إستأثر هذا الموضوع بأكبر قدر من الجدل الذي أثاره مشروع القانون داخل مجلس نواب الشعب وخارجه .
والمتحمسون للصيرفة الإسلامية يعرّفونها على أنها المعاملات المالية القائمة على المبادئ التالية:
ـ تحريم الربا (الفائدة) فى المعاملات المالية، رغم إفتاء أقلية من علماء الدين (د. محمد سيد طنطاوي) بجواز أخذ المسلم فائدة عن المبالغ التي يودعها في البنوك التقليدية وكذلك الإقتراض من البنك لغرض إقامة المشاريع أو شراء العقارات.
ـ عدم الإستثمار في مجالات الأنشطة المحرمة مثل تجارة الخمور أو لحوم الخنزير.
ـ إجتناب عقود الغرر والمقامرة .
ـ توجيه التمويل إلى الأنشطة الاقتصاديةالحقيقية .
ـ تحقيق التكافل الاجتماعي عن طريق جمع أموال الزكاة.
وقد طال النقد التسمية في حد ذاتها. فهناك من يرى أن لهذه التسمية بعدا إديولوجيا واضحا معتبرا ان القول بوجود صيرفة إسلامية يفترض في المقابل التسليم بأن الصيرفة التقليدية هي صيرفة خارجة على الإسلام أو كافرة أو صيرفة حراما. لذلك دعا البعض إلى الإستعاضة عن التسمية التي اعتمدهاالمشروع بتسمية أقل حسما هي الصيرفة التشاركية .
ودون خوض في تفاصيل المعاملات والأدوات التي يتضمنها نظام الصيرفة الإسلامية، وبعيدا عن حدة الجدل الإيديولوجي بين مرحب ورافض، سنكتفي بالتنبيه إلى جانب من الصعوبات والمخاوف التي يمكن أن تواجه الاعتراف بموقع ما للصيرفة الإسلامية داخل نظامنا المالي أملا في نجاح القانون المنتظر في تجاوزها.
فالسؤال المطروح هو هل بإمكان نظام الصيرفة الإسلامية أو التشاركية كما يفضل البعض تسميتها، الذي جاء به مشروع القانون أن يساهم فعلا في إخراج بلادنا من أزمتها دون الإنزلاق إلى توظيفه سياسيا، ودون أن يتصادم مع بعض المكتسبات الحداثية لدولة الاستقلال؟
إن المتأمل في مشروع القانون يتبين أن النظام المقترح لم يتجاوز النقائص التي يحملها نظام الصيرفة الاسلامية في ذاته وأن إندماجه في المنظومة القانونية القائمة تواجهه عديد الصعوبات .
1 ـ في نقائص نظام الصيرفة الإسلامية :
مهما قيل في امتداح نظام الصيرفة الإسلامية وتزيين محاسنه، فإنه يبقى مع ذلك إطارا لتحقيق معاملات ربحية. وإذا كان من الطبيعي أن يبقى دافع البنوك ربحيا ، فإن الربح السريع لا يتوافق مع الصورة التي يروج لها المتحمسون للبنوك الإسلامية. خاصة وان من ابرز الانتقادات الموجهة اليها تؤكد عدم اعتنائها بتطوير قاعدة اقتصادية أو بتنمية الصناعة أو الزراعة في اي بلد من البلدان الإسلامية، وان تركيزها ينصبّ على الإستثمارفي قطاع الخدمات مع تجنب الاستثمارات طويلة المدى.
وإذا تركنا جانبا ارتباط قدرة نظام الصيرفة الإسلامية على تجميع الودائع بالاعتبارات الدينية ، وتعويلها على المدخرين الذين يرفضون لأسباب دينية الحصول على فوائض على ودائعهم، فإن عديد الانتقادات الأخرى الموجهة إلى هذا النظام لا يبدو ان المبرر يعوزها. فغياب سوق مالية إسلامية واسعة تحد من فرص توسعه ونموه.
