ظل أزمات كبيرة يمر بها العالم العربي وانفلات مخزون العنف وتكاثر وازدياد الخلافات بين البلدان العربية . فالعالم العربي لم يعرف منذ السنوات الأولى للاستقلال والدولة الوطنية هذا المستوى من التردي والأزمات والخلافات بين الجيران والأشقاء إلى جانب تنامي وتصاعد الاعتداءات الخارجية دون أن تكون المؤسسات العربية والبلدان العربية قادرة على القيام بالإجابات الكافية وحماية المنطقة وشعوبها.
ولعل السمة الأساسية للوضع العربي اليوم هو عجز المؤسسات العربية والمنظومة المؤسساتية التي بنتها الدول الوطنية اثر الاستقلال كالجامعة العربية وغيرها من المؤسسات العربية على الدفاع على المنطقة العربية وعلى المحافظة على مستوى معين من التعاون والتضامن بين البلدان العربية من اجل تجاوز الخلافات بين الأشقاء وحماية المنطقة من الأخطار الخارجية .
ولئن تم اليوم القضاء على داعش في آخر معاقلها في سوريا فإن الخطر الإرهابي لايزال هاما وينخر الأمن والاستقرار في اغلب البلدان العربية . والى جانب الخطر الإرهابي لابد من الإشارة في قراءة الوضع العربي إلى الحروب المدمرة التي عرفتها بعض البلدان العربية كسوريا واليمن وليبيا اثر ثورات الربيع العربي . وقد كان لهذه الحروب دور تخريبي وتدمير أتى على هياكل الدولة والمؤسسات الاقتصادية والبنية التحتية في كل هذه الدول.
والخطر الإرهابي ليس الخطر الوحيد الذي يهدد الأمن والاستقرار في الوطن العربي . وهنا لابد من الإشارة إلى الأزمات السياسية التي تعيشها اغلب البلدان وتزايد مخزون الرفض للأنظمة القوية والنظام السياسي السلطوي والاستبدادي. إلى جانب تنامي المعارضات الداخلية فقد عرفت المنطقة العربية تزايد الخلافات الداخلية بين عديد البلدان العربية كالذي يسيطر منذ سنوات على العلاقات بين العربية السعودية والإمارات من جهة وقطر من جهة اخرى والذي شل حركة وعمل منظمة التعاون الخليجي.
إلى جانب الأوجه السياسية للازمة التي تشق المنطقة فلابد كذلك من الإشارة إلى الأوجه الأخرى المهمة كالأزمة الاقتصادية والتي تشمل كل البلدان العربية وحتى البلدان المصدرة للبترول منها.
إلى جانب المظاهر الداخلية للأزمة العامة التي يعيشها العالم العربي فلابد كذلك من الإشارة إلى الاعتداءات الخارجية والتي أصبح يتعرض لها في السنوات الأخيرة . ولعل آخر هذه الاعتداءات هو قرار الإدارة الأمريكية والرئيس الأمريكي اعتبار الجولان أرضا إسرائيلية في تناقض صارخ مع كل المقررات الدولية . وقد شجع العنف والغطرسة الأمريكية العدو الإسرائيلي على مواصلة اعتداءاته اليومية ضاربا عرض الحائط كل نداءات التعقل للمؤسسات الدولية وبعض الدول الكبرى .والى جانب الاعتداءات الأمريكية والإسرائيلية لابد كذلك من الإشارة إلى التدخلات اليومية لتركيا ولجيشها في سوريا والعراق بحجة ملاحقة الثوار الأكراد ومواصلة إيران متابعة مطامعها في المنطقة العربية في بحر العرب.
يعيش العالم العربي اليوم أحلك فتراته التاريخية منذ استقلال الدول العربية في منتصف الخمسينات . وهذه الأزمة هي نتيجة لانخرام الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية وتواتر وتزايد الاعتداءات الخارجية . وخلقت هذه الأزمات والفوضى حالة من الإحباط والخوف من المستقبل عند الناس في اغلب البلدان العربية . كما أوجدت حالة من الجمود والعجز عند اغلب المؤسسات العربية وعلى رأسها منظمة الوحدة العربية والتي أصبحت غير قادرة على توحيد المواقف العربية وبناء ردود وإجابات على أهم التحديات والاعتداءات الصارخة التي تعيشها المنطقة . وهذا العجز كان وراء انهيار الثقة من قبل النخب والمواطنين في هذه المؤسسات مما جعل مؤتمراتها واجتماعاتها تمر وسط صمت وحالة كبرى من عدم الاهتمام .
