الأكبر كقارة وكدول وشعوب فقد انهزمت المانيا و ايطاليا ،و لكن ايضا تراجعت فرنسا وألمانيا.
لقد انتهزت روسيا السوفياتية فرصة الحرب لتجتاح فضاء جغرافيا بمساحة قارة موزعا على أوروبا و اسيا
و أنهت الولايات المتحدة مسيرة خروجها من قمقمها بعد قرنين من الانكفاء و استكمال بنائها الذاتي بعيدا عن مناطق الصراع السخنة .لقد استفادت للأقصى من الجغرافيا ،و هو معطى كان له اعتباره حينها وهكذا انجلى غبار الحرب (ودماؤها )على فاجعة أوروبية .لم نعد نحن الأقوى، لقد تغير العالم ،وانتقلت مراكز القوة الى مواطن اخرى ،لمدة قد تطول وقد تقصر ،كما هي عادة التاريخ
ووجدت بلدان القارة العجوز نفسها امام تحدي تقليل الخسائر وتقليص المسافة مع القوى الصاعدة، و امام تحديات ثلاثة :
- تجاوز التصدعات التي خلفتها الحرب في المنتظم السياسي وفِي النسيج الاجتماعي ،نتيجة المواقف و العلاقات السياسية وخارطة التحالفات الداخلية و الخارجية
- ردم الفجوات في العلاقات بين شعوب ودول القارة بعد أن تفاقمت الخلافات التاريخية بأنهار الدماء التي أهرقت في الحربين الكونيتين
- سد الطريق امام القوى المغالية التي تنتعش عادة وقت الازمات
2 - ما هي الوصفة المطلوبة ؟
لا شيء غير إعمال العقل
عندما ننطلق من البديهيات نهتدي للحلول
-فجراحات الماضي الوطني يمكن ان تصادر الحاضر و المستقبل ،و لذلك يجب التخلص منها
كيف ؟ بالاعتراف و ليس بالإنكار، وبقوة العفو وشجاعة الاعتذار والتواضع امام الوطن
في التاريخ الفرنسي جرح يتهرب منه الجميع .فهؤلاء الذين اتخذوا ديك التباهي لهم شعارا يمكنهم التفاخر ب "استيريكس "و "اوبيليكس"و "جان دارك" في القديم ،و بمقاومة النازية في الحديث ،و بكثير من الملاحم غيرها ،بل يمكنهم حتى ان يفخروا بهزيمة "واترلو "،و لكن ما عساهم يفعلون امام الخيانة و التعاون مع القوى النازية ؟
و يمكن ان يستمر الصراع الفرنسي الألماني البريطاني على زعامة اوروبا من خلال تغذية الحروب البينية وصراعات التموقع الدموي .وفي الاخير لن يكون من رابح سوى قوة ما وراء الأطلسي او الإمبراطورية القيصرية المتدثرة بأردية حمراء.
حينما تتدخل العقلانية في السياسة نخرج من معادلة الخسارة للجميع الى معادلة تضمن كسبا للجميع
3 - غير أن أهم إنجاز يحسب للأوروبيين بعد الحرب الثانية يكمن في طريقة تعاملهم مع القوى التي لم تتشبع بما يكفي بالديمقراطية
مفارقة هذه القوى انها تستفيد من الديموقراطية في حين انها تنكرها ،او تضع لها حدودا وضوابط ،لتكون ديموقراطيتها هي، اي ديمقراطية على المقاس .
ولكن الديمقراطية ذكية .ولذلك فهي اكبر من ان تواجه غير المقتنعين بها و حتى خصومها .انها تعول على الزمن الذي يؤدي عادة الى النضج .
و بهذا احتضنت الديمقراطية الليبرالية في اوروبا أحزابا كانت تتبنى دكتاتورية البروليتاريا وربما تضمر استعمال مزاياها للانقضاض عليها .هذا في الادعاء، و لكن ما حصل في النهاية هو ان تلك الاحزاب ذابت في القالب .
قلنا ان الديمقراطية كانت ذكية، و لم نقل انها كانت بالضرورة اخلاقية .ربما تكون كذلك، غير ان موقفها كان مبنيا بالأساس على حسبة ما، أوضحها جيدا "موريس ديفرجي "في كتابه علم الاجتماع السياسي (1966) ،ثم في محاضرة قدمها في تونس اواخر 1989 .فقد بين ان الديمقراطية كانت امام خيار الاقصاء ،الذي يؤدي عادة الى مزيد التطرّف و يدفع قطاعات واسعة الى التعاطف الناتج على الاستثمار في المظلومية ،او امام خيار الإدماج مع امكانية التشويش ولكنه تشويش داخل المنظومة يؤدي عادة الى التطبيع التدريجي .
التجربة تقول أن خيار الإدماج كان ناجحا .
والدرس هو ألّا نجازف بصناعة ضحايا قد يصبحون كوابيس .
هذا الرهان نجح مع الاحزاب الشيوعية، و حتى أكثرها تكلسا (الشعب الشيوعي الفرنسي )،و نجح مع قوى اقصى اليمين ايضا .
نفس الوصفة المزدوجة اي تجاوز التصدعات الاجتماعية و السياسية السابقة ،و المراهنة على الإدماج هي التي اعتمدت في كل الانتقالات الناجحة .في جنوب اوروبا ووسطها وشرقها ،وفِي امريكا اللاتينية ،و في افريقيا جنوب الصحراء .
