يصفع أبا جهل، نصرة لأتباع الدين الجديد، ثم يعلن على رؤوس الأشهاد ويده على سيفه: « أنا على دين محمد فليرد علي ذلك من يستطيع».الشاهد هنا هو أن مدير إحدى الصحف المتكلمة باسم التيار السياسي الإسلاموي (بمعنى المستند في لبس إلى العقيدة الإسلامية في ممارسة السياسة)، السيد محمد الحمروني، قد ختم بهذه العبارة الشهيرة افتتاحية جريدته (العدد 940) متحديا جميع التونسيين، ممن لا يفكرون مثله، بأن يردوا عليه ما يعتقد أنه الصواب بعينه إن استطاعوا،معلنا، وصورة حمزة عم الرسول ويده على سيفه في مخيلته، أنه يقول القول الفصل، وأن الأقلام قد رفعت، والصحف قد جفت. ونفهم من ذلك أن باب النقاش في مسائل الهوية والثقافة والمجتمع سيغلق إلى الأبد كما كان الحال قبل الثورة، ولم يبق إلا السيف- كما كان من قبل- الذي قد يكون أصدق أنباء من الكتب.
قد يقول قائل بأن النص الذي أتحدث عنه ليس له القيمة التي أعطيها له، وأن المفكرين السياسيين الإسلامويين لا يطرحون المسائل من نفس الزاوية، ولا يفكرون بنفس الطريقة. سأبين هنا أن الأمر ليس كذلك، وأنه إلى حد الآن لم يستطع الفكر السياسي الإسلاموي أن يحل معضلة الحرية الفردية وحرية الفكر ومسألة العيش المشترك في إطار التنوع، وهي مسائل لو حلها لحلت عقدتنا الحضارية في سياق العصر الحديث، و لانطلقنا دون كوابح من مخلفات العصور الخوالي في استرجاع مكانتنا تحت الشمس.
طرافة افتتاحية السيد محمد الحمروني أنها تعبر بصدق، أكبره في صاحبه، عن الإطار الذهني الثقافي-السياسي المشترك لكل قواعد التيارات السياسية الإسلاموية،التي تقول بما قاله السيد الحمروني في افتتاحيته المذكورة، وهو إطار يعمل السياسيون في هذا التيار على الاستجابة إلى انتظارات أصحابه دون اختلاف كبير. إنه النول أو «المنسج» الذي تصمم على قاعدته جميع ألوان وأشكال المنسوج دون أن يتغير النول.
في تحليل السيد الحمروني ثلاث أفكار أساسية :
أن مجرد طرح سؤال الهوية «هو انتصار في حد ذاته لبقايا الاستعمار من أنصار المسخ الهووي والإلحاق الحضاري».
أن الجدل الحقيقي بشأن مسألة تحفيظ القرآن هدفه “ قطع الطريق حتى لا يعود القرآن ليملأ حياة الناس ويعمر المؤسسات الرسمية، وحتى لا تطبع مؤسسات الدولة، وخاصة التربوية منها،مع هوية الشعب من جديد”.
أن حجج تلك الفئة من المثقفين والسياسيين التي “ تربط القرآن بالإرهاب وتدعو إلى ربط الحفظ بالفهم....ما هي إلا مبررات واهية لتمرير أجندات أقلية معطوبة فكريا”.
لن أتوقف هنا عند مهالك هذه النظرة المختزلة – وحتى الخاطئة وأتمنى أن لا يكون الخطأ متعمدا- للنقاش الدائر في تونس حول مسائل جوهرية مرت منها في الواقع كل المجتمعات التي انتقلت من ثقافة عصور التفكير الجماعوي، الذي لا يرى للفرد أية حقوق أو حرية مستقلة عن فكر وقيم وممارسة الجماعة التي يحكمها العرف المحلي والمعتقد الديني (كيفما كان)، إلى العصور الحديثة حيث الجماعة والفرد في تفاوض مستمر حول الحقوق والواجبات من منظور ضرورات الحياة المشتركة وحقوق الأفراد في الاستقلال برأيهم وفي ممارسةما يعتبرونه من قبيل شؤونهم الخاصة. والتاريخ الإسلامي لو تم تأويله وإعادة تأسيسه سياسيا من هذا المنظور لكنا في مصاف الأمم الحديثة. لكن ما يهمني في ما اعتبرته النول الذي ينسج عليه مجمل المنتمين للتيار السياسي الإسلاموي قناعاتهم ومشاريعهم،هو أن أصحابه صادقون في قولهم وجادون في فعلهم بشأن سعيهم إلى إعادة نحت ما يسمونه هوية الشعب التونسي «الأصلية»، من خلال العديد من الآليات التي منها، كما هو مبين أعلاه ، ملء حياة الناس بالقرآن، وتعمير المؤسسات الرسمية به، وتطبيع الدولة مع هذا المشروع السياسي الثقافي، واعتبار هذا الأخير هو الحل لكل مشاكلنا الحضارية. ومن ثم تطهير الأمة من المخالفين لهذا التوجه.
