نهاية العام 2019. بدت الهيئة سعيدة بهذا الإنجاز خصوصا وأن عددا كبيرا منهم من الشباب وهو ما يشكل نقلة نوعية في الجسم الانتخابي مقارنة بما سبق في الانتخابات الماضية. لها الحق في أن تكون سعيدة بذلك لآنها ذهبت إلى مواقع الشباب في الجامعات وفي المعاهد وفي المقاهي وغيرها من الأمكنة. وهذا في حد ذاته عنصر نجاحها.
وتفيد المعطيات المقدمة أيضا أن نسبة الإناث من هؤلاء أرفع من نسبة الذكور وهو ما يبدو غير مفاجئ إذا ما نظرنا إلى أن الفتيات حاضرات أكثر من الذكور في مجالات عديدة ولعل أهمها حضورهن في الجامعات. ولكن الأسئلة التي تطرح في هذا السياق هي هل أن هؤلاء المسجلين الجدد سيصوتون فعلا؟ ما هو العرض الانتخابي الذي سيقدم لهؤلاء الوافدين لإقناعهم بالذهاب إلى صناديق الاقتراع ولمَ لا الترشح للاستحقاقات القادمة؟ وهل أن المسجلين الجدد قد قاموا بفعل التسجيل لأن الهيئة ذهبت إليهم في عقر ديارهم أم أن تسجيلهم يمثل تغيرا فعليا في موقفهم من الانتخابات وبالتالي من الفعل السياسي ومن الفاعلين السياسيين؟ وأخيرا هل السياق الذي تعيشه تونس الآن وخطورة الوضع على جميع المستويات هو الذي دفع بالشباب إلى الرغبة في التأثير في الأحداث؟
ثمة مقولة دائمة الحضور في الاستحقاقات الانتخابية الماضية وهي مقولة عزوف الشباب. مقولة العزوف هذه غير دقيقة لأنها تأتي من المستفيدين من العملية الانتخابية والباحثين عن دعم رمزي لتفوقهم الانتخابي بأن تكون الأصوات التي منحت لهم في الانتخابات هي أصوات على وجه الخصوص شبابية ونسائية وهو ما يضفي على الانتصار الانتخابي قيمة مضافة خلافا لأولائك الذين يمثل الكهول خزانهم الانتخابي. صراع حول الأجيال الانتخابية وحول النوع الاجتماعي الانتخابي يدخل ضمن حالات الزهو بالانتصار الديمقراطي.
لا يتعلق الأمر بعزوف شبابي بقدر ما يرتبط بموقف معلن من المسار السياسي برمته. فعدم ذهاب الشباب إلى صناديق الاقتراع هو في الأصل عدم ثقة في الديمقراطية التمثيلية وعدم ثقة في الآداء السياسي للفاعلين السياسيين. هو اختيار نابع من رغبة عدد كبير من الشباب في الاهتمام بالشأن العام بطريقة مغايرة، بأشكال أخرى من الالتزام وبحرص منهم على استيفاء البعد الفرداني للفعل السياسي. هناك اتجاه في العالم وفي الديمقراطيات العريقة نحو أن يكون الفعل السياسي بمعناه العام فعلا فردانيا مسؤولا يختاره الفرد بمحض إرادته ويسعى جاهدا إلى متابعته وتقييمه وتوفير كل أسباب نجاحه ثم يقع الانتقال إلى اهتمام آخر مغاير. فالأمر لا يتعلق هنا بعزوف بقدر ما هو مرتبط بفعل السياسة أو المشاركة في الشأن العام بأشكال ونظرات ورؤى مغايرة لما هو سائد وكلاسيكي مسنود بتوجه المجتمع إلى أن يكون مجتمعا للأفراد أكثر منه مجتمعا لمؤسسات التنشئة الاجتماعية.
هل ستتجه المليون سبّابة شبابية إلى صناديق الاقتراع؟
لا أعتقد ذلك، وسوف نشهد مشاركة شبابية ضعيفة كما حصل في الانتخابات الفارطة. ليس هذا موقفا متشائما بقدر ماهي فرضية يمكن العمل عليها. لا شيء يشير إلى أن الذين سجلوا سيذهبون بالضرورة إلى صناديق الاقتراع يوم الانتخاب إذا ما عرفنا أن التسجيل ما هو إلا مجرد التزام معنوي مثله مثل نتائج عمليات سبر الآراء الحالية التي يمكن أن تكذبها النتائج النهائية خصوصا وأن خمسة أشهر تفصلنا عن الموعد. وإذا ما عرفنا أيضا أن العرض الانتخابي للأحزاب السياسية والقوائم المستقلة لن يطرأ عليه تغيير يذكر. سيكون عرضا انتخابيا معيدا لنفسه مستعملا نفس المضامين ونفس الوعود ونفس آليات التعبئة الانتخابية علاوة على أننا سنرى تقريبا نفس الوجوه التي تعودنا رؤيتها في المشهد السياسي.
نتقدم في تعديل الفرضية كلما طرأ جديد على المشهد الانتخابي. هناك قوى انتخابية ستدخل المشهد وهي ليست الأحزاب السياسية المعروفة. هي تكوينات غير حزبية تشكلت من داخل المجتمع المدني بطرق مختلفة ومتنوعة وتريد دخول المعترك الانتخابي بأكثر ليونة وقدرة على التعامل مع المستجدات وبخطاب جديد يستمد مفرداته من المجتمع المدني ومن مجتمع الناس العاديين أكثر منه من مفردات المجتمع السياسي التقليدي. هذه التشكيلات يمكن لها أن تستميل جزءا مهما من " ثورة" المليون سبّابة. وحتى وإن ذهب هؤلاء الشباب إلى صناديق الاقتراع فإنه من المحتمل جدا ألا يكون اتجاههم نحو الأحزاب الكلاسيكية.
ما هو مطروح الان هو أن تكمل الهيئة المستقلة للانتخابات عملها في اتجاه مزيد دفع المسجلين إلى أن يكونوا ناخبين وعلى المتنافسين في الانتخابات أن يقدموا عرضا انتخابيا مقنعا و صادقا يستجيب لتطلعات الشباب لا فقط في المسائل الكلاسيكية مثل مسالة التشغيل ولكن في المسائل التي يشعر فيها الشاب أنه بالفعل جزء من عملية التغيير نحو الأفضل لا كمستفيد فقط بل كفاعل مركزي في الأحداث.