منذ ان وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها والى حدود انهيار الاتحاد السوفياتى سنة 1991 دخلت البشرية الى حقبة جديدة من المناكفات والصراعات الدولية غير المعلنة وصّفت أنذاك «بالحرب الباردة» بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من جهة والاتحاد السوفياتي ومعسكره الشرقي من جهة ثانية.. حرب باردة برودة صقيع «سيبيريا» وثلوج «الألاسكا»، اتسمت بافتعال الأزمات من هذا الطرف أو ذاك ( أزمة برلين الأولى والثانية – الحرب الكورية – الأزمة الكوبية ...) وبسباق محموم لتطوير قدراتهما النووية فى إطار نظرية «توازن الرعب» التي حلّت محلّ توازن القوى.
بعد قرابة العقدين، وكأنّ بالتاريخ مصرّا إصرارا شديدا على إعادة نفسه، انطلقت حرب باردة جديدة بنسخة رقمية هذه المرّة.. فى الواجهة تسوّق بأنها حرب تموقعات تجارية لا غير بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين فى مجال تكنولوجيا المعلومات فى حين أن عمقها الحقيقي استراتيجي وأمنى بامتياز يتمحور حول الجيل الخامس5 G من الهواتف الذكية المتصلة بالشبكة.
اذا ما سرّ كل هذا الاهتمام الأمريكي بالجيل الخامس للاتصالات عبر الموبايل؟
بعد ان اكتسحت الهواتف الذكية تفاصيل حياتنا اليومية باستئذان ودون استئذان، ومنذ أن أغرقت الأسواق العالمية بنماذجها المغرية وأجيالها المتعاقبة لم يحظ إلا الجيل الخامس بكل هذا الزخم الاعلامي والسياسي ليصبح مركز اهتمام قادة العالم والشعوب قاطبة...
فالجيل الأول 1G سمح لنا بالمخاطبة الهاتفية ثم الثاني 2G أضاف الرسائل الفورية والثالث 3G الانترنت والرابع 4G مقاطع الفيديو(أنظر الرسم أعلاه)، جميعهم دون استثناء اجتازوا «معابر التفتيش الدولية» بسلام دون ضجيج يذكر الى حين ان طلع علينا «مهدي الانترنت المنتظر» : الجيل الخامس 5G - المتوقع دخوله للخدمة السنة القادمة على أقصى تقدير- مثيرا أزمة دولية من الحجم الثقيل غير بعيدة من حيث مستوى التوتر المرتقب عن أزمة الصورايخ السوفياتية فى كوبا سنة 1962 التى كادت أن تلقي بالعالم الى قاع الهاوية ...
فى ظل غياب معيارية دولية دقيقة وموحدة لخدمة الجيل الخامس معتمدة من «الاتحاد الدولي للاتصالات» الى حد الساعة، فانه من المتوقع أن :
- يتمتع 5G بمعدلات تدفق أكثر 10 الى 100 مرة مقارنة بالجيل الرابع وذلك بفضل استخدامه لطيف ترددي عال جدا un très haut spectre des fréquences وبعــرض نطــاق أوســع une bande passante من شأنهما تأمين عملية نقل البيانات الضخمة عبر الشبكة بجودة عالية.
- وبزمن استجابة قياسى un temps de latence record - أي الوقت المستغرق بين إرسال واستقبال المعلومات - أقلّ من 1ms مقابل 20ms الى 40ms بالنسبة للجيل الرابع ، بمعنى انه سيصبح من المتاح مستقبلا عبر تكنولوجيا 5G التواصل الحيني أو ما يعرف بمصطلح «الزمن الحقيقي» en temps réel مع الأشخاص والأشياء فى مرحلة مفصلية يستعد العالم للانخراط الفعلي فى الجيل الثالث من الانترنات : انترنات الأشياء Internet des objets .
- وبكفاءة عالية فى تنفيذ مليون عملية اتصال connexions بالشبكة فى الكلم المربع الواحد فى حين أنها لا تتخطى عتبة بضع الآلاف فى الجيل الرابع.
- الخ ...
خصائص تقنية ثورية وأخرى للجيل الخامس مؤهلة لإحداث قطيعة تكنولوجية une rupture technologique في مجال الاتصالات عبر الموبايل..على ضوئها ستخط مرحلة مختلفة في علاقة الإنسان بتكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي من جهة وبالتوازنات الإستراتيجية الراهنة للقوى السيبرنية les puissances cybernétiques من جهة ثانية (هنا تكمن الفوبيا الترامبية من العملاق الصيني هواوىHuwaei ).
