في كنف الاحترام لحرمة الموت ولحرمة الميّت حتي بدي ونحن في حضرة الموت أننا كلنا جمهوريون , نختلف , نتصارع , لكن لا خيمة لنا غير جمهوريتنا الجديدة . فهل حقا كلنا جمهوريون خارج أيام الحداد ؟ أم أننا نحتاج دوما لقدر من الحزن حتي نحافظ علي حيائنا الجمهوري ؟
تتحذ الموت عديد المرّات دلالة مختلفة عن الغياب وعن الرحيل لتصبح حادثة الموت طيّة تراكم فوق طية سابقة لما يجري داخل الوعي و الإحساس الفردي والمشترك من سيلان لمعني ما من معاني التاريخ و لتستقبل طية أخري ولو بعد حين , قبل الجمهورية بكا التونسيون حينها باي الشعب لأنه لم يكن ككل البايات هو المنصف باي فالوطنية قيمة حين تسكن شغاف القلب حتي وان كان قلب ملك فانه يعانق شعبه حيا وميتا ولقد سمّي العديد من التونسيين مواليدهم الذكور في تلك الفترة باسم المنصف ليشترك الباي وعامة الناس في الإسم والمسمّي لا أحد يحتكر لنفسه حب الوطن والإخلاص له فهذا الأمر لا علاقة له بالتراتبية الاجتماعية وهرم الطبقات
, قبل الجمهورية بكا شعبنا زعيما نقابيا أحبّ الشّعب وأخلص اليه بحدس فريد , اغتاله رصاص الاستعمار قبل اعلان الجمهورية فخلد حشاد وعاشت في أرحام الجمهورية صرخة الشهيد ختي غيرت من طبيعتها يوم 14 جانفي 2011 . بكينا بورقيبة الرئيس الأول للجمهورية منذ عقدين بعد أن عاش ما يربو العقد الأخير من العمر اسير حاكم لدولة بلا قانون وكتمنا حرمان متابعة جنازته بكينا الشعراء والشهداء ورفاق ورفيقات الدرب و من ماتوا كمدا أومن قظوا و هم وهن يلاحقن رغيف العيش . كل نفس ذائقة الموت لا جدال كلنا امام حقيقة الموت سواسية و مع ذلك ففي كل نفس باقية علي قيد الحياة أثر مختلف للموت لا تنميط للموت.
لكن « نحن » لم نتعود علي موت الرؤساء وهم يرؤسون ولم نعرف ماذا يجب علينا ان نفعل حين يموتون ؟ ثم هل علينا ان نتطابق في كل التفاصيل ونحن نراهم مسجين علي الأرض دون تلك الهالة القديمة ؟ , لا يختزل الامر هنا في رباطة الجأش وفي اظهار برود العقل أو في طبيعة الموقف السياسي والحزبي من الرئيس ومن نجاحاته واخفاقاته , موت الرئيس هذه المرة حدث لم يحصل أمامنا بما لنا من عقل وسمع وأبصار وأفئدة قبل اليوم . نحن عشنا هذا الشّكل الجديد من الموت في شوراعنا ومقاهينا و مجالسنا الخاصة والعامة ومع أطفالنا و عبر صحافتنا واعلامنا ما يحصل للوهلة الاولي هو دوما حدث مختلف
حين كان الميّت هذه المرة رئيسا للجمهورية دخل قصر قرطاج منتخبا ورحل يوم عيد الجمهورية قبل نهاية عهدته بأسابيع تذهب الموت بعيدا في معني الخلود هو خلود من مات وخلود تاريخ الموت وخلود كل ما جري وتسرّب و انتشر وترسّب حتي يتغير وجه الجمهورية جوهرها الديمقراطي كامن فيها . لا علاقة لهذا بالاتفاق السياسي أو بعدمه مع الّراحل . موت الرئيس الباجي قائد السبسي المنتخب بشرعية الاقتراع الحر والمباشر اختبار لقوة آصرة المشترك المدنية والجمهورية لا الدموية والطبقية والعقائدية والفئوية في غياب الشخص
مرة أخري تأخذنا الموت نحو منعطف حاد للتاريخ بعد ان كان الميّت منذ ستة سنوات وفي نفس الذكري نائبا للشعب منتخبا حوّله الاغتيال الي شهيدا للجمهورية في ذكراها . باغتيال النائب المنتخب ورحيل الرئيس المنتخب تتوغل فينا الجمهورية أكثر وسيعسر فصلنا عنها , احتاجت هذه الجمهورية في عيدها الثالث بعد الثورة أكثر من شهيد حتي لا تتهاوي زمن الخيانات القريبة ثم صار لها اليوم رئيسا منتخبا فارقها في عيدها الأول من عمرها الثاني . عسير ومتعرج تاريخ هذه الجمهورية وهي اليوم تواصل المشي لا علي رأسها بل علي قدميها قد تبطأ وقد تعرج ولكنها تمضي الي حيث تريد .
توّغلت فينا الجمهورية رويدا رويدا منذ كنا تلاميذ في مدرستها وقاومنا نزعتها الابوية ومشينا معها وضدها نغالبها وتغالبنا توغلت فينا الجمهورية منذ سنوات الثورة دفعة واحدة وهي تزيد مرة أخري التّوغل بعيدا حين غيب الموت رئيسها و استقامت هي واقفة بمؤسساتها لا حاجة لها لضابط عسكري ولا لامام ولا لشيخ قبيلة ينزع عنها روحها المدنية الأبية والساحرة التي توّحدنا . جميلة هكذا هذه الجمهورية ومن حيلة العقل ان ننتبه لجمالها في لحظة حزن يرافق الموت .
