فقه برد: و شعر بشّار

1 - كثيرون يتذكرون السّجالات المهمة التي حصلت بعدما سمّي بمجزرة منوبة 30 مارس 1982، حول العنف في الجامعة...

حينها فتحت مجلتا «المغرب» و «حقائق» وأسبوعية الرأي صفحاتها لمقاربات من زوايا...التحليل الاجتماعي والنفسي و أيضا السّجال السياسي والحزبي...
تلك الحادثة كانت منعرجا في تاريخ الجامعة التونسية... لم ينته العنف بالطبع، و لكن خفّت حدّته، واتضح للعقلاء أن الإجابة عن العنف إنما تكون إجابة ثقافية وسياسية...
فتسارع بعدها مسار تنظيم الحركة الطلابية و تدعيم نشاطها الفكري و الثقافي...

2 - منذ سنة ، يوم 15 ماي 2018 انتظمت وقفة تضامنية رافضة لقرار الرئيس الأمريكي نقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلّة... يومها تجمّع نقابيون و ساسة وإعلاميّون... لم يجد بعض الشباب المتأدلج أفضل من تلك الفرصة لرفع شعار «ديقاج» في وجه أحد المناضلين السياسيين المخالفين...لم يدركوا أن فلسطين تجمّع و لا تفرّق، و لم يدركوا أن الساحة التي انتظمت فيها التظاهرة ليست ملكا لأحد، و لم يدركوا أن الغباء لا يحرّر فلسطين.
لابدّ من كثير من الصّبر، حتى يدرك هؤلاء و معلّموهم أنّ الزّمن تغيّر، و أنّ القيم و القضايا الكبرى ترتكز على قيمة القيم و قيمة نسبيّة.

3 - الجمعة الماضية (26 أفريل2019)حدثت فضيحة منوبة،إذ اقتحمت مجموعة من الطلبة قاعة ندوة علمية اشتغلت عليها وحدة بحث وفقا للصّيغ القانونية.
طيلة ساعة كاملة، تعرّض ضيفان على الندوة لكلّ أشكال الإهانة الممكنة .
شباب في عمر الورود شوّه إنسانيتهم كمّ من الحقد و الغباء... ليصل الأمر الى الاحتجاز و الاعتداء على الحرية الشخصية...
لولا حضور الهواتف الجوّالة، التي كانت تُصوّر كل شيء، لوصل الأمر الى «السّحل الثوري» المغلّظ، ضد الرجعيّة بقاموس الثورة الثقافيّة...

4 - السؤال هو: لماذا يحدث هذا في الجامعة، بعد الثورة، وبعد الديمقراطية، وبعد إتاحة الفرصة لكل الآراء للتعبير عن نفسها، ولكل المكوّنات أن تتنظّم، و بعد الانفجار الإعلامي و إتاحة الفرصة للجميع، وللشباب خاصّة أن يطّلع على آخر ما صدر؟
من المسؤول؟

5 - اضطررت أن أعود إلى voltaire فلا عدوّ أكبر من التعصّب و الغباء و الحمق...
ولكلّ زمن صيغ تعصّبه، و لكل عائلة متعصّبوها...

وفي بلادنا توجد اليوم ثلاث بؤر تعصّب يمكن أن تهدّد تماسكنا الاجتماعي...
في هذه الحادثة، نحن أمام عصارة التعصّب المراهق اليسراوي التي يلعنها الآباء (ماركس ولينين) والتي يلعنها الحواريون الأذكياء (غراهمشي) و من بعده متنوّرو الماركسيّة الإيطالية والاسبانية و من بعدهم الاجتهادات الماركسية المتحرّرة...
لكن هؤلاء طلبة، مجموعة تمّ التغرير بها و خضعت لعمليّة غسل دماغ و تكييف ذهني فوقعت في حالة هيجان و انتشاء ثوري...

شخصيا أشفق عليهم...
شخصيا أحسّ بمسؤولية عما يحدث.

لابدّ من إعادة نظر عميقة في منظومتنا الثقافيّة والتربوية، و خاصة في منظومتنا الحزبية و المدنية...
انتهى عهد الكيانات الصلبة.

نحن الآن في زمن السيولة
انتهى عهد الجدران، نحن في زمن التفاعل و التداخل (osmose)
لقد كانت النقلة من نيوتن إلى انشتاين ثورة عميقة ...
ومبدأ «اللا يقين» principe d’incertitude عند هاينزبرغ لا يصدق فقط على العالم المادّي... بل يطال أيضا عالم الأفكار ...
لقد سقط جدار برلين، بكل المعاني ...