وفي رأيي فإن هذه الأزمات وحالة العجز التي تعيشها اللحظة العربية ما هي الا تعبير عن انهيار النظام العربي للدولة الوطنية والذي ساهمت في تشييده اغلب الدول العربية اثر استقلالها في منتصف الخمسينات . ولقد ساهم النظام العربي المابعد كولونيالي بمبادئه ومؤسساته في فترة النهوض التي عرفها العالم العربي منذ الخمسينات إلى بداية الثمانينات . ثم واثر هذه الفترة الذهبية للعمل العربي فقد نجح النظام العربي وبالرغم من تنامي الأزمات الداخلية والمخاطر الخارجية في المحافظة على مستوى معين من التنسيق والتعاون بين البلدان العربية لتجاوز الأزمات ودرء الاعتداءات .
إلا أن هذا النظام العربي ولئن صمد طيلة أكثر من نصف قرن ومكن البلدان العربية من تحقيق بعض النجاحات في التنمية ومستوى مهما من التعاون فقد دخل في أزمة عميقة منذ بداية الألفية ويدخل مرحلة انهيار وعجز عن بناء مشروع عربي جديد قادر على إرجاع الأمل للشعوب العربية وفتح العالم العربي من جديد على العالم .
وسنحاول في هذا المقال الوقوف على ابرز سمات النظام العربي الموروث عن الدولة الوطنية وأركانه الأساسية لنقف على تآكلها وتراجعها وانخرامها في السنوات الأخيرة . وفي رأيي فإن النظام العربي ارتكز على خمسة أركان أساسية منذ نهاية الخمسينات . الركيزة الأولى أو الركن الأول هو الدولة القوية والأفقية والتي تحولت تدريجيا إلى موقع الاستبداد والتسلط والتي اعتبرها العديد إحدى خصائص المجتمعات الشرقية التي تعيق تحولها نحو الديمقراطية والتعدد. وبالرغم من اختلافات المشارب الإيديولوجية والسياسية لأغلب الدول العربية فإن المركزية والاستبداد ستصبح إحدى الخصوصيات الأساسية للنظام العربي.وبالرغم من الانفتاح السياسي الذي أقدمت عليه بعض الأنظمة العربية في بداية ثمانينات القرن الماضي فلقد واصلت الدول والسلط هيمنتها على المجال السياسي في اغلب البلدان العربية . وستقوم اغلب الأنظمة بمحاربة المعارضة وكل محاولات التمرد بطريقة عنيفة لتبقيها عل هامش المجال السياسي . وسيساهم هذا التسلط والاستبداد في إدارة الشأن العام في المنطقة العربية في المحافظة على وحدة هذه الدول والتي كانت مكونة في اغلبها من فسيفساء من الأقليات الدينية والعرقية .
إلا أن ثورات الربيع العربي التي انطلقت من بلادنا منذ 2011 ستساهم في زعزعة التسلط والاستبداد في المنطقة العربية .ولئن لم تعرف اغلب بلدان الربيع العربي تحولا سليما نحو الديمقراطية بل تحولت في عديد البلدان مثل سوريا وليبيا واليمن إلى حروب مدمرة فإن هذه الثورات قد زرعت نبتة الديمقراطية والحرية في المجال السياسي العربي وفتحت الأفق العربي على المبادئ الكونية لحقوق الإنسان لتنهي احدى الركائز الأساسية للنظام العربي الموروثة من الدولة الوطنية .
أما الركيزة الثانية التي قام عليها النظام العربي اثر الاستقلال فهي فكرة التحديث والذي سيشمل الهياكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التقليدية والبالية والموروثة من فترة الاستعمار . وبالرغم من الاختلافات العميقة بين توجهاتهم الاقتصادية الليبرالية لبعض الدول والاشتراكية للبعض الآخر فقد أقدمت كل الدول العربية على برامج تحديث كبرى للهياكل الاقتصادية والاجتماعية البالية . فالاستثمارات العمومية والمؤسسات العمومية والتطور الكبير للبنية التحتية والتحولات الكبرى للهياكل الاقتصادية وتطوير قطاعي الصحة والتعليم قدموا مساهمة كبيرة في تحديث البلدان العربية وتغييرها بطريقة جذرية . وقد كان لعملية التحديث دور سياسي واجتماعي كبير جدا باعتبارها كانت وراء ثورة اجتماعية هامة بمساهمتها في تراجع الفقر والتهميش وظهور الطبقة الاجتماعية المتوسطة وتأثير التحديث لن يقتصر على الجانب الاقتصادي والاجتماعي بل سيمتد إلى الجانب السياسي ليساهم في مشروعية الدولة الحديثة في المجتمعات العربية وتراجع وانحسار كل الانتماءات الأخرى القبلية والاثنية . لكن هذا التحديث سيكون بدون حداثة حيث سيقتصر المشروع العربي على تحديث الهياكل الاقتصادية والاجتماعية دون الدخول في الجوانب السياسية وإعطاء الديمقراطية واحترام الحريات دورها في بناء التجربة السياسية العربية . فالعقد الاجتماعي السائد في اغلب البلدان العربية اعتمد على هذا التبادل بين الشعوب والسلط وأنظمة الحكم في التمتع بالتنمية والصعود الاجتماعي مقابل الانسحاب من الشأن العام والعزوف عن العمل السياسي والتمتع بالحريات .
