سيعاد السيناريو ذاته في انتخابات خريف 2019. صراع محموم حول المواقع في القوائم الانتخابية للأحزاب، بداية التحضير لحملات انتخابية لا نعرف حدودها المالية واللوجستية وآخر الاهتمام مضامين البرامج التي من المفترض أن يصوت لفائدتها الناخب. كل النزاع السياسي متجه نحو كيل الاتهامات بكل أصنافها لا غير. الحاصل هو إهمال جمهور الناخبين والالتفات إليه إلا في المواعيد الانتخابية.
النتائج التي أظهرتها مؤخرا استطلاعات نوايا التصويت ليست فقط نتائج مرتبطة بمنظومة 2014 وهي ليست فقط رفضا لما آلت إليه الأمور بعد خمس سنوات من أحر انتخابات تشريعية ورئاسية، إنها وبأكثر دقة تعبير عن رفض لنموذج في الحكم، نموذج في كيفية أخذ القرار وصنعه، نموذج في الحوكمة لم يستطع كبح قصوره التام. هي تعبير عن أزمة التمثيل الديمقراطي بشكله الحالي الذي تتنازعه المصالح الضيقة والحفاظ على المواقع بشتى الطرق ولا تتنازعه كيفية مساهمة الفرد في بناء تصوراته حول العيش المشترك. المسألة أبعد من أزمة اقتصادية شاملة، إنها أزمة ثقافية تحركها مقولات " الحقرة" والنسيان وعدم الاعتراف والضعف الكبير في النزعة الاعتبارية.
تأتي الديمقراطية السائلة هنا كنموذج جديد للاختيار، هي سائلة لا بمعنى أنها مائعة، رخوة أو منفلتة بل سائلة لأنها ليست حديدية وليست مسيجة ومتكلسة كالديمقراطية النيابية. بدأ مفهوم الديمقراطية السائلة في الظهور منذ سنوات في أوروبا واعتمدته أحزاب عديدة ومنها أحزاب القراصنة في السويد أولا ثم في ألمانيا وإيطاليا وسويسرا ولوكسمبورغ وبدأت الفكرة تكتسح برلمانات عديدة في العالم ومنها البرلمان الأوروبي وأخرها حصول القراصنة في إيسلندا على نتائج مكنته من تشكيل الحكومة. الفكرة التي يعتمد عليها هذا النموذج من الفعل السياسي هو مشاركة أكثر ما يمكن من المواطنين عبر الشبكة العنكبوتية أساسا في إدارة الشأن العام. هي إتاحة الفرص أمام الجميع ليطلعوا وبكل شفافية على المعلومات التي تخص إدارة شؤونهم. نشر المعلومات بكل أصنافها وتداولها بين الجميع هو الهدف الأساسي لهذه الحركة السياسية الجديدة من منطلق أن من يملك المعلومة يملك السلطة. ولهذا تطالب هذه الحركة السياسية بنشر المعلومات وإتاحتها حول السياسيين وذلك من أجل مراقبتهم وتقييم أعمالهم ومحاسبتهم. تتم مناقشة كبرى القضايا في هذا النموذج إن ما تقوم به منظمة بوصلة مثلا في تونس هو نموذج لهذا التمشي السياسي الجديد فهي تتيح للجميع وبكل شفافية الاطلاع على المعلومات التي تخص نواب البرلمان من حيث حضورهم وأدائهم وحتى تجاوزاتهم.
