على الأغاني التي كتبها ولحنها لأمه الفنانة الكبيرة فيروز مثل «ع هدير البوسطة» والتي ساهمت في إعادة إحياء مشروع الرحابنة بعد رحيل عاصي ومنصور فإن زياد يلعب دورا يرتقي إلى الأيقونة في لبنان.فقد ساهم منذ سنوات الحرب الأهلية بأغانيه وتعاليقه الساخرة في النقد اللاذع للنظام الطائفي اللبناني وفي الدفاع عن المشروع الديمقراطي والدولة المدنية في لبنان .
عرفت الفنان الرحباني في بداية ثمانينات القرن الماضي .وساهمت إلى جانب الطلبة اللبنانيين والعرب في تنظيم بعض حفلاته في فرنسا .وكانت حفلات شيقة وممتعة ساهمت في التعريف بنضالات الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية ضد العدو الإسرائيلي والقوى اليمينية والانعزالية الحليفة له .وقد شدتنا في هذه الحفلات وفي النقاشات مع زياد رحباني شخصيته الساخرة والحميمية ومقدرته الفنية وجمال وحساسية أغانيه وأشعاره الموغلة في آمال وأحلام الطبقات الشعبية .
وقد حفظنا ورددنا العديد من أغنيه وتلاحينه .ولعل من الأغاني التي بقيت في الذاكرة هي أغنية «أنا مش كافر» وتقول هذه الأغنية :
«أنا مش كافر بس المرض كافر
أنا مش كافر بس الجوع كافر
أنا مش كافر بس الفقر والذل كافر أنا مش كافر
لكن شو بعملك إذا اجتمعوا فيّ
كل الأشياء الكافرين
يللي بيصلي الأحد وبيصلي الجمعة
هو يللي دين قال وأنا يللي كافر عال
راجعو الكتب السماوية
راجعوا كلام القادر»
تذكرت هذه الأغنية وسخرية زياد رحباني وهو يمر بمهرجان الحمامات وأنا أطالع التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة منذ أيام حول الجوع في العالم .وقد شكلت هذه التقارير صيحة فزع كبيرة حول تطور الجوع وسوء التغذية في العالم بالرغم من السياسات والالتزامات التي أخذتها كل دول العالم من اجل وضع حد لهذه الظاهرة والقضاء عليها .
ويشير التقرير إلى أن عدد الذين يعانون من الجوع وسوء التغذية في العالم قد شهد نموا وتطورا مفزعا في سنة 2018. وقد جاء هذا التطور بعد سنوات من التراجع في مستويات الجوع في العالم . إلا أن سنة 2018 عرفت انعكاسا لهذا التوجه حيث بدأت مستويات الجوع وسوء التغذية في التطور والنمو ليتواصل هذا التيار إلى يومنا هذا .
وحسب تقرير الأمم المتحدة فقد بلغ عدد الأشخاص الذين يعانون من الفقر في العالم حوالي 821.6 مليون شخص سنة 2018 اي بزيادة أكثر من عشرة ملايين شخص مقارنة بسنة 2017. وسيكون هذا الرقم أكثر إزعاجا إذا أضفنا له الأشخاص الذين يعانون من غياب الأمن الغذائي ليصل إلى قرابة ملياري شخص .
كما يعطينا كذلك التقرير فكرة عن التوزيع الجغرافي لهذه الظاهرة المقلقة والخطيرة لتأتي إفريقيا في المقدمة بنسبة %20 من مجمل السكان .
ثم تأتي القارة الأسيوية بـ%12 ثم أمريكا اللاتينية والكاراييب بـ%8.
أما البلدان التي تعاني الأكثر من المجاعة في العالم فهي حسب التقرير اليمن،الكنغو الديمقراطية ،أفغانستان،أثيوبيا،جنوب السودان وشمال نيجيريا.
ولا تقتصر هذه الظاهرة ورجوع الجوع على البلدان الفقيرة او النامية بل سجلت كذلك حضروها في البلدان المتقدمة في أوروبا وأمريكيا الشمالية .
فمع تطور الأزمات الاقتصادية والاجتماعية عرفت البلدان المتقدمة رجوع ظاهرة الجوع وسوء التغذية عند الفئات المهمشة والفقيرة. وقد شهدنا في عديد البلدان تطور المؤسسات والمنظمات التي تساند وتساعد هذه الفئات على الحصول على لقمة العيش والهروب من محنة الجوع مثل جمعية «les restau du coeur» أو «مطاعم القلب» في فرنسا والتي كونها الفنان الكوميدي الساخر Coluche والتي واصلت عملها حتى بعد مماته لتوزع بفضل دعم الراعين ملايين الوجبات والمواد الغذائية كل سنة .