قلت إن هذا هو النول الفكري والسياسي الذي يشتغل به السياسيون الإسلامويون، وحجتي في ذلك هو أنني لم اسمع سياسيا واحدا من هذا التيار يقول إنه غير متفق مع هذه النقاط الثلاث من المشروع، وأنه لا يساند الخطوات العملية التي تعمل على تنفيذه بالفعل، ومنها تحديدا تلبيس الدولة بالعقيدة وفقا لما يقولون أنه مطلب دستوري (الفصل الأول من الدستور). والمشكل الحقيقي الذي يواجهه قسم مهم من التونسيين مع هذا الطرح وهذا المشروع هو أنه يقدم نفسه كحقيقة بديهية مشتركة بالفطرةبين الجميع، وأن من يستثني نفسه منها فحكمه سيكون في أحسن الأحوال حكم «البعير المعبد». ليس هناك مسافة في هذا الطرح بين العقيدة والتاريخ، بين الإيمان بالله واليوم الآخر والتجربة السياسية الفعلية للدولة في الحضارة الإسلامية. ومن ثم تصبح مجرد مناقشة الهوية وتاريخية الإسلام خطرا داهماعلى المجتمع ونجاحا لأهل الشر ضد أهل الخير. والتعامل بغير أدوات المؤمن أو الفقيه مع النص القرآني مرض واستعمار داخلي. والقول بفصل الدين عن السياسة نقض لما قام عليه الإسلام، دون الوعي بأنه تاريخيا ما كانت الدولة تحكم بالإسلام الذي في أذهان أصحاب هذا الطرح، وأن العرف كان هو الغالب، وأن إكراهات السياسة وأحيانا ثقافتها المحلية ما كانت لتتطابق مع فهم الأئمة وأتباعهم من العامة للعقيدة وللإسلام بصفة عامة.
هناك مؤشرات عديدة تملأ الساحة السياسية- الثقافية التونسية اليوم تدل على أن الإسلامويين، الذين كانوا يعيبون على الحداثيين بصفة عامة (والحداثيون كما افهمهم ليسوا ضد الدين بل مع الحرية ومع التأويل الحديث للعقيدة الإسلامية ومع حل مشاكل المجتمع بمعايير غير تقليدية) استحواذهم على السلطة وعلى الكلام والنشر، وكانوا وقتها يشعرون بأنهم في موقف الدفاع عن النفس، انتقلوا الآن إلى موقف الهجوم، مكررين نفس أخطاء خصومهم. فلا تفتح صحيفة من صحفهم، أو تتابع حوارا من حواراتهم، إلا وتقرأ وتسمع تأكيدا لشعار «نكبتنا في نخبتنا»، وأن الحل هو استبدال هذه النخبة بأخرى مطلوب منها أن تفتك من الخصوم مؤسسات الدولة وتنفذ فيها وبها مشروعها. وهذا لعمري مطب عظيم لا تنفع معالجته بالركون إلى التورية وتطبيق سياسة المراحل.
يجادل المثقفون الإسلاميون بأن خصومهم يفعلون نفس الشيء، وهذا رأي فيه بعض الوجاهة خاصة إذا اعترفنا بأن قسما من حملة الفكر الحداثي ساندوا الدكتاتورية وزينوا لها وجهها في مرآة الغرب، مثلما ساندها رجال دين وساعدوها على بلوغ نفس الغاية. لكن هذا لا يبرر خوض معركة السلطة عبر استخدام العقيدة، ليس لأن هذا مضر بالعقيدة في حد ذاتها، مثل الضرر الذي يلحق بالقرآن عند البحث فيه من قبل بعض الجهلة بالدين والعلم عن معجزات الله التي «يثبتها» العلماء الخطاؤون، إنما لأن حشر العقيدة في مناقشة مستقبل مجتمع يريد إرساء الديمقراطية الضامنة للحرية، يعد بمثابة زرع لبذور الاستبداد من جديد. ذلك أن الحداثيين الحقيقيين الذين يدافعون اليوم عن الحرية الفكرية والسياسية ويؤمنون بالتنوع وبالتعدد، لا يطرحون مسائل الهوية والعقيدة والحرية من باب «الكره للدين» كما يروج عنهم خصومهم،إنما من باب التفاوض الحضاري العميق على كيفيةتنظيم العيش المشترك مع ضمان الحريات الفردية، بينما إقحام العقيدة في هذا النقاش لا يترك بابا لقبول الآخر في تعدده واستقلاليته. ومن سوء الحظ يركن البعض لهذا الخيار بذريعة «ما الذي سيبقى لنا ما نقوله إذا فصلنا الدين عن السياسة».
بلدنا في خطر متزايد من الهجوم على المثقفين، ومن الزج بهم عنوة في دوامة الصراع السياسي المباشر، ومن تحقيرهم وإعداد العدة للقضاء عليهم. ومن يتوهم أنه بالإمكان إعادة التأسيس لحضارتنا بحفظة القرآن وخريجي المدارس الدينية وحدهم إنما يجهل بكل تأكيد أن ما من حضارة استعادت حيويتها من جديد من دون أن تقوم بنقد عاداتها وقناعاتها الفكرية والسلوكية، ويجهل أكثر أن إنجاز هذا المشروع لن يتحقق من دون نقد الحداثيين الجذري لتلك القناعات والعادات الموروثة. يبقى أن الحل القويم يكمن في أن «يثني الجميع الركبة» ويعلنوا الثورة التأويلية الشاملة والمفتوحة للتاريخ الإسلامي اعتمادا على إنجازات العلوم الإنسانية الحديثة، وهذا هو الطريق الوحيد للتلاقي وللتصالح والعيش المشترك. نراه قريبا ويرونه بعيدا، ويزرعون دونه بذور عصر استبدادي جديد.