ويوم تعامل الديمقراطية خصومها بمنطقهم تفقد روحها وتحقق غاياتهم .
تونس اليوم
4 - تمر تجربتنا اليوم بامتحانات عسيرة .امتحان لمدى التزامنا الديمقراطي اولا، و لمدى عقلانيتنا ثانيا، و لمدى قدرتنا على هندسة سياسية تقود المرحلة المقبلة بنجاعة حسب برنامج وطني يمثل جماع تجربتنا ومراجعاتنا و استماعنا لجماهير شعبنا .
لا يجب ان نتردد لحظة، فالحكم الأعلى اليوم هو الدستور و القانون، ولا شيء غير ذلك .
يوم نشرع لأنفسنا التدخل للحد من حقوق المختلفين من مواطنينا، أيا كانت درجة الاختلاف معهم في افكارهم ومنهجهم، وخطابهم ،وسلوكهم، وعلاقاتهم التي يحتملها تأويل ما للدستور و القانون، يوم نفعل ذلك فإنما نشرع لتدخلهم الاعتباطي في حقوقنا، ونقوض قواعد العيش المشترك .
هذا ما يقتضيه التناسق القانوني ،وهذا ما تقتضيه قوة الديمقراطية الصبورة والمتعالية حتى على مخالفيها .
وهذا ما تقتضيه السياسة ايضا .
ذلك ان المظلومية يمكن ان يكون لها عائد سياسي وانتخابي في سياقات معينة ،بل يمكن ان يكون الاستثمار في المظلومية استراتيجية انتخابية، و تكون الشيطنة ،فما بالك بأصناف العنف اللفظي والمادي ،خدمة لهذه الاستراتيجية الانتخابية .
فقد استفادت المنظومة المناهضة للاستبداد من عامل المظلومية في انتخابات التأسيسي ،كما استفاد نداء تونس من نفس العامل سنتي 2012-2013.
وهكذا فبالإضافة الى الاعتبارات المبدئية والاخلاقية ،يكون من الغباء السياسي الفاضح ان تهدد المسار الانتخابي، او ان تخدم الاستراتيجية الانتخابية لمنافسك .
5 - ما المطلوب ؟
حالة القلق و الضبابية و الاحباط يمكن ان تهدد كل الاستحقاقات ،وان تدفع باتجاه ولادة كل الكوابيس ،ولذلك فلا يمكن تجاهلها، او الاستهانة بها ،او التعامل معها التعامل التكتيكي ،الذي قد يربحنا قليلا من الوقت، ولكنه لا يمكن ان يكون بحال علاجا للمشاكل العميقة التي تتطلب بالمقابل التعامل معها بأقصى المسؤولية و الذكاء.
اننا نقترح هنا الخطوات التالية :
اولا :الالتزام الواضح والصريح بإعلاء الدستور والقانون ،وعدم المساس بالحريات تحت اي تعلة ،وضبط قواعد التنافسية بما يضمن الشفافية و التقارب في الفرص.
وقد يكون من المفيد المسارعة بإقرار ذلك في ميثاق اخلاقي بين كل الفاعلين يساهم في ترشيد التنافسية ويقترب بها من صراع الافكار و الاطروحات .
قد تحصل اخطاء ،وحتى انتهاكات ،من هذا الحزب او ذاك في مضمون خطابه ،او في سلوكه بما قد يعد مسا من الدستور او قواعد العمل المشترك ،وهذه كلها مجالها النقاش السلمي او السلطة القضائية .
ثانيا :مسارعة القوى التي تنتسب للوسط الديمقراطي بتوفير عرض سياسي يؤمن تمثيلا لقاعدة واسعة من المواطنين في شكل حزب او ائتلافات او جبهة او غيرها .
ان ضعف او رخاوة الوسط لا يخدم الا قوى الشطط النضالي .
هذه المهمة ليست مصلحة حزبية لأصحابها فقط ،انها مصلحة وطنية .
ثالثا :استكمال خطوات المصالحة الوطنية الشاملة .
اذ لم ننجح بعد في ارساء مناخ الثقة الكامل ،و لذلك تتعايش في مجتمعنا أصناف من المخاوف ،تضعنا في معسكرات متقابلة :
فكأن الخائفين على حرياتهم في حالة مواجهة مع الخائفين على دينهم .
و كأن الخائفين من ماضيهم في مواجهة مع المغبونين بماضيهم .
و كأن الخائفين على مصالحهم في مواجهة مع الخائفين على مستقبلهم ،و خاصة من الاجيال الشبابية .
من خلال رسم خارطة المخاوف المتبادلة يمكننا التقدم باتجاه مصالحة وطنية إدماجية في ابعادها الاخلاقية والسياسية و الاقتصادية و الاجتماعية الشاملة .و بهذا نقطع الطريق امام المستثمرين في الخوف والتخويف وفي تسعير نيران الحروب من اي ضفة كانت.
منبر: الديمقراطية، تلك الأم الحاضنة دروس التاريخ: العقلانية السياسية
- بقلم المغرب
- 13:10 04/04/2019
- 851 عدد المشاهدات
بقلم: عبد الحميد الجلاصي
1 - بعد الحرب العالمية الثانية انتبهت اوروبا الجريحة انها كانت الخاسر