الديمقراطية السائلة هي منزلة بين المنزلتين، تقف في المنتصف بين الديمقراطية النيابية التي تشكو ترهلا كبيرا وبين الديمقراطية المباشرة التي يصعب على الكثيرين الالتزام بها لشروطها المستعصية. اهتمامها الأساسي هو بناء الأفكار والمقترحات من الأسفل بمشاركة الجميع عبر شبكات الأنترنات. وتتم المسألة بالشكل التالي: يمكن في موضوع ما كموضوع الطاقة بمختلف عناصره المتشعبة أن يصوت الناخب داخل حزبه مباشرة انطلاقا من معرفته بالموضوع أو أن يسند صوته أو يوكله لممثل عنه يكون خبيرا بالموضوع ليقوم بالعمل عوضا عنه على أن يراقبه في كل ما تم الاتفاق حوله. وتكون الثقة في هذا الممثل هي عنوان التعاقد بين الطرفين ويمكن للناخب أن يسحب تمثيلية هذا العارف بالموضوع متى رأى أنه خالف ما تم الاتفاق حوله. في الديمقراطية النيابية نعطي أصواتنا لنواب يناقشون نيابة عنا كل المواضيع، نسلمهم أمرنا مرة كل خمس سنوات ولا يمكننا في هذه الحالة متابعتهم وتقييمهم في قرارات هامة ومصيرية وليس لنا عليهم أي شكل من أشكال الرقابة والظاهرة البارزة في برلمان 2014 هي هذا الكم الهائل من السياحة البرلمانية التي شوهت المنظومة الانتخابية برمتها.
ثمة نموذج يحتاج الوقوف عنده في تونس وهو نموذج " عيش تونسي". الاهتمام الوحيد بهذا النموذج في اللحظة الراهنة متجه إلى مسألة التمويل. لا أحد تساءل عن مضمون هذا النموذج وعن صعوده في استطلاعات نوايا التصويت. ماهي نقاط قوته وماهي نقاط ضعفه وهل هو مناسب لتجربة الانتقال الديمقراطي، كل هذه الأسئلة من المفترض طرحها وتناولها بالتحليل كظاهرة بدأت تتلمس طريقها في تونس. لنترك مسألة التمويل للجهات المختصة لتبحث في مدى قانونيتها من عدمها ولننظر للمسألة كشكل من أشكال أخذ القرار وصنعه، لننظر للتجربة وكأن أصحابها لم يعبروا عن رغبتهم في الترشح للانتخابات القادمة. نموذج " عيش تونسي" هي منصة لتبادل الأفكار والتداول حول القضايا التي تشغل من تم الاتصال بهم عبر وسائل الاتصال الحديثة وهم بمئات الآلاف. طريقة في التعامل مع المواطنين جديدة تتجه مباشرة إلى استبيان آرائهم حول مشاغلهم العديدة. وعليهم أن يعبروا عن مواقفهم منها وأن يقترحوا حلولا لها. وان يتابعوا مسار تشكلها إلى النهاية وهذا ما حصل حين طلب من المهتمين بالتجربة الامضاء على وثيقة مقترحات. هناك ديناميكية جديدة تفاعل معها من كانوا على هامش الأحزاب السياسية وهم في الأغلب من الشباب. ولكن المقترحات كانت متسرعة، ينقصها النضج المطلوب. هي بمثابة إجابات ضعيفة على أسئلة مهمة. ولهذا يحتاج النموذج إلى مزيد تعميق فعله في الشأن العام.
ما يهمنا في هذه التجربة هو بالأساس المقاربة التشاركية المعتمدة. والمقاربة التشاركية هي بالفعل أزمة الأحزاب السياسية التقليدية التي في أغلبها لا تتقن هذه المقاربة هذا إذا لم تكن رافضة لها. في مجتمع يتجه إلى أن يكون مجتمعا للأفراد من حسن التدبير السياسي عدم الاستهانة برغبة هؤلاء الأفراد في ان يتم التفاعل معهم وتشريكهم ودفعهم إلى أن يكونوا حاضرين
في بناء المقترحات وأخذ القرارات ومتابعة تنفيذها خصوصا وأن أشكال التواصل الجديدة تساعد على ذلك وبكل قوة وفاعلية.
الديمقراطية حالة ديناميكية متحركة تستفيد من التحولات المجتمعية العميقة وعكس ذلك تنقلب هذه الديمقراطية نفسها إلى أكبر معيق لتحرر الأفراد.