فكيف اذا أن نتطلّع الى تقديم طرح مختلف عن السائد قد يكون صادمh للبعض حول مبحث مفخّخ تتحوّطه من كل جانب تضاريس وعرة من المسلّمات والمعتقدات النهائية !
أ - ما نعرفه عن "الدارك نات" !
وفق التعريفات المتداولة بمختلف وسائط الميديا يُنظر الى "الدارك نات" كجزء مظلم ومخيف من الواب العميق Deep web، تُمارس فيه جميع أشكال الجريمة المنظمة من تجارة مخدرات وأسلحة وبطاقات بنكية مقرصنة وأطفال ضحايا شبكات البيدوفيليا وصولا الى استئجار القتلة للقيام بعمليات تصفية واغتيال قذرة الخ .
من الصّدف أن "الدارك نات" كان مؤخرا موضوع حلقة لأحد البرامج التلفزية الشهيرة فى بلادنا حيث تم التسويق له على طريقة أفلام هيتشكوك المرعبة.. للغرض نستعرض بعض ما جاء فى التقرير المصوّر للبرنامج : "فيها (الدرك نات) ناس يتمتعون بتعذيب العباد، بـ300 أورو تتحصل على المخدرات .. مجرد دخولك إليه يمكن ان يعرضك للقتل .. شبكة مظلمة كلّها إجرام ورعب ما فيها كان الدم والتعذيب والقتل والاغتصاب والبيدوفيليا ..فيها كل ما هو ممنوع على وجه الأرض .. مرحبا بكم فى العالم المجهول عالم الدارك واب..."
ونحن بدورنا نجدّد لكم الترحاب لزيارة هذا العالم المتغير الأبعادà géométrie variable على طريقتنا الخاصة هذه المرّة !
ب - ما قد لا نعرفه عن "الدارك نات" !
تجاوزا لكل تشويش اصطلاحي قد يحدث بين عبارة "الدارك نات " Darknet ( مجموعة من الشبكات والبروتوكولات المشفرة) و"الدارك واب" (Dark web ) المحتويات الرقمية التى يتضمنها "الدارك نات" من مواقع ومنصات وخدمات ) تعمّدنا استخدام العبارة الأولى لانتشارها الواسع فى الأدبيات ذات العلاقة بجغرافية الواب WWWعموما.
فان كان "الدارك نات" يمثل دون أدنى شك "المدينة الفاضلة" لأباطرة الجريمة المنظمة فان الأمانة العلمية تفترض أيضا إماطة اللثام عن الوجه الآخر من "الدارك نات" المسكوت عنه بقصد أو دون قصد...
بداية، "الدارك نات" استعارة لغوية لا غير تم استخدامها لأول مرة نهاية السبعينات من القرن الماضي - حتى قبل اكتشاف خدمة الواب نفسها - بالولايات المتحدة الأمريكية.. انطلقت من فكرة إنشاء شبكة خاصة لتصفّح الانترنات محكمة التشفير cryptage والمجهولية anonymisation تهدف الى حماية المعلومات العسكرية والحكومية المصنّفة حسّاسة للغاية.. فى تسعينات القرن الماضي نجحت البحرية الأمريكية US Naval Research Laboratory فى تصميم شبكة Tor الكفيلة بتأمين تصفّح آمن للانترنات معلنا عن الولادة القيصرية العسيرة "للدارك نات"...
دون الغوص كثيرا فى المعجم التقني المعقّد لشبكة Tor (The Onion Router) ، ببساطة تتألف هذه الشبكة "من العديد من الأجهزة الخادمة (serveurs) التى تعدّ بالآلاف تستقبل منك طلبات الدخول الى المواقع وإعادة توجيهها بعد التشفير والحماية لتستطيع تصفّح الموقع بسريّة تامة، اذا تعمل تطبيقة Tor كبرنامج تخفّ على شبكة الانترنت، يُمكّن مستخدميه من الاتصال بدون الكشف عن هويتهم الرقمية الحقيقية IP ، كما يتيح التطبيق زيادة مستوى الخصوصية والأمن على الشبكة، ويُوفّر مجموعة من الخدمات التى تسمح للمنظمات والأفراد تبادل المعلومات دون الحاجة للكشف عن مكان المستخدم ..." وبالتالي يُعدّ من باب العبث الفكري الحديث عن وجود حقيقي "للدارك نات" دون إحالة مباشرة الى Tor أو غيرها من الشبكات الجنيسة أمثال Freenet / I2P ...