فى المستوى الأول : حتما سيشكّل الجيل الخامس بحكم سرعته الفائقة - يشبهها البعض استعارة بسرعة الضوء - الرافعة الحقيقية للعديد من التقنيات والتطبيقات المستحدثة من انترنات الأشياء Internet of Things ( «مفهوم متطور لشبكة الانترنات بحيث تمتلك كل الأشياء فى حياتنا قابلية الاتصال بالانترنات وببعضها البعض لإرسال واستقبال البيانات لأداء وظائف محددة...») وحوسبة سحابية Cloud computing («مصطلح يشير الى إمكانية حصول الشركات والأفراد على العديد من الخدمات كالتخزين وقواعد البيانات والبرمجيات وغيرها من خلال شبكة الانترنات...») وذكاء اصطناعي مرورا بألعاب الفيديو والسيارات الذاتية القيادة (أنظر الرسم المصاحب) والخدمات الصحية عن بعد...
ففي غضون بضع سنوات فقط ، شئنا أم أبينا، سنغرق جميعنا فى عالم الأشياء الذكية objets intelligents المحيطة بنا من كل جانب والتي تعدّ بالمليارات وما علينا إلا التكيف معها للتمكن من تحقيق البقاء مثلما فعل أسلافنا فى الأزمنة الغابرة.
فى المستوى الثاني : يثير الجيل الخامس المطوّر من قبل شركة «هواوي» الصينية الرائدة فى المجال العديد من المخاوف الإستراتيجية والأمنية لدى الإدارة الأمريكية والدوائر الاستخباراتية الغربية على حد السواء، مما دفع الرئيس ترامب إلى توجيه اتهام مباشر للشركة بالتجسس لصالح الصين .. أزمة مرشحة لمزيد من التوتر والتصعيد مع دخول «غوغل» و«حلف الناتو» على الخط بقوة .
فالجيل الخامس كان سيوفر «لهواوي» تموقع متقدما فى أسواق التجهيزات الإعلامية والهواتف الذكية من الجيل الخامس تقدر بتريليونات الدولارات، كما كان أيضا سيمنح للصين فرصة تاريخية للالتحاق بغريمه الامريكى وتجاوزه ليس فقط فى مجال الرقمنة بل أيضا فى الشؤون الأمنية والعسكرية الحساسة لما توفره البنية التحتية لشبكة الجيل الخامس - التي تفترض تثبيت أعداد مهولة من المحطات والهوائيات mini-antennes et stations - من مساحات واسعة متاحة للاختراق والتجسس...
فى إحدى التقارير الأمريكية المتداولة على نطاق واسع تم التشديد على «أن هواوي قد تتحكم عبر أبراج اتصال الهواتف المحمولة في ولاية مونتانا الأمريكية بالموجات الصوتية المحيطة فى المنطقة، بهدف عرقلة عمل الصواريخ الباليستية العابرة للقارات والموجودة فى قاعدة قريبة للقوة البحرية»..كما أجمع عدد من خبراء الرقميات دون تقديم دليل ملموس بأن هواتف هواوي تحتوى على صنف من التطبيقات الخبيثة تعرف باسم «الأبواب الخلفية» backdoors من خلالها يمكن السيطرة على الأجهزة مجددا واختراق المعلومات التى بداخلها.. اتهامات أنكرتها شركة هواوي جملة وتفصيلا في العديد من المناسبات...
فمن توازن دولي استمر لعقود طويلة على قاعدة احترام مبدأ «الردع النووي المتبادل» انتقلت بنا تغريدات ترامب التويترية الى مرحلة «الردع الافتراضي» وما أدراك ما الردع الافتراضي.. شرايين الألفية الثالثة دونها تسقط جميع البني التحتية بما فيها المفاعلات النووية الأكثر تطورا فى العالم.. تتحكم فى خيوطها الخفية مؤسسات تفكير استشرافية كبرى ومجموعات ضغط مؤثرة للغاية.. يديرها فى العلن الرئيس/المايسترو ترامب وبالوكالة عملاق الواب دون منازع "غوغل" وأخواته...