وفي رأيي فإن الجانب الأكثر فضاعة في رجوع هذه الظاهرة يخص انعكاساتها على الاطفال فيشير التقرير إلى أن عدد الأطفال الذين يعانون من الجوع وسوء التغذية في العالم قد بلغ سنة 2018 حوالي 149 مليون طفل.
هذه بعض الأرقام التي تشير الى التدهور الكبير الذي عرفته وضعية التغذية في العالم والذي كان وراء تنامي الجوع .ويؤكد التقرير الأممي إلى أن هدف نهاية الجوع وسوء التغذية سنة 2030 الذي ضبطه التوافق العالمي للتنمية سيكون بعيد المنال على ضوء هذه التطورات في مستويات الجوع في العالم .
وقد تعرض التقرير الاممي لأسباب هذا التدهور في وضعية التغذية في العالم حيث أكد على الحروب والصراعات وعدم الاستقرار السياسي والكوارث المناخية التي لعبت دورا كبيرا وأساسيا في تراجع الأمن الغذائي .
وللخروج من هذه الأوضاع فإن المنظمة الأممية تدعو إلى التكثيف من المساعدات الغذائية للوقوف إلى جانب الأشخاص الذين يعانون من الجوع .
وعلى أهمية هذا التقرير وأهمية الأرقام التي يشير إليها والتي تؤكد على التردي المفزع لوضعية التغذية في العالم فإننا نختلف معه في نقطتين مهمتين .الأولى تخص أسباب تراجع التغذية ولئن نتفق مع التقرير في أن الحروب والكوارث الطبيعية وعدم الاستقرار السياسي ساهمت في هذا التردي فانه مر مرور الكرام على مسائل أساسية وهيكلية وهي قضية السياسات الفلاحية والاختيارات الكبرى التي قادتها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية .
فقد غلبت السياسات واللوبيات التابعة للمدن التي صاغت اختيارات جعلت الفلاحة خاضعة وتابعة لتطور المدن .فتم ضبط وتحديد اسعار المواد الفلاحية في مستويات متدنية. كما تم تقليص الاستثمارات الموجهة للمناطق الفلاحية والريفية .
وكانت هذه السياسات وراء تهميش القطاع الفلاحي وساهمت في ظهور ما نسميه التطور اللامتكافئ بين الريف والمدينة لتصبح أزمة القطاع الفلاحي والتغذية مسائل هيكيلة مرتبطة بالاختيارات الكبرى لأغلب البلدان .
كما نختلف مع هذا التقرير في الحلول والاقتراحات التي قدمها لإيقاف هذا النزيف ولحماية شعوب العالم من شبح المجاعة وغول الأزمات الغذائية .ولئن لا ننفي دور المساعدات الغذائية في دحر شبح المجاعات فانها في رأينا تبقى حلولا ظرفية ولابد من التأكيد على الحلول الهيكلية والتي تتطلب جرأة كبيرة في تغير نمط التنمية والرؤيا الدونية والتابعة للقطاع الفلاحي والتي ساهمت في تهمشيه وتراجعه على مدى عقود طويلة .
إن التقرير الأممي حول المجاعة في العالم قدم لنا أرقاما مفزعة وخطيرة حول تطور سوء التغذية. وهذه التطورات تتطلب سياسات جديدة تعطي للفلاحة حقها وتساعد في خلق نمو متوزان بين القطاعات الاقتصادية والجهات .
ولو فشلنا في القطع مع السياسات السابقة وبناء سياسات جديدة فإن الجوع سيبقى الخطر المحدق بالإنسانية وبكرامة الإنسان وستبقى كلمات « انأ مش كافر» للفنان زياد رحباني تصاحبنا إلى الأبد خاصة عندما يصدح :
«انا مش كافر بس البلد كافر
« أنا مقبور ببيتي ومش قادر هاجر
وعم تاكل لي اللقمة بتمي
وأكلك قدامك يا عمي
وإذا بكفر بتقل لي كافر
معمم عالدول الغربية ومبلغ كل المخافر».
قهوة الأحد: الجوع كافر !
- بقلم حكيم بن حمودة
- 10:28 05/08/2019
- 1430 عدد المشاهدات
يعتبر الفنان زياد رحباني ظاهرة فنية وثقافية وإبداعية وحتى سياسية في لبنان.فلئن اقتصر إشعاعه في بقية البلدان العربية