عسى أن تكون سنواته القادمة في تونس سنوات الحرّيّة والمواطنة وقداسة الإنسان.
حين تُقبِل على قراءة كتاب «يوم جاؤوا لاعتقالي» لهادي يحمد تجرّد من «محيط» الإيديولوجيات المحنّطة، ومن «محيط » الأفكار الجامدة التي تخنق، و«أحْرِمْ» فأنت في حضرة «الإنسان» وكفى. كُنْ متديّنا، أو مثْليّا أو بهائيّا، كوني أمّا عزباء أو لا دينيّة. كوني كما شئت، وكوني كما ترغبين، فأنتَ/ أنتِ قبل ذلك وبعده ودونه وفوقه «إنسان». هذا الكتاب انخراط فعليّ آخر في قضايا الإنسان/ المواطن يضيفه هادي يحمد إلى كتابيه السابقين «تحت راية العقاب» و«كنت في الرقّة»، وقد كانا بدورهما شهادتين على مراحل تاريخ تونس الراهن وهي تصارع الإرهاب الرافع لرايات الدين والهويّة. وهذا الكتاب شاهد بدوره على حلقة أخرى من صراع ضدّ إرهاب من نوع آخر، ذلك الإرهاب الموجّه ضدّ الإنسان الفرد الحرّ المسؤول المقاوم لكلّ أشكال القهر السلطوي، المكابد في طريق وعر وشاق يسلكه نحو المواطنة الحقّ، ونحو الوطن الحقّ، فالوطن «ليس مجرّد مكان نستوطنه بل هو كلّ الفضاء المعنوي الّذي يجعلنا أحرارًا متساوين في الحقوق والواجبات» (ص18). لن يكون الوطن فضاء معنويّا بهذا المعنى إلاّ باكتساب الحقوق كاملة دون تجزئة أو نقصان تحت أيّ شعار أو تعلّة، ولن يتحقّق ذلك إلاّ بتحرّر المجتمعات، وهو تحرّر يذهب هادي يحمد دائما إلى أنّه «يمرّ عبر تحرير الأفراد» (ص16). إنّ الفرد هو الأصل وليست الجماعة وعلينا قلب الصورة التي رسّختها الأعراف والتربية والثقافة والسلطات بأشكالها.
إنّ الحرّيّة، القيمة الّتي لا تتجزّأ ليست قيمة للتغنّي بها أو التنظير لها، ذلك أنّ «نظريّات الحريّة في المجلّدات والمنشورات والكتب تحتاج دائما إلى امتحان عمليّ في الواقع، الواقع أحيانا أكثر إخبارًا بحقيقة الأفكار ونظريّات الكتب» (ص89). كذا قالت رجاء الشامخ، الأمّ العزباء، وقد اختارت طريقها بوعي كامل، فرفضها الجميع، حتّى أولئك الذين ظنّت يومًا أنّهم من «الرفاق» وحملة هواجس الحرّيّة وألوية الحداثة والتقدّم. لم يكن الوطن بالنسبة إليها وإلى كثيرات مثلها، فضاءً معنويّا يكنّ فيه حرّات، فتركته وأطلّت عليه من شرفة باريس تراقب امرأة أخرى تعادي امرأة مثلها منكِرة حقّها في المساواة التامّة.
الواقع نفسه كان دائما «كالصخرة الواقعة على فم النهر، لا تشرب ولا تترك الماء يخلص إلى الزرع». اصطدم حسّان الدريدي بصخرة المجتمع وأصبح «حسّان مريّة»، ولم يغفر له المجتمع تكوينه الهرموني وكأنّه اختاره اختيارا، فاندفع باحثا عن نفسه في صالونات حلاقة النساء، وفي الليالي الحمراء، وفي جماعة الدعوة والتبليغ أيضا. عبثا كان سعيُه، فقد حالت دون ذلك السلطات المختلفة، فلا "العربدة" أفادت، ولا «التديّن» كان ملجأ آمنا، وانتهى به الأمر إلى بحث من نوع آخر، كان عليه أن يثبت يوميّا أنّه ليس إرهابيّا، وأنّه لا ينوي تنفيذ عمليّة انتحاريّة. كان عليه أن يمضيَ صباحا ومساءً على ذلك ليدخل «سجنًا» من نوع مخصوص يُدعى «الرقابة الإداريّة».
السجون كثيرة، وقد تدخلها وتُفرض عليك فرضًا، ومن السجون ما هو رمزيّ ولا يبقى من أحلامك إلاّ الخروج منه. قد تدخل السجن وأنتَ رافض القانون 230، رافض لـ «قيس شرجيّ بالمليمتر» (ص67) تماما مثل نضال بالعربي. كيف لك أن تكون مواطنا حقّا في وطن يفتّش فيه في الشروج؟ ويصبح فيها العقاب تشفّيّا وعلى ملفّك عبارة «اللواط» تقودك مباشرة إلى «الكرّاكة». لن تجد حلاّ آخر سوى الهروب من بلاد توهّمتَها «وطنا».