سنة 2004 تم وضع تطبيقة Tor المفتوحة المصدر على ذمة العموم، بعدها بسنتين تولّت منظمة غير ربحية تسمى Tor project الإشراف على عمليات تعهّد وصيانة التطبيقة.. مصادر تمويلها متعدّدة منها الذاتية فى حدود 3 الى 4 مليون دولار سنويا والأخرى مزيج من التمويلات المتأتية من منظمات الدفاع على الحياة الخاصة على غرار l’American Civil Liberties Union وشركات خاصة (Mozilla, Reddit…) وعدد من الجهات المانحة العسكرية والاستخباراتية الأمريكية مما من شأنه أن يثير أكثر من نقطة استفهام حول طبيعة العلاقة الملتبسة بين "الدارك نات" والإدارة الأمريكية ؟!
وفق الموقع الرسمي لمؤسسة Tor project نجد الولايات المتحدة الأمريكية فى مقدمة الدول الأكثر استخدام لتطبيقة Tor فى العالم بنسبة 29 بالمائة تليها مباشرة روسيا (20 بالمائة) والبقية تتقاسمها بنسب متفاوتة دول غربية (ألمانيا، بريطانيا، فرنسا، أوكرانيا وكندا) وأخرى أسيوية (الهند واندونيسيا).. للإشارة هنا فان استخدام المتصفح Tor تخطّى عتبة 3 مليون شخص يوميا عبر العالم وأنّ نتائج دراسة حديثة أجرتها مؤسسة متخصصة فى مراقبة "الدارك نات" على 13000 موقع أظهرت بأن نصف المواقع لا علاقة لها بالجريمة المنظمة كما يُروّج له !
أولى استخدامات "الدارك نات" فى مجال الاحتجاج السياسي قامت بها مجموعات من المعارضين الصينيين فى تحدى لسياسة الحجب الآلي للمواقع المعادية المتبعة من السلطات الصينية ولحماية أنفسهم وأنصارهم من الملاحقات الأمنية لاحقا...
العديد من المصادر البحثية المتقاطعة تؤشّر بأنّ مراحل الإعداد والتنفيذ لما اصطلح على تسميته بثورات "الربيع العربي" مرّت عبر الشبكات السرية المشفرة "للدارك نات"، فى هذا الصدد، جميعنا يتذكر الدور الذي لعبه موقع Wikileaks الشهير فى التأثير على مجريات هذه الأحداث من خلال تسريبه لوثائق ومعلومات حسّاسة تم جمعها من مواقع مشفرة تابعة "للدارك نات"...
كبريات الصحف فى العالم على غرار "واشنطن بوست" و"الغارديان" وغيرهما وفّرت منصات رقمية فى شكل "مخازن مؤمّنة" Secure drop داخل "الدارك نات" بغاية الحفاظ على سرية المعلومات المجمّعة وهوية مبلّغيها les lanceurs d’alerte.. نفس النهج اتبعته عدد من المنظمات الغير حكومية أبرزها "مراسلون بدون حدود" التى تتموقع بقوة داخل "الدرك نات" عبر تطبيقة Tor...
أيضا الأجهزة الاستخباراتية الفاعلة فى العالم الأمريكية والروسية على وجه الخصوص جد نشطة داخل "الدارك نات" من خلال مراقبتهما عن كثب لنقاط التواصل les nœuds de relais لشبكة Tor ، والمؤسسات الدولية المتخصّصة فى الشؤون الأمنية تتبادل المعلومات فيما بينها عبر هذا الفضاء المصنّف خطيرا للغاية ؟! كما أن مختلف الدوريات المتخصصة فى اليقظة التكنولوجية السبرانية تشدّد بأن الانتصار على القرصنة السوداء لا يمكن أن يتحقق إلا داخل "الدارك نات" باعتباره جنة القراصنة المخربين...
وفى معرض حديثه عن "الدارك نات" دعا البروفيسور Jean-Philippe Renard صاحب مؤلّف Darknet, mythes et réalités الى ضرورة الابتعاد عن خطاب الشيطنة والاشتغال أكثر على تثمين النقاط الايجابية "للدارك نات" كبيئة حاضنة للخصوصية فى وجه الاختراقات الممنهجة للحريات الخاصة للأفراد وفى ظل غياب بدائل أخرى، مشيرا أنه بدون "الدارك نات" لم يكن من الممكن الكشف عن تجاوزات خطيرة اقترفتها عدد من الأجهزة الخاصة والشركات الرقمية العملاقة والأنظمة الشمولية، متسائلا هل كان بإمكان برنامج فى حجم Prisme السريالي أن يُكشف دون اختراق "ادوارد سنودن" للعلب السوداء من "الدارك نات"؟!
ختاما، من المحتمل جدا ان استمر السطو المؤسساتي على خصوصيات الأفراد والشركات والمنظمات بهذا النسق المخيف أن تصبح أيقونة الظلام الرقمى "الدارك نات" طريق الخلاص للجميع...
فهل تكون بداية - نهاية قصة الانترنات المفتوحة على يد ابنها العاق "الدارك نات " ؟