تحميل مسؤولية تردي الوضع الاقتصادي أساسا الى معضلة كتلة الأجور والانتدابات والتعيينات خاصة زمن الترويكا وبات من الضروري التطرق لهذا الموضوع بأكثر رصانة، بعيدا عن الشعبوية والمغالطات.
الحديث عن الوظيفة العمومية يعني الحديث عن المرفق العمومي والادارة التونسية بكل هياكلها من أمن وقضاء وتعليم وصحة ومصالح جبائية ... ولا يمكن التلاعب بهذا الملف أو طرحه بطريقة سطحية سواء لتبرير فشل أو لتحميل مسؤوليات بل يستحق ان يطرح بطريقة موضوعية ومقاربة عقلانية بهدف تعزيز وتطوير مواطن القوة وإصلاح نقاط الضعف.
1ـ تطور الانتدابات وكتلة الاجور منذ الثورة
ففي علاقة بحجم الانتدابات خلال الفترة الانتقالية بعد الثورة وحتى نغلق باب الإدعاءات والتأويلات فالجميع يعلم أنه تمت دراسة إحصائية في مصالح رئاسة الحكومة في ديسمبر 2014 في إطار ملف التسليم بين حكومة مهدي جمعة والحبيب الصيد ومن أهم ما جاء فيها المعطيات التالية:
• انتداب 84084 موظف خلال سنة 2011 أي خلال حكومات محمد الغنوشي والباجي قايد السبسي، واحالة 8500 على التقاعد، اي زيادة لعدد الموظفين 75584
• انتداب 75248 موظف خلال السنوات 2012 إلى 2014 أكثر من نصفها في قطاع الامن والدفاع. ومنها 5851 من المنتفعين بالعفو العام و2490 من جرحى الثورة وعائلات شهداء الثورة، واحالة 29336 على التقاعد، اي زيادة لعدد الموظفين 45912 اي معدل 15000 سنويا.
وكانت سنة 2011 استثنائية في جو تميز بمطلبية إعتبرها البعض مشطة وهي في الحقيقة نتيجة طبيعية لمخاض ثوري وأسفرت سنة 2011 على إدماج العديد من العملة في الوظيفة العمومية:
• إلغاء المناولة في القطاع العام عبر إلغاء العمل بالمنشور عدد 35 لسنة 1999 الذي سمح لقطاع الوظيفة العمومية بالتخلي عن بعض الخدمات لفائدة القطاع الخاص وفق صيغة المناولة ونتج عن هذا القرار إدماج 35000 شخص في الوظيفة العمومية
• الاتفاق على إدماج 12800 من عملة حضائر ما قبل 2010 صلب الوظيفة العمومية
• إلغاء 12000 عقد محدد المدة وإدماج أصحابها صلب الوظيفة العمومية
• انتداب 24284 حسب الأقدمية والوضعية الاجتماعية في قانون المالية لسنة 2011
المغالطة تكمن في انه بين القرار والتنفيذ هناك إجراءات ومدة زمنية فما تم اقراره في 2011 نفذ في سنوات 2011 - 2012 - 2013.
أما بالنسبة الى كتلة الأجور فقد تطورت ب 3794 م.د ما بين 2010 و2014 ثلثها متأت من القرارات الاستثنائية لسنة 2011 والباقي متأت من الزيادات والانتدابات والتدرج والترقيات بمعدل سنوي يناهز 680 م.د مع العلم أنها تطورت ب 4884 م.د ما بين 2015 و2019 أي بمعدل سنوي 977 م.د متأتية من الزيادات والانتدابات والتدرج والترقيات.
جدول عدد 1: تطور عدد الموظفين وكتلة الأجور منذ الثورة
2ـ هل عدد الموظفين فعلا كبير في تونس ?
بالرغم من هذا التطور يبقى المعدل العام لعدد الموظفين بالنسبة لعدد السكان دون المستوى المتوسط بالمقارنة مع العديد من الدول ويبقى الإشكال الحقيقي في اختلال التوزيع بين المركزي والمحلي من جهة وضعف المردودية من جهة أخرى.
