقمنة جميع الخدمات الإدارية فى أفق 2020 لإضفاء مزيد من الشفافية ودعم رصيد الثقة بين المواطن الرواندي وحكومته.. وبعد مضي خمس سنوات من انطلاق التجربة أمسى متاحا اليوم للمواطن الرواندي استخراج وتجديد وثائقه الإدارية عن بٌعد من بطاقة تعريف، وجواز سفر، وعقد زواج ونسخة من السجلّ العدلي وغيرها من الوثائق.
من أجل تحقيق مزيد من النّجاعة واختصارا للوقت، توخّت الحكومة الرواندية مقاربة تشاركية بينها وبين القطاع الخاص PPP)) المٌكوّن من مختلف المؤسّسات الناشئة الرّواندية Les startups Rwandaises ..
فى هذا الصّدد، من الأهمية بمكان التنويه بان التجربة الرواندية فى مجال إرساء حكومة الكترونية أمست مصدر الهام للعديد من الدول الإفريقية منها أوغندا، غانا والبنين...
• ثانيا - تدشين أول «مركز افريقى للتجارة العالمية الالكترونية» e-commerce السنة الماضية بالتعاون مع مجموعة «علي بابا» الصينية العملاقة من شانه «دعم المصدّرين، والمنتجين المحليين والحرفيين من خلال الاستفادة القصوى من الاقتصاد الرقمي والشراكة مع العملاق الصيني علي بابا» حسب تعبير المديرة العامة «لهيئة التنمية الرواندية» Clare Akamanzi ...
• ثالثا - الشروع فى بناء «مدينة عالمية للابتكار والتكنولوجيا» بالعاصمة «كيغالى» على غرار «وادي السيلكون» بالولايات المتحدة الأمريكية بتكلفة تصل الى ملياري دولار على مساحة 700 ألف متر مربع، مموّلة بالشراكة بين الحكومة الرواندية ومنصّة الاستثمار فى البنى التحتية «افريقيا 50» التى أسّسها «بنك التنمية الافريقى» و «من المقرّر أن تستضيف المدينة على أرضها جامعات عالمية وشركات تكنولوجية حيوية...»...
• رابعا - الاستفادة من تكنولوجيا الطائرة دون طيارles drones فى استخدامات عدة منها نقل الأدوية وأكياس الدم وغيرها من المعدات الاستشفائية الخفيفة الى مختلف مراكز الصحة الأساسية والمستشفيات المنتشرة فى كافة ربوع رواندا والمتمركزة فى عدد من المناطق التلّية الوعرة التى يتعذر الوصول إليها بالسيارات او عن طريق السكة الحديدية ...
• خامسا - التمكن من صٌنع أوّل هاتف ذكي على النطاق الافريقي.. بالفعل حققت رواندا فى شهر أكتوبر المنقضي أوّل انجاز رقمي فى تاريخ افريقيا الحديث بإطلاقها لأول هاتف ذكي مائة بالمائة رواندي تحت مسمّى MaraPhone نسبة الى مجموعة مارا « Groupe Mara » على ملك الملياردير الرواندي من أصول أوغندية Ashis Thakkar بتكلفة تناهز 24 مليون دولار وبطاقة إنتاج تبلغ 1200 هاتف ذكي يوميا. فى معرض تعليقه على الانجاز/ الحدث عبّر مالك المجموعة « ان هاتفه الذكي صناعة رواندية خالصة، ستدفع بالاقتصاد الى مستويات أعلى وستوفّر فرص عمل جديدة تٌعدّ بالآلاف».
قد يبدو للبعض ان الحدث لا يحتمل كل هذه الإشادة والتنويه وأن صناعة هاتف جوال ذكي قد لا يغير وجه القارة السمراء إلا ان الحقائق على الأرض تدفع فى الاتجاه المعاكس تماما لهذا الرأي، فإنتاج 1200 هاتف ذكي يوميا أي بمعدل 432000 ألف هاتف في السنة ليس بالأمر الهين باعتبار أنه يتطلب مهارات تقنية عالية ونظم إنتاج وتسويق متطورة داخل سوق افريقية واعدة تتسع لأكثر من مليار 300 ألف نسمة وتٌسجل فيها أعلى معدلات النمو الاقتصادي فى العالم .
للتذكير فقط، عند توليه السلطة سنة 2000 أطلق الرئيس الحالي «بول كاغامى» قولة شهيرة قد تختزل النجاح الرواندي فى تحويل فضائع الماضي القريب الى طاقة إبداعية عظيمة: «لم نأت لأجل الانتقام فلدينا وطن نبنيه، وبينما نمسح دموعنا بيد سنبني باليد الأخرى، وذلك ليس لأن من قتلوا يستحقون الغفران لكن لأن الأجيال الجديدة تستحق العيش بسلام»...
لتكن الملحمة الرواندية حاضرة بقوة فى أذهان ووجدان طبقتنا السياسية الغارقة الى اليوم فى أوحال الماضي.. تتبادل السباب فيما بينها حول وهم صخرة «سقراط» اللعينة !