كما أن هذا النظام يشكو من ضعف الموارد البشرية المتخصصة في إدارة صيغ التمويل الإسلامي ومراقبتها وتحديد مطابقتها للمعايير الخاصة بها ، وهو أمر يمكن مع الوقت أن يؤدي إلى إضعاف ثقة الحرفاء فيه . ولا نرى أن الحكومة أرفقت مشروعها بتصور واضح لتلافي هذا النقص.
ولعل أبرز ما يعيق التعامل حسب مبادئ الصيرفة الإسلامية هو صعوبة توحيد الرأي بخصوص مسألة مطابقة نشاط البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية للمعايير الشرعية .
فالإشكال يكمن في أن الشريعة ليست نصا موحدا. بل هي قواعد وليدة اجتهادات وتأويلات تختلف باختلاف المذاهب وأحيانا باختلاف الآراء داخل المذهب الواحد . كما أن المجهود المبذول على المستوى الدولي في تركيز هيئات إسلامية توحد الفتاوى بخصوص صيغ المعاملات الإسلامية، مثل هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية (AAOIFI:البحرين)أو مجلس الخدمات المالية الإسلامية (IFSB : ماليزيا)، فشل في ذلك. وقد بلغ الإختلاف أشدّه بين الهيئتين عندما أصدرت الهيئة الخليجية سنة 2007 فتوى بخروج بعض الصكوك عن المعايير الشرعية بعد أن أفتت الهيئة الماليزية بشرعيتها . وانضم أحد المختصين في نظام الصيرفة الإسلامية (عبد العظيم أبو زيد) إلى الجدل الدائر ليتساءل مستنكرا عن: مدى شرعية تطبيقات المصارف الإسلامية الماليزية لبنوك الدين؟
ولا يتضمن مشروع القانون إجابات واضحة عن كل هذه المسائل. وهو نقص لا يساعد على إندماج البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية داخل النسيج المالي ولا على حسن توظيفها توظيفا ناجعا في النهوض بالإقتصاد.
على أن صعوبات إندماجها لا تقف عند هذا الحدّ .
2 ـ في صعوبة اندماج نظام الصيرفة الإسلامية:
تعود هذه الصعوبة إلى أمرين :
- أولا :الخشية من التوظيف السياسي .
- ثانيا :عدم التوافق مع المنظومة القانونية النافذة .
الخشية من التوظيف السياسي:
عادة ما يحتج المتحمسون لاعتماد نظام الصيرفة الإسلامية بالرواج الذي يلقاه هذا النظام في الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية. لكن المقارنة لا تبدو جائزة .
في مقابل ذلك لا تزال ذاكرتنا تحتفظ بالجدل الذي عرفه المجلس التأسيسي عند كتابة الدستور. والذي قد تمحور حول مواضيع الهوية والشريعة الإسلامية مصدرا للتشريع. وحسم هذا الجدل وقتها لفائدة مدنية الدولة القائمة على المواطنة وإرادة الشعب وعلوية القانون، والإقرار بأن الشعب هو صاحب السيادة ومصدر السلطات يمارسها بواسطة ممثليه المنتخبين أو عبر الإستفتاء، وأنه هو من يمارس السلطة التشريعية عبر ممثليه بمجلس نواب الشعب(الفصول 02 و03 و50 من الدستور).
ورغم تجاوز البلاد لتلك المرحلة، فإن البعض ما زال يخشى أن لا يكون الداعون وقتها إلى «أسلمة» الدولة، أو«أخونتها» في تقدير آخرين، قد تخلوا عن تلك الأهداف الأصلية، وان الصيرفة الإسلامية في الواقع تمثل نافذتهم للعودة إلى تحقيق نفس الأهداف عن طريق المال بعد فشلهم في إدراكها عن طريق الدستور والدعاة.
وليس غريبا أن تقوم بعض البنوك الإسلامية بتمويل الحملات الإنتخابية لمرشحين معينين وأن تساهم في بناء مدارس أو محلات تجارية تعتمد نظام الفصل بين الجنسين أو لتشجيع بعض المناهج التعليمية على حساب أخرى...