لا يُفتّش هنا في الشروج فحسب وإنّما في الضمائر أيضا، فتضطرّ إلى العيش في «السريّة علانيّة» فالعيش في السريّة من معانيه «هو أن تثبت للآخرين كلّ يوم أنّك واحد منهم دون أن تمكّنهم من أن يلجوا حديقتك السريّة» (ص 105). ما الذي يعنيه أن يُحكم عليك بما يُسمّى «الردّة» في بلد يقول إنّه «وطن»؟ ما تعتبره أنت اقتناعا فرديّا وحرّا سيُعتبَر لدى السلطة بمختلف أشكالها «ردّة» تهدّد «الانسجام والوحدة وتزرع بذور الفرقة». ضميرك ليس مهمّا، المهمّ أن تكون «منسجما» وإن شكليّا مع بقيّة المجتمع: أنت تونسي إذن أنت مسلم بالقوّة، ليس من حقّك أن تكون مختلفا عقائديّا وأن تعلن اختلافك، ليس من حقّك أن تختار دينك واعتقادك، كذا قالت السلطة بشكل أو بآخر لمحمّد رضا بن حسين، وقد اختار أن يكون بهائيّا. فلتَكُن بهائيّا، ولكن في السريّة حتّى مع زوجتك وقد فتحت لها قلبك وتوهّمت أنّها مستودع أسرارك. على هذه الأرض، أن تكون فرْدا فهذا يعني أن تكون وحيدا مفرَدا «إفراد البعير المعبّد» خوفا على بقيّة «القطيع» من العدوى. كن وحيدا وإلاّ أذاع أقرب النّاس إليك سرَّك إلى المفتي فيحبّر فتواه ويحكم القاضي بتطليقك من زوجتك. ستتحالف ضدّك السلطة الدينيّة والسلطة القضائيّة وزوجتك وتصبح «مرتدّا». فلا تثق إلاّ بنفسك في مجتمع يمقت المختلف مقتا شديدا، ويضطرّه إلى دفن موتاه «بخوف وسريّة وتقيّة» (ص123).
جرّب الآن أن تختار شيئا آخر. لا تختر دينا اقتنعت به، اختر أن تكون لا دينيّا مثل رحمة الصيد. حتّى وإن اخترت ألاّ تعبد شيئا سيجعلونك من «عبدة الشياطين»، المهمّ أن تكون عبدا لقوّة ما.
إيّاك أن يخطر ببالك يوما أنّ ذلك «لا يحدث إلاّ للآخرين» فقد يُطبّق عليك يوما الفصل 121 من المجلّة الجزائيّة الّذي ينصّ على معاقبة من ينال ممّا تعتبره المجلّة «أخلاقا حميدة» (ص133). تلك الأخلاق الحميدة التي بإمكان كلّ أحد أن يصنّف ضمنها أيّ شيء ولو كانت شربة ماء في نهار رمضانيّ، أو فتجان قهوة يمنعه عنك منشور جويلية 1981، ولا يغرّنّك أنّه منشور فقد بيّن الواقع إلى حدّ الآن أنّه أقوى من دستور جانفي 2014 وفيه الفصل السادس الذي ينصّ على حريّة الضمير.
لا تقل مطلقا «هذا لا يحدث إلاّ للآخرين»، فقصص «يوم جاؤوا لاعتقالي» الخمس قد تكون إحداها قصّتك أنتَ وتجد نفسك مثل مارتن نيمولر، يوم جاؤوا لاعتقاله، وحيدا لم يدافع عنه أحد لأنّه لم يدافع عن الشيوعيّن لأنّه ليس شيوعيّا، ولا عن النقابيّين لأنّه لم يكن نقابيّا، ولا عن اليهود لأنّه ليس يهوديّا. كذا صدّر هادي يحمد كتابه بقول نيمولر في إشارة إلى أنّ الدفاع عن الحريّة لا يكون إلاّ من منطلق الإيمان بها وليس لأنّها حدّ من حريّتك الذاتيّة. إذا لم تعتبر حرّيّة كلّ إنسان هي حريّتك أيضا وعليك الدفاع عنها ستقول يوما مَا «أُكِلتُ يوم أكل الثور الأبيض». الحريّة لا هويّة لها ولا انتماء ولا دين ولا لون ولا عرق، هذه هي الرسالة من وراء القصص، فهي ليست قصصهم بل قصصنا نحن جميعا في بلد نريده وطنا، وفي مجتمع نريده لمواطنين أحرار حقّا تعلو فيه قيمة الفرد الحرّ الذي لا ينبذ ولا يُعاقب من أجل قناعاته الشخصيّة التي تهمّه وحده.
هذا كتاب يشكّل لبنة أخرى من لبنات الدفاع عن الحريّات الفرديّة انطلاقا من الواقع لا من التنظير، هو دفاع هنا، في تونس التّي تحلم بأن تترسّخ فيها مجلّة الحريّات الفرديّة والمساواة، وتُلغى فيها كلّ القوانين والمناشير والأوامر التي تحدّ من المواطنة والحريّة والفرديّة، تونس التي حلمت بها أجيال ودعت إليها نساء ورجال نعترف بفضلهم ونهدي إليهم ما نكتب، وقد أهدى هادي يحمد كتابه إلى نورة البورصالي.