إلا أن هذه الأساس الهام للنظام العربي سيدخل في أزمات كبيرة ومتكررة منذ السنوات 1980 حيث عرفت أنماط التنمية في اغلب البلدان العربية بداية انكساراتها وتراجعها .
فالبلدان النفطية عجزت بالرغم من جهودها والاستثمارات الكبرى التي قامت بها في الخروج من الاقتصاد الريعي وفي تخفيض تبعيتها للنفط والغاز الطبيعي. فبقي النمو وعملية التحديث مرتهنين بتطور الأسعار العالمية وحركة الأسواق العالمية .
أما البلدان غير النفطية ولئن قامت بعد الاستقلال بجهود كبيرة لبناء اقتصاد وطني من خلال تنويع الهياكل الاقتصادية وتطويرها . إلا أن هذه المشاريع ستعرف تراجعا كبيرا لتبقى البلدان العربية حبيسة الصناعات التقليدية وعاجزة عن دخول عالم الصناعات الذكية أو الصناعة 4.0.
وتتالي هذه الأزمات سينتج البطالة والتهميش وتنامي التفاوت الاجتماعي والفقر في كل البلدان العربية وستساهم هذه الأزمات الاجتماعية في ضرب التحديث والذي كان لعقود طويلة احدى ركائز النظام العربي للدولة الوطنية .
يشكل حلم أو أسطورة الوحدة العربية الركيزة الثالثة للمشروع العربي اثر الاستقلال ولم يكن هذا المشروع وفكرة الوحدة العربية مقتصرا على التيارات السياسية القومية الناصرية والبعثية بل اشتركت فيه اغلب التيارات السياسية حتى الليبرالية منها والمنظمات الاجتماعية والشعوب العربية بصفة عامة .لقد كانت هناك قناعة اشتركت فيها قطاعات بأن الوحدة العربية هي شرط ضروري لتحرير فلسطين ولتحسين شروط انخراطنا في النظام العالمي .
وشكلت فكرة الوحدة العربية ركيزة أساسية واحد محركات النظام العربي إلى حدود التسعينات في القرن الماضي وانطلاق حرب الخليج الأولى . فكانت هذه الفكرة وراء خلق عديد المؤسسات العربية (ومن ضمنها الجامعة العربية) التي ستدفع العمل العربي المشترك في عديد المجالات كالسياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي .
وقد ظهرت كذلك في هذه الفترة عديد البنوك والمؤسسات المالية المشتركة والتي ساهمت في دفع الاستثمارات بين البلدان العربية . كما قامت البلدان العربية بإمضاء عديد الاتفاقات في المجال التجاري ساهمت في دفع التجارة البينية بين البلدان العربية . كما عرفت حركة العمالة تطورا كبيرا بين البلدان العربية وخاصة تجاه البلدان النفطية .
ولئن لم نتمكن من بناء وحدة عربية فإن هذا المشروع ساهم في دفع التعاون والتكامل الاقتصادي بين البلدان العربية ولعب دورا كبيرا في دعم النظام العربي للدولة الوطنية . إلا أن هذا الحلم وهذا المشروع سيشهد هزيمة كبرى منذ حرب الخليج ودخول العراق للكويت .ومنذ بداية التسعينات ستتوالى الانتكاسات لهذا المشروع مع تطور الخلافات بين البلدان العربية لتصبح فكرة الوحدة العربية حلما بعيد المنال .