هل تحسّب مشروع القانون لمثل هذه الإنزلاقات؟ لا يبدو ذلك...!
فالمشروع الحكومي تضمن توجها نحو إقرار التخصص في ممارسة عمليات الصيرفة الإسلامية، قبل أن يتراجع عن ذلك تحت تأثير المعارضة القوية للنواب والمجتمع المدني وقد كان من شان التوجه الإعتباطي للحكومة أن يهدد بإفقاد البنوك التقليدية جانبا من حرفائها وودائعها ويمكن أن يتسبب في إفلاسها وفي إرهاق ميزانية الدولة متى هبّت إلى دعمها. لذلك وجب التفكير في إعتماد نظام النوافذ حتى تجري المعاملات البنكية في إطار المنافسة المشروعة .وليكن للحريف حرية الإختيار.
من ناحية أخرى وجب أن يتضمن القانون أحكاما يتحقق معها التوازن بين المرابحة والمشاركة في تعاملات البنوك. فعديدون هم من يؤكدون أن الأرقام تفيد بأن نسبة التمويل التشاركي من مجمل معاملات البنوك ضعيفة ولا تتجاوز2بالمائة.
عدم التلاؤم مع المنظومة القانونية النافذة :
إن تونس حالة فريدة متفرّدة...!
كيف لا تكون متفردة ، وعلى هذه الرقعة من الأرض كتب منذ حوالي ثلاثة آلاف عام دستور قرطاج الذي نوه به أرسطو وأشاد بالنظام السياسي الذي أقره؟
كيف لا تكون متفردة ، وتونس هي من أصدرت عهد الأمان منذ 1857، وأعقبته بدستور 1861؟
كيف لا تكون متفرّدة، وقد أنجبت زعيما يدعى الحبيب بورقيبة؟
ولم تتوقف تونس عن البحث عن التفرّد. فلم تكد تمر أيام على إعلان الإستقلال حتى بادر جيل التحرير إلى إصدار النصوص تباعا لتوحيد القضاء وتوحيد التشريع بالغاء الفروق بين المتعاقدين على اساس اختلاف الأديان.
كيف لتونس الحديثة التي إستأثرت فيها الدولة بوظيفة التقنين منذ قرن وعشرات السنين أن تقبل اليوم بشريك يقوم بإصدار معاييره الخاصة على أرضها؟
ومن يضمن أن لا تكون المعايير الخاصة مقدمات لمحاكم خاصة؟ محاكم موازية للمحاكم التي أنشاتها وألغت غيرها...! وإذا بقيت المحاكم على حالها ،فما هي التشاريع الذي ستطبقها .. التشاريع البشرية أم المعايير الشرعية؟
ذلك ما كان على مشروع الحكومة أن يتحسّب له. ذلك ما يجب على القانون أن يحسمه ويجيب عنه.
ثم أن أصحاب المعايير لن يقنعوا بأنصاف الحلول ولن يكتفوا بالفتوحات الأولى. سيطالبون بالتأكيد بتنازلات أخرى. فهذا أحد خبراء الإقتصاد الإسلامي (د. مدحت القريشي) يعلن صراحة أن الصيرفة الإسلامية لن يكتمل نموها إلا إذا مكّنها إطارها القانوني من محاكمها المصرفية الخاصة وجرت تعديلات على القوانين النافذة لتسوية الأرضية للمصارف الإسلامية.
لأجل كل ما تقدم، نحن لا نرفض الصيرفة الإسلامية. لكننا نريد أن يراعي القانون المنظم للمصارف والمؤسسات التي تمارسها مصالح غيرها من المؤسسات والمصارف وحرية الحريف في إختيار مصرفه في كنف المنافسة المشروعة. كما عليه أن يحمي المجتمع والمؤسسات من التوظيف السياسي للنظام الوافد ويحفظ إختياراتنا ومكاسبنا الحداثية من التلاشي. ذلك كل ما نريده...!