ما رأيناه بأعيننا من قوات مسلحة تشيع قائدها الاعلي الي مثواه الأخير بعد عزف نشيد الموت علامة رمزية علي قوة عقيدته الجمهورية بل هو ضمان ما أودعه التاريخ في الجمهورية من مدنية سلاحه في خدمتها لا ضدها لا غريزة انقلابية تسكنه البتّة
فضل الثورة علي الدولة كبير حين تقتحمها وتجرّها الي ترتيب أمرها وتهذيب أدائها فضل الثورة علي الدولة جلي فهي لا تستهدفها بل تؤنسنها وتؤنسن رموزها وتنزع عنهم هالة القداسة لا تتوقف الدولة بعد الثورة علي أحد وهي كذلك لا تقصي أحد ليست الجمهورية بعد الثورة كما كانت قبلها , من وجه آخر حاجة الثورة للدوّلة تاريخية حين ترسم لها مسارا و افقا للممكن فتجعلها ثورة سياسية و اقتصادية واجتماعية و ثقافية لا تسكن فقط عالم الأفكار والنوايا فتبين لها شروط تحققها التاريخي ومراحل صراعها ضد خصومها وأعدائها
الآن وقد جربنا خوض معركة التحرر الوطني و التمرد علي الجمهورية الابوية والثورة علي الاستبداد و سلطة الاوليغارشيات الفاسدة وجربنا الانتخاب و الصخب البرلماني وجربنا اغتيال المنافسين السياسيين ها نحن نخوض تجربة موت الحاكم و ديمومة الحكم في ذات الحين . لقد رأينا بأم أعيننا كيف يرحل الرئيس وتبقي الدولة و دون ان تتحرك في داخلنا نزعات فك الارتباط بالجمهورية ولا نزعات الخلط بين ما يفرقنا وما يجمعنا فهل أن موت الرئيس و جنازته يكفيان للقول باننا قد غيرنا من أنفسنا ؟ وأن ايتيقا المشترك قد حلت فينا بلا رجعة ؟
لا إجابة امية لهذا السؤال نحن لا نزال نمشي ولا نزال نقطع المسافات التي لا نختارها فقط بأنفسنا بل نوضع في سياقها ونسقها لنتعلم أن وعي الحرية ووعي المواطنة وعي الديمقراطية ووعي العدالة وعي خصب يحتاج ان ينمو ويرسخ ويتوسع أثره بالتجربة والمراس والخطا والتصحيح . انفصام ذواتنا البرانية والجوانية ما انفك يكتشف تدريجيا مقام المشترك القيمي والروحي لنا كشعب هو مشترك روحي غير مسّلط علي الحياة لا آسرا لها لا معطّلا لطاقاتها بل هو ارتقاء بشري عسير بالوعي الذاتي نحو ما هو مشترك .
لا نبالغ إذن حين نقول اليوم بأن الثورة سرّعت نسق تشكّل ملامح الوجه الغالب لتاريخية الروح '' الايتوس '' التونسية نحو تجاوزعطالة السياسة الإسلامية الماضوية والمستحيلة للشان العام و تجاوز عطالة اشتراط قيام ديمقراطية بلا متدينين لا تستقيم الا للائكين وحدهم .
مع ذلك ستستمر كل مظاهر اللاّتخلق والانانية و الدغمائية التي سبقت مراسم الدفن والعزاء وهي تستمر بلعنة خزي تلاحق أصحابها لأن ما نرنو اليه من بناء للدولة الديمقراطية العادلة كمقام سياسي ملتئم ايتقيا وفق عناصر غير قابلة للطعن هو مهمة تاريخية لا حق لنا في التخلي عنها
شرط هذا المقام المشترك هو العيش معا بسلام وقبول التعدد و سيبقي من حقنا أن نخوض ضمنه صراعنا من أجل العدالة و العيش الكريم لكلّ التونسيين فلا خير في جمهورية لا تعمل علي العدل بين مواطنيها و لا تمنع كل ضروب الاحتقار التي قد تلحقهم
نحن بحدث الثورة رفعنا علنا مطلب الحرية ثم تبين لنا أنه لا يتحقق الا في المجري الموضوعي للتاريخ وفي هذا المجري لا مفر لنا من جعل المؤسسات والفضاء العام لا يكتفيان بتبادل الآراء و الكلام بل منازلة القيم وصوغ المشترك ولا مفر لنا أيضا من مواجهة كل استعباد سياسي باسم الدين حتي تصبح فكرة الدولة الدينية غير أخلاقية و من مقاومة كل استعباد واستبعاد للفقراء و المعدمين باسم قوانين السوق حتي يصبح المشترك المعيش مطلبا أخلاقيا .
شرعت الجمهورية في البحث عن رئيسها القادم لن نعرفه قبل تسعين يوما لأن الشعب وحده سيكون صاحب القرار. صخب الترشحات والتطلعات المشروعة والمجنونة و جدل التوافق و التنافي والتنافس بدأ يخيم علي الفضاء . فكيف لنا أن نكون جمهوريين في الأيام القادمة ؟ حتي نكون صادقين حين نقول رحم الله الرئيس عاشت الجمهورية .