أما الركيزة الرابعة للنظام العربي فهي احتكار العنف الشرعي (monopole de la violence légitime) من قبل الدول والأجهزة الرسمية التابعة لها . وبالرغم من حركة القبائل بين الحدود ومسالك التهريب فإن الدول العربية نجحت في منع تداول السلاح لتبقى الدول هي المسؤولة على الحفاظ على الأمن العام وأجهزتها الوحيدة القادرة على حمل السلاح. وكانت قوات الثورة الفلسطينية هي الوحيدة التي سمح لها برفع السلاح في الأردن إلى حدود حرب أيلول (سبتمبر) سنة 1971 وفي لبنان وبعض بلدان تواجد القوى الفلسطينية . ولكن حمل السلاح لقوات الثورة الفلسطينية كان مسموحا به من اجل محاربة العدو الإسرائيلي ولا يمكن بأي حال من الأحوال توجيهه إلى السلط المحلية .
إلا أن هذا المبدأ الأساسي للنظام العربي سيتراجع منذ حرب الخليج حيث ستعرف كثير من البلدان العربية تداول وتكديس الأسلحة من قبل عديد المجموعات ومن ضمنها المجموعات الإرهابية والتي ستوجهها نحو الدول . وستشهد هذه الظاهرة تطورا كبيرا اثر ثورات الربيع العربي وتطور الحروب وتراجع سيطرة الدول على أراضيها . وستساهم حالة الفوضى وتراجع الدولة في تطور التنظيمات الإرهابية كتنظيم داعش الإرهابي والتي سترفع التحدي ضد الدولة الوطنية والمركزية إلى حد بناء دولة موازية على أجزاء كبيرة من العراق وسوريا .
ساهمت نهاية احتكار الدولة للعنف الشرعي في نهاية فترة الاستقرار والسلم التي نجح النظام العربي في ضمانها . وفي المقابل شهدت نموا كبيرا للإرهاب والعنف وانعدام الأمن .
الركيزة الخامسة والإستراتيجية للنظام العربي تخص الأهمية الإستراتيجية للمنطقة في النظام العالمي . وتكمن هذه الأهمية في سيطرة البلدان العربية على مصادر الطاقة من بترول وغاز طبيعي واللذين شكلا ركيزة النظام الرأسمالي والصناعي العالمي منذ بداية القرن العشرين وستعطي منظمة الأوبيك التي ستسيطر عليها البلدان النفطية العربية صورة لهذه الأهمية الإستراتيجية للمنطقة .
وسيتدعم هذا الدور اثر حرب أكتوبر 1973 وقرار البلدان العربية حظر النفط على العالم وإيقاف صادراتها للأسواق العالمية .
وكانت هذه الأهمية الإستراتيجية للبلدان العربية وراء اهتمام الدول العظمى كالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي سابقا وروسيا اليوم وأوروبا بالمنطقة . وقد نجحت البلدان العربية في الاستفادة من هذا الموقع لتحسين قدرتها التفاوضية وبصفة خاصة فيما يخص القضية الفلسطينية .
إلا أن هذه الوضعية بدأت تتغير بطريقة دراماتيكية ولعديد الأسباب ومن ضمنها تراجع دور الأوبيك وتطور الطاقات البديلة . ساهمت هذه التطورات في تراجع الأهمية الإستراتيجية للمنطقة العربية في النظام الدولي وفي اهتمام العالم بالقضايا العربية .
وفي ظل هذا التراجع أصبحت عديد الدول لا تتوانى عن اخذ أكثر القرارات الأكثر ضربا للمصالح العربية كالقرار الأخير للإدارة الأمريكية وللرئيس ترامب بدعم ضم الجولان لإسرائيل .
إن وراء الإحباط والعجز العربي يكمن انهيار النظام العربي الموروث من حركات التحرر الوطني والدولة الوطنية . فركائزها الخمس تهاوت ولم تعد قادرة على حملها أمام التطورات الكبرى التي عرفتها المنطقة والعالم. فنهاية الاستبداد والتهميش والفقر وتصاعد التفاوت الاجتماعي وانفلات العنف من عقاله ونهاية اهتمام العالم بالمنطقة هي مظاهر لحالة الفوضى والانهيار التي تشق العالم العربي والتي تفسر حالة الإحباط واليأس والخوف التي تسود المنطقة .
لقد حان الوقت للخروج من هذه الوضعية ومن اجل بناء نظام عربي جديد من اجل رفع التحديات الإقليمية والعالمية . ولكن بناء هذا النظام الجديد يمر حتما عبر بناء تحالفات والتقاء سياسي واجتماعي جديد من اجل بناء مشروع عربي ديمقراطي تعددي ومنفتح على الآخر يعيد لنا نخوة الانتماء لهذه المنطقة وقدرتها على المساهمة في بناء المشروع الإنساني.