جدول عدد 2: عدد الموظفين بالنسبة لعدد السكان في بعض الدول
3 ـ الولاءات والزبونية اصل الداء
بعيدا عن الشعارات والمغالطات يعتبر ملف إصلاح الادارة وتطويرها قضية جوهرية يجب على الأحزاب أن تقدم تصوراتها بكل جدية في علاقة بالخدمات العمومية وجودتها وتوزيع المسؤوليات والإشراف مركزيا وجهويا ومحليا.
وحسب رأيي لا يمكن ان ينجح اي برنامج اصلاح طالما لم يتم القطع مع منظومة الولاءات والمحسوبية والتعيينات الحزبية داخل الإدارة التونسية التي عهدناها زمن بورقيبة وبن علي وحتى في حكومات ما بعد الثورة والتي تعود عليها التونسيون بل قل اصبحت جزءا من شخصيتهم كما بين ذلك الدكتور المنصف وناس في بحثه حول الموضوع ومفاده أن المحسوبية أصبحت أسلوبا في الحياة داخل المجتمع التونسي.
إن تركيز أسس الحوكمة الرشيدة والقطع مع الماضي والنقلة الحقيقية في علاقة الحاكم بالمحكوم والمواطن بالسلطة تنطلق في رأينا من قضية التعيينات والولاءات.
لقد عانت وما زالت تعاني الاغلبية الساحقة من المواطنين من المحسوبية والولاءات التي خلفت ثقافة الامتياز مقابل الولاء وسلوك التقرب من السلطة في إطار البحث عن النفع السريع وأقصت جزءا كبيرا من المواطنين من المشاركة في نمو جهاتهم ووطنهم والعديد من الكفاءات بإبراز مواردها الذاتية واستثمارها في الادارة وفي كل مواقع الانتاج ولم يتمتع أبناء الشعب الواحد بالتكافؤ في الفرص.
إن الوالي أو المعتمد أو المدير العام لإدارة أو لمؤسسة عمومية الذي يتم تعيينه على أساس الانتماء والولاء ولا على أساس الكفاءة والنزاهة والحياد يبقى مدين للحزب الذي عينه ورهين تنفيذ أوامره وتطبيق تعليماته واعتماد نفس مبادئه في الحوكمة ويجد المواطن نفسه من جديد أمام خيارين إما التقرب من السلطة والولاء للحزب الحاكم أو الأحزاب الحاكمة بغية تحصيل بعض الفوائد الشخصية أو الحياد السلبي فالتهميش والإقصاء وحتى الغبن في بعض الأحيان.
ان ثقافة الولاءات والمحسوبية والزبونية مرتبطة ضمنيا بظاهرة الرشوة والفساد وانتشارها ولا يمكن بأي حال من الأحوال لحاكم يعتمد الولاء والمحسوبية ركيزة من ركائز حوكمته وخاصة في مجال التعيينات أن يقاوم الفساد والرشوة ولو فرضنا أنه في أحسن الاحوال غير شريك فيها خلافا لما كان الحال قبل الثورة فإنه يجد نفسه في حرج في التعامل مع المفسدين الموالين بل مجبورا على التستر عليهم والتدخل لصالحهم للإفلات من العقاب.
لقد انتفض الشعب التونسي وخاصة الشباب الذي كان في الصفوف الامامية للثورة ضد الاقصاء والتهميش والغبن وحلم بأن يتغير وضعه ووضع جهته بتغير الممارسات في الحوكمة و فتح المجال للمشاركة وتكافؤ الفرص غير أنه لم يحس بالتغيير المنشود وخاب امله وفقد الثقة في إمكانية التغيير ولا نستغرب إذا من السلوك العام السائد اليوم في العزوف على الشأن العام وكراهية السياسة والسياسيين برمتهم و الارتماء في أحضان الشعبويين و التوجه الى الحلول السهلة و الربح السريع و لا نستغرب أيضا من الإقدام المتزايد للشباب على الهجرة بشتى أنواعها العادية بالنسبة للمتكونين (أطباء ومهندسين واساتذة ...) والسرية بالنسبة للمهمشين والعاطلين عن العمل.
--------
• المنصف وناس، الشخصية التونسية - محاولة في فهم الشخصية العربية، الدار المتوسطية للنشر، 2011