6 - إدارة الكلّية متواطئة لحسابات انتخابية...
وطيلة خمس و أربعين دقيقة كان يمكن أن يحدث أي شيء في القاعة...
شخصيا لم أكن مستعدّا للمقايضة على حريّة تنقّلي...لا يمكن أن أقبل أن يفرض عليّ أيّ كان مكان تواجدي و لا توقيت مغادرتي...
لقد دفعت، مثلا ألاف التونسيين، ثمنا من أجل هذه الحريّة التي نتمتّع بها... لا أمنّ على أحد، ولكن لم نقاوم استبداد بن علي لنقع تحت استبداد التعصّب والحقد الأيديولوجي...
للسّيّد العميد حساباته، ربما يكون ذلك من حقّه، واسأل الله أن يصل مقاصده من خلال تحالفات تسمح له بالتمديد، ولكن ليس من حقّه أن يختلق (...) فيقول غير الحقيقة...
إن لم تمنع الأخلاق التزوير فان الهواتف الذكية تمنع ذلك ...
السيد العميد لم ير شيئا، لانّه كان وراء الستار، و مع ذلك سمح لنفسه أن ينفي وجود العنف ليكيّف، ما وقع بأنه - مجرّد تدافع، لقد كاد يقول انّ المعتدين كانوا يمازحون ضيفهم !
مرّة أخرى نكتشف أننا لا يمكن أن نصنع جديدا من القديم

7 - ليس أسوء من العنف سوى تبرير العنف..
قيل لبُرد أن ابنك يؤذينا بشعره، فقال متَفَيقِها:ليس على الأعمى حرج،فرجع القوم مدركين أن فقه برد أخطر من شعر بشار.
جزء من النخبة الأكاديمية قتلها غباؤها و كسلها وحساباتها...
فهي تبرّر كل شيء...
تدّعي الديمقراطية و لا تدرك أن الديمقراطية ليست بالتمنّي و لا بالتحلّي، و إنما هي ما وقر في القلب وصدقه العمل...
وكذلك هي أمام كل القيم الإنسانية الكبرى ...
لقد أدركنا بعد الثورة وجود دولة عميقة، و لكنها لا تتمثل فقط في تلك الفئات التي كانت تحتكر السلطة و الثروة، بل تتمثّل كذلك في تلك الفئات التي تدّعي امتلاك الثروات الرمزية ومنها احتكار مربّع الثقافة و الحقل الأكاديمي ...
هذه الفئات هي فئات مقاومة للتغيير أيضا
و من أجل الدفاع عن مصالحها يمكن أن تستعمل دروعا بشرية كثيرة
هنا معركتنا ضدّ الأنانية و التعصّب...

8 - سعيد أنا بكل تعبيرات إدانة العنف و التعصّب...
كثيرون عبّروا عن مواقف مبدئية..وليس المطلوب أكثر من هذا
أشكر خاصة إخوة و أصدقاء و رفاق مرحلة الثمانينات، و من ضمنهم سي عصام الشابي، و سي محسن مرزوق، وسي سمير العبيدي، و سي ناجي جلول، و سي خالد شوكات و اخرين كثيرين ..
لنا ارثنا الذي نحاول التخلّص منه...
ولنا مراجعاتنا التي نجتهد في القيام بها ...
لنورّث الشباب حبّ تونس و التسامح و نفتح أبواب المستقبل.

معا يمكن أن نشتغل على:
مصالحة وطنية شاملة و إدماجية و عادلة تزيل المخاوف و تردّ الحقوق و تجعل الماضي معبرا للمستقبل
تأمين الحرّيات الأكاديمية كاملة غير منقوصة
إعادة الاعتبار للحركة الطلابية عاملا مؤثرا في البناء الوطني
إيلاء أهمية قصوى للمضمون الثقافي و التربوي المؤسسي و المدني و الحزبي و التركيز خاصة على قيم النسبية والتسامح و العمل و التنوع و التنافس السلمي...

أخلقة العمل السياسي، و التركيز على البرامج والمضامين بدل الاستغراق في الصراع و التهريج والمشهديّة...
شنّ حرب لا هوادة فيها ،ضدّ التعصّب، و ثقافة الحوز واللادولة و القبليّة الجديدة
اعتبار مرحلة ما بعد 2019 آخر فرصة لنخبة اليوم بحكامها و معارضيها من اجل المصالحة مع المواطنين، والاشتغال بمقتضى ذلك...
لن أقدّم قضية ضدّ الشباب فهم ضحايا ثقافة متكلّسة وتصحّر و فراغ و عمليّة تكييف...

لن أسامح نفسي إن منعت شابا من استكمال دراسته...
لن استطيع النظر في عيني والديه اللذين أفنيا كلّ مواردهما من أجل أن يحصل على شهادة(و كلهم من عائلات متواضعة).

ولكن
لن أسامح المذنبين الحقيقيين و المتلاعبين بالعقول...
هؤلاء سيحاكمون بالاخلاق، وبالتاريخ ، و ربما بالقضاء أيضا...

بقلم: عبد الحميد